اتصل بي العلامة المرحوم الدكتور السفير محمد حسن كامل من باريس ض ليقول :
انا متابع لما تنشر من شعر واحب ان اكتب لك مقدمة لاحد مجموعاتك الشعرية مع اني لم اكتب لاحد اطلاقاً. وكم كان سروري كبيرا بذلك.
قلت له دكتور لدي مجموعة شعرية تحت مطابع القاهرة باسم أبناء الشيطان. ثم أرسلتها اليه.
فكتب رحمه الله ( فرات الشعر).
فرات الشعر
بقلم سفير دكتور محمد حسن كامل
رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
www.alexandrie3009.com
الأدب العراقي يرفل بمزيد من صور الإبداع الإنساني, هذا الإبداع الذي يصور محاكاة الفكر الإنساني لقيم الحق والخير والجمال من زوايا سقوط البحث عن سر الوجود في إبداع رب الوجود الواحد المعبود
هناك في بلاد الرافدين حيث ولد علم المنطق على لسان إبراهيم الخليل , وحيث سجل لنا القرآن والتاريخ البشري جداريات أدبية من فن المناظرات والحوار , تلك المناظرات التي اتخذت لغة الضاد أداة للتعبير والتقدير وتقرير المصير , بل كانت نفيراً ونذيراً , تخاطب الإدراك والعقل والمنطق لتصل إلى منصة التوحيد لله رب العالمين , ولعل قصة إبراهيم الخليل في مواضع عدة في القرآن الكريم تلقي بحزمة من نور تضئ الحاضر من الزمن البعيد .
ومما لاشك فيه أن الأدب يُعتبر فصيلة دم الشعوب , إذا أردت ان تعرف شعباً , عليك أن تطل عليه من نافذة الأدب , حيث ينقل لنا الأدب خلايا العمل الأدبي كاملة , أحداث وشخصيات ومواقف وتواريخ وعواطف , الادب ينحت على جدار التاريخ أصدق دراسة عن العصر وبكل فراسة .
لقد سجل أهل الرافدين أفراحهم وأتراحهم , أحلامهم وهمومهم , حياتهم وموتهم , كل شيء يخصهم , كان هذا التسجيل شهادة على العصر تعكسها تلك القوالب الطينية التي يرجع تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد أبان الحضارة السومرية , تلك الحضارة التي عكست عراقة شعب وفكر وأدب ساهمت كثيراً في تصحيح مسارات الطريق في العصر الحديث
لقد ظلت بلاد الرافدين في الضمير العربي , قلعة سخية يافعة من قلاع الشعر العربي , تحفظ للعربية حلتها وأناقتها وبلاغتها عبر الملاحم والأساطير التي تروي بفرات الشعر أسطورة شعب , وتاريخ وطن .
ولعل ملحمة جلجامش تعكس روعة الدراما والبحث عن سر الخلود .
إن ذاكرة الثقافة العربية تعي بوضوح تلك الومضات الأدبية التي زينت الحركة الشعرية في الفيحاء الناضرة من العراق .
إن التاريخ يطل علينا من تراث شعري عريق أنيق , أرتع في رياضه , وأتنفس اريجه , واتخذ حلة الفخر من ضفاف دجلة وشفاه الفرات .
وعل درب العطاء الثقافي الزاخر الوافر يواصل الفيض شاعرنا
(( عبد الجبار الفياض ))
عضو اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
هذا الشاعر الذي يتنفس الشعر , والشعرُ يتنفسه , بين شهيق التجربة وزفير الإبداع , ليرتقي على منصة الشعر , بمداعبة وملاعبة
بين مد وجز , بين زبد البحر وجزر الشعر , هاهو في هذا الديوان يطل علينا بتلك الومضة الإبداعية :
وطني أيهّا النّبيّ
دعِ القداسةَ تطفو على سطحِ مُحياك . . .
منكَ توهّجَ الطّينُ حروفاً
وبكَ تخطّى الوجودُ مساحةَ العَدَم
واليكَ تُشدُّ الرِّحال . . .
فأنتَ نبيّ . . .
ورسالتُكَ في الحبِّ
حملتْها أمواجُ عشقٍ مُتكسّرةٌ
على شواطئِ الخلود . . .
ولوّنتْها في صحائفُ الألقِ
أجنحةُ الضّياء . . .
رسالة لهذا الوطن الذي ربما اكونُ قد أسرفت في الحديث عنه , الوطن هو القصيدة , والقصيدة هي الوطن , الوطن نبي ولاسيما إن كان الوطن خليلاً وأباً لكل الأنبياء
بهذا المطلع والمقطع ينعش شاعرنا الذاكرة , ذاكرة مقدسة , ذاكرة نبي , تُشد إليه الرحال بعد كل رحلة وترحال , وطن يحج الناس إليه بشعائر الحب السرمدي لله الواحد المعبود .
شاعرنا يؤجج مشاعر الحب في القلوب , لتعبر الحدود والقلاع والجبال والسدود , فوق الألوان والأحلام والقارات واللغات , ينتقل من المحلية الضيقة ذات الأزقة , إلى العالمية الرحبة الواسعة .
نعم كل وطن نبي , النبي هو الوطن ...هو الأمن.... .السلام.... .النور. ..... وهذا ما يحلم به شاعرنا الفياض عبد الجبار الفياض .
الشاعر هنا يسجل شهادته على العصر ولاسيما في الوقت الحاضر
تلك الشهادة تجعل شاعرنا يقفز بنا في :
صحراء الوهم فيقول :
صحراء الوهم
تأكدتُ أنَّ غبائي
كحذائي
لهُ قيمةُ اللؤلؤ في مجاهلِ البحار . . .
سمْسمٌ
يفتحُ الآفاقَ في وجهِ اللّصوصِ . . .
في تسلّقِ البعيد
والطّوافِ حولَ صَنمٍ
ماتَ لتوّهِ
ووضعَ لسانَهُ بلسانِ كلبٍ
وتنفّسَ . . .
إنّهما مَعَاً
يلهثان . . .
مطلع صارخ ساخر مستفز , بفعل ماضي يحمل دمغة التوكيد والتأكيد في لفظه ورسمه (( تأكدتُ )) مسنداً إليه تاء الفاعل , أما مادة التأكيد هي (( غبائي )) وبلاهتي وكأنه يصطحبنا في مغارة (( على بابا )) تلك الأسطورة القديمة التي تعكس خيوط الصراع بين الخير والشر , ببساطة شديدة لتفرج عن حكمة تطفو فوق سطح الأحداث قبل أن تنزل ستارة النهاية في مسرح الحياة .
توقفت كثيراً عند قوله (( كحذائي ))....هناك مشبه ومشبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه , تلك الأركان تؤكد التشبيه من الدرجة الأولى وكنت أتمنى ان يحذف الشاعر أداة التشبيه لتصل إلى قمة البلاغة والروعة , وعلى كل حال يفتح سمسم المغارة والعالم السحري , وتنعكس الأضواء اللامعة على كنوز لا حصر لها تحت أقدام اللصوص...... وأي لصوص .....!!
حينما تموت أحلام الشاعر على ظهر سلحفاة عجوز......في هذا البيت :
على ظهْرِ سُلحفاةٍ عجوز
أي بلاغة صارمة تعكسها تلك الرؤية , من أي زاوية تُرى , من أين أتت...؟ وإلى أين تذهب تلك العجوز بأحلام في صحراء الوهم ...؟ يستطيع القارئ والمتذوق للشعر أن يلهث ليلحق بركب تلك القاطرة من سلحفاة حلم .....أم حلم سلحفاة في كثبان الوهم .....!!
صُلِبَ الجوعُ من أُذنيْه
على بواباتِ أحياء
تقتاتُ نهاياتِ الأشياء
لم تمسسْها يدٌ من سُلطانٍ
قط . . .
وما شهدتْ عرباتِ اللّونِ الأسود . . .
الأشياءُ هنا
تولدُ
بلونِ العِشق . . .
ولا تعرفُ رقصاً بأكفانِ الموتى . . . !
بهذا المقطع يرصد شاعرنا الواقع بكل ما فيه من ألم بهذا الفعل المبني للمجهول
(( صًلبَ الجوع ُ من أذنيه ))
استعارة بلاغية جسدت قسوة الواقع ولاسيما من ثورة الجياع الذين ثاروا وصلبوا الجوع , ويتألق الشاعر في نحت جدارية الثورة بفن تشكيلي يعكس ظلال الصلب بمسامير تدق في الأذن ليتدلى منها جسد الجوع على صليب الفقر .....!!!
وتزداد الصورة بؤساً حينما يقول : تقتات نهايات الأشياء......أي اشياء بالية يكون هذا القوت ......؟ صورة صادمة للعقل والخيال
وكأن الشاعر يستفز خيال القارئ بثورة تجسد واقع شعب ينزح تحت ويلات الجوع والفقر . ويزيد استفزازه بقوله : لم تمسسها يدٌ من سلطان قط .. .!!
هنا يحاول الشاعر أن يتماسك وأظن انه لن يتماسك أمام عروس الشرق , (( بغداد )) حينما قال :
لو بكتْ بغدادُ
بكتْ من الملائكةِ عيون. . .
وعصبتِ الشَّمسُ عينيْها . . .
وأطفأَ القمُر شموعَ عُرسِه . . .
وتدلتِ الثـُريا بحبالٍ منْ ألم . . .
ومنعَ دجلةُ أمواجَهُ من صُنعِ أسورةَ حُسنٍ
لضفافِه . . . !
وتكورتِ الحروفُ نقطةً سوداءَ
في أبجديةِ الزّمنِ المُنكسر . . .
رُفعتِ الأقلامُ . . .!
يبدأ قصيدته بهذا الحرف (( لو )) وهو حرف يفيد امتناع الجواب لامتناع الشرط كأنما يريد أن يعايش الحدث قبل وقوعه للتحذير والنذير في الجواب بالأفعال الماضية التي تجسد المأساة (( بكتْ , وعصبتْ وأطفأ وتدلت , ومنع وتكورت وأخيراً رُفعت )) هذا التسلسل يجسد الحدث بكل مفاصله وتفاصيله , الأمر الذي يجعلنا رؤية شريطاً من الأحداث يمر ببطيء شديد على شاشة العقل , ينحت بقسوة تعاريج الزمن على وجه صبية فتية ندية تدعى (( بغداد ))
لقد أفاض شاعرنا (( عبد الجبار الفياض )) بفيض غزير , جمّع فيضه للبحث عن الحرية والحق والخير والمساواة , وهو بهذا المنحى , لحق بقاطرة الأدب العالمي من محلية الزمان والمكان والأحداث واللغة , إلى عالمية اوسع وأرحب حيث الاهتمام بالإنسان
كونه إنسان , بغض النظر عن دينه أو لغته أو عرقه .
لقد تميز الديوان بمواكبة نبضات التاريخ المعاصر الذي ضُبب فيه المشهد , وتداخلت فيه الأحداث , وظهرت فيه بقع الدم الداكنة التي تحصد كل يوم ضحايا وشهداء.....!!
لقد قرأ شاعرنا بدقة كل المعطيات المطروحة على شاشة الحدث ليغذي ذاكرة التاريخ بهذا الديوان .
تميز هذا الديوان بسرعة الايقاع في الانتقال بين صورة وأخرى , دون ان يشعر القارئ بهذا الانتقال , بالإضافة إلى نقاء الصورة في شاشة الخيال من خلال توظيف الألفاظ للغرض المرسوم لها .
دلالة الكلمات في هذا الديوان جعلت القصائد تعبر حدود الزمان والمكان لتلقي بظلالها على واحة الإبداع .
كلمة أخيرة :
الإبداع في نظري هو فن صناعة الدهشة دون تقليد بفن جديد لأطول مدة ممكنة بقيم الجمال والكمال والجلال.......!!!
هل استطاع شاعرنا تحقيق تلك المعادلة الصعبة .....؟
هذا ما ستكتشفه أنت عزيزي القارئ ......!!!
بقلم السفير الدكتور
محمد حسن كامل
رئيس اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
باريس 15 نوفمبر 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق