السبت، 12 فبراير 2022

محمد جمال فايد

 ...............مع السلامة............

مع السلامة ياعام فقدنا فيه





....أعز الناس وبخل علينا بسروره 

وغرس الحزن في نفوسنا 

..... وكنا بنستعجل رحيله ومروره

لأنه كان قاسي وشديد ومافي

....بيت إلاوبكى على فقده لزهوره 

وشكت المقابر من كثرة

....طلابها فيه ومن تعاليه وغروره

لأنه بيبدأ نهاره بظلام ولاعمره

جاد علينا ببصيص من نوره

فيارب إرزقنا عام جديد

يموت فيه الشر بجذوره

ويعم فيه الخير وتنمو

وتطرح في كل أرضنا بذورة

ويكون خالي من الإرهاب في

أعياده و أيامه ولياليه وشهوره

وأهل الشر فيه يرحلوا من

من كل بقاع الأرض ويغوروه

وفيه نحج حج مبرور 

وذنب مغفور 

ونتوجه لقبر الرسول

 ونزوره

بقلم الشاعرمحمد جمال فايد


........جمهورية مصر العربية.........

.كفر شبرا زنجي الباجور منوفية....

الجمعة، 11 فبراير 2022

مجدالدين سعودي // المملكة المغربية .

 (ناس الغيوان علال)

 في أغنية جديدة .

بعنوان : "وا..حياني عليكم  ..أ...الناس".

 في ذكرى رحيل العربي باطما : لروحه الاستمرارية والوفاء.




---------------------------------------

استهلال

---------------------------------------

تعود الينا مجموعة (ناس الغيوان علال) بأغنية تعيدنا للزمن الجميل وهي بعنوان :  ( وا....حياني عليكم ..أ..الناس)

 إحياءا لذكرى وفاة العربي باطمة.

أغنية :  (وا...حياني عليكم أ..الناس) 

الوفية لنهج ناس الغيوان . السبعينات والثمانينات بكلمات موحية وصادقة وموسيقى غيوانية صرفة وأصوات شذية وعذبة وألحان غيوانية مئة في المئة.


1) الموال والغيوان :

---------------------------------------

يعتمد ناس الغيوان في بداية أغانيهم على الموال 

وهو كما جاء في موقع الموسيقى العربية الالكتروني

 اصطلاح : 《 " موال" يطلق في الحقيقة على أكثر من شكل من أشكال التعبير الشعبي الغتائي....

 ...الموال من القوالب الغنائية التقليدية ... 》.

والموال فن غنائي شعبي شائع في أغلب البلاد العربية ... فهو لون من الأدب الشعبي، يظهر قدرات المغني ومساحته الصوتية، وامكانية  التطريب والقدرة على الابتكار . 

ويؤدى الموال عادة اما بطريقة السرد الالقائي Parlando   أو بطريقة السرد الغتائي Recitative وكلاهما يؤدى منفردا ... 1)

والموال عند ناس الغيوان هو فاتحة الأغنية وبدايتها

في هذا الموال الشجي،توجه مجموعة (ناس الغيوان علال) خطابها للناس الذين آلموا القلب بأفعالهم الدنيئة:

(واحياني عليكم الناس

فعايلكم ما درتو لقياس

ضريتوني ف قلبي يا هاد الناس)

والقلب مفعم بالألم والضرر والألم.

ومع هذا فرغم قساوة أفعالهم، فأحوالهم البائسة تبكي :

( حالكم بكاني

وحالي عايش فالوسواس

يا ناس)

ان الذات الشاعرة والغنائية تحمل همومها وهموم الآخرين:

(ما حيلتي لهمي

ما حيلتي ليكوم)

ولهذا تعيش الذات الشاعرة في  حيرة :

(ولمن نعطي الراس يا ناس)

لكن الغريب في الأمر:

(واللي نخطو هبال

تلبسوه نتوما بلقياس)


---------------------------------------------------------------------

2) الضر :

-----------------------------------------------------------------------


القلب الغيواني حزين وعليل ويعيش ضررا كبيرا بسبب أفعال الناس التي تتخذ في الأغنية الغيوانية طابعا قدحيا:

(حسيت بضر قلبي

ضرات بيه فعايل الناس)

والذات الشاعرة وحيدة ومذبوحة:

(حسيت بضر قلبي

ضرات بيه فعايل الناس

زماني ما هو جنبي

بفعايلهم مذبوح من الساس)

الزمن عند (ناس الغيوان علال) شبيه بدوران الأيام، وزمن الذات الغيوانية زمن منفلت، هارب من صاحيه بسبب أفعال الناس، لهذا يختتم المقطع الغيواني بالعنوان الصرخة:

(واحياني على الناس

واحياني

حسيت بضر قلبي)


---------------------------------------

3) الشكوى :


أحوال الذات الشاعرة سيئة: هموم، أهوال، أحزان، وأحوال هذه الذات الحزينة مجروحة بالسكاكين:

(وشكيت بحالي ليامي

حالي مجروح بالماس)

والأيام في أغنية (ناس الغيوان علال)، هي تراكم تجارب، فهي مرآة للذات الإنسانية التي تبثها الشكوى.

والشكوى كما يلخصها لنا ابن حزم الأندلسي: (فإن الهمومَ إذا ترادفت في القلب ضاقَ بها، فإن لم يَفِضْ منها شيءٌ باللسان، ولم يُسترَح إلى الشكوى لم يَلبَث أن يهلك غمًّا ويموت أَسَفا.)

كما يختتم هذا المقطع الغنائي بنفس الصرخة العنوان: 

(واحياني على الناس

واحياني)


----------------------------------------------------------------------

4 اانواح :

-----------------------------------------------------------------------


يكتب نزار قباني عن النواح والألم قائلا: (وما بين فصل الخريف، وفصل الشتاء، هنالك فصل اسميه فصل البكاء تكون به النفس أقرب من اي وقت الى السماء.)

تلتجئ الذات المجروحة الى النواح كوسيلة لتفجير كل الأحوال السيئة والأهوال المعاشة:

(نوح يل قلبي نوح

على قلة المحبة ما بقات

غير لجروح)

ولهذا يكتب الفنان المبدع: (على المرء ألا يخجل من البكاء، الدموع هي مطر يسقط على ترابِ الأرض الذي يعلو قلوبَنا القاسية.)

فانتشرت الكراهية عوض المحبة، ولا نجد بالتالي الا بالجراح ولا شيء غير الجراح.

فتأتي صرخة الغيوان على الشكل التالي:

(نوح يا قلبي نوح

لمن تشكي بضرك

لمن غا..... تبوح)

--------------------------------------------------------------------------

خاتمة :

-----------------------------------------------------------------------

(وا ..حياني..  عليكم أ.. الناس)..

انها صرخة مجموعة 

(ناس الغيوان علال)،

 صرخة مدوية على ناس الكراهية والغدر والنفاق، صرخة ضد الواقع المأزوم، صرخة في وجه الجراح والطعنات.

وتبقى (مجموعة ناس الغيوان علال)،

 رغم وفاة بعض أعضائها ومغادرة البعض للمجموعة واغناؤها بعناصر أخرى فعالة وقوية، وفية لخط الغيوان المتميز بأصواتها المبحوحة والقوية وآهاتها وموالاتها وأسلوبها الغنائي الفريد واعتمادها دوما على نفس الآلات الموسيقية البسيطة:

 (البانجو والهجهوج والطامطام والبندير ).

وخير ما نختم به ما كتبه يقول الكاتب المغربي عبد الله الحيمر في هذا الصدد: “صرخوا صرخة الاحتفالية الغنائية؛ ليعيدوا التوازن النفسي لمخيلة شعب بأكمله. كسروا حاجز الصوت، بالحكمة والكلمة الموزونة، وبالإيقاع الشجي، كانوا منارات تهتدي بها الطبقة المهمشة والمسحوقة في ظلمات الروح، وتكسر الأفق المسدود، وتزرع بذور الأمل والفرح في جسد الذات المغربية. فتحوا أبواب الاحتفالية الغنائية نحو نداءات المستقبل المؤجلة”. 2


--------------------------------------------------------------------------


مجدالدين سعودي. المغرب


--------------------------------------------------------------------


احالات


--------------------------------------------------------------------


1 الموال في الغناء العربي. موقع الموسيقى العربية الالكتروني

2 صدر حديثاً: كتاب “ناس الغيوان خطاب الاحتفالية الغنائية” للكاتب المغربي عبد الله الحيمر عن موقع العالم الآن الالكتروني


------------------------------------------------------------------



عبد الدايم سلامي عن برهان شاوي

 أيّ حديث عن الحداثة لا يقترب من المقدس هو مجرد هراء نظري.


(الفيسبوك يذكرني) باللقاء الجميل الذي أجراه معي الناقد والشاعر والباحث التونسي القدير الدكتور  عبدالدائم السلامي ونشر في (القدس العربي) و موقع (الجسرة)



* نحن، تاريخيا، نعيش فترة مظلمة.


* اللغة الإنشائية المشحونة بالهلاوس الشعرية صارت هي العلامة المسجلة التي تميز الرواية العربية المعاصرة. 


*  للجوائز، على الرغم من إشكالات لجانها وقيمتها،  جوانب إيجابية، فهي في بعض دوراتها كشفت عن أسماء أدبية ممتازة لم يعرفها أحد سابقاً. كما أنها ساهمت وروجت لفعل القراءة الأدبي.


* استدعاء الأساطير الدينية في (المتاهات) ليس لمناقشة الدين فقط وإنما لمناقشة سؤال الحرية والإرادة والخير والشر ومفهوم الخطيئة.


* إن الجنس هو القوة الغامضة التي تقود الإنسان على الرغم من تحريمات الأديان والفلسفات الأخلاقية له باعتباره خطيئة، علماً بأن اليوتوبيا الدينية، على الأقل في الإسلام، هي يوتوبيا جنسية بامتياز، فحتى النص المقدّس يغري الإنسان بالجنس في الجنة، مقابل العبادة والطهرانية الأرضية. 


* حين أكتب لا يهمني القارئ ولا المنظومات الأخلاقية الاجتماعية ولا أفكر فيها أصلاً، وإنما تهمني شخصياتي الروائية وصدق التعبير عنها فنياً، ناهيك عن أن اللغة المكشوفة التي استخدمها أثناء الحوار تكشف عن الدلالات النفسية للشخصية كما يذهب إلى ذلك فرويد ولاكان.


* كل شخصياتي الروائية هي شخصيات حقيقية، ومستمدة من واقع هذه الحياة، لقد عرفتُ وقابلتُ أو تحدثتُ مع الشخصيات الأصلية التي منها شكّلت شخصياتي الروائية، وفي الوقت نفسه هي ليست سيرة لأي من هذه الشخصيات التي قابلتها أو عرفتها أو تحدثت معها في الواقع.


* أنا أكتب الرواية المعرفية ذات الأبعاد الفلسفية والنفسية، لا أضع مخططا لروايتي ولا أفكر في أي منهج نقدي أو قالب روائي تحدّث عنه النقاد.


* الأحزاب القومية والاشتراكية اليسارية، نتيجة لتكتيكاتها الساذجة آنذاك ساهمت من حيث لا تدري في محاصرة حركة التنوير الاجتماعي الحقيقية، وأقصد هنا إنها لم تتجرأ على تنوير منطقة المقدس،


* ليس هناك (ربيع عربي)، وأنما اندفاعات تاريخية نتيجة الاستبداد والقمع، لكن هذه الاندفاعات أيقظت الجثث من قبورها لينطلق «الزومبي الأصولي» ليجتاح حياتنا براياته السوداء، وليحول واقعنا إلى كابوس مرعب، 


عبدالدائم السلامي


بُرهان شاوي كاتب عراقي مقيم في ألمانيا، عمل في الصحافة العراقية والعربية منذ عام 1971، اشتغل أستاذا زائرا في كلية الإعلام والمعلومات والعلاقات العامة في جامعة عجمان. أصدر إلى الآن 26 كتاباً في الشعر والرواية والترجمة والفنون والعلوم، منها سبع مجموعات شعرية وعشر روايات. في حواره مع «القدس العربي» يطرح برهان شاوي آراءه في المنجز الروائي العربي وعلاقته بشخصياته الروائية وعلاقة الكتابة الإبداعية بالتاريخ والمقدّس.


■ يؤكد النقّاد وأصحاب دور النشر وجودَ انفجار في الكتابة الروائية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، ما تقويمُك لهذه الظاهرة؟


□ هي ظاهرة انفجار كمي بلا شك، وهي مؤشر على التراكم الذي لابد أن يقود إلى تحول نوعي، وفق قوانين الديالكتيك. شخصيا أراها ظاهرة إيجابية، على الرغم من أن النسبة الكبيرة جداً من هذه الكتب تحمل اسم الرواية، ولا علاقة لها بفن الرواية، هي ظاهرة تراكم في الكتابة الروائية لا أكثر، ولا يمكن التفاؤل أو التشاؤم منها، فقوانين التحول من الكم إلى النوع تسري في الفيزياء وفي الصراع الاجتماعي وكذا في العملية الإبداعية، لابد أن يفرز هذا الكم أعمالاً نوعية.


■ هل يرقى ما هو منشور من الرواية العربية إلى مرقى الكتابة الروائية؟ أم أنّ أغلب ما ينشر منها اليوم إنما هو محاولات إنشائية تحت مسمى رواية؟


□ لا أريد أن أتخذ دور الناقد في تقويم كل هذا الكم الكبير من الروايات العربية، لكنني أستعين هنا برأي ناقد جريء وأكاديمي هو محمد الأمين البحري الذي كتب مقالة جريئة عن «كلامولوجيا الخواطر» والهلوسات الإنشائية، راصداً اللغة الإنشائية المشحونة بالهلاوس الشعرية التي صارت العلامة المسجلة التي تميز الرواية العربية المعاصرة. وبالتأكيد الحديث هنا عن (الهلاوس) لا يمس السرديات الكبرى في الأدب العالمي والعربي، وإنما يمس كل هذا الركام من الروايات التي تعتمد الإنشاء الشعري، الذي تتخلله بعض المقاطع السردية. فالفعل الإنشائي وهلوسات الخواطر هو الذي يطغي على السرد الروائي وبنية الأحداث وزمكان العالم الروائي، وهذا ما يضع فنية الكتابة الروائية أمام السؤال عن مهمة النقد، بل عن فائدة النقد.


■ برزت منذ عقد من الزمان تقريبا ما يمكن تسميته بالرواية الجوائزية، وهي الرواية التي يكتبها صاحبها لنيل جائزة مالية، حتى صار الكتّاب بل ودور النشر والقراء يعيشون حالة هوس بروايات الجوائز. هل من تفسير لهذا الهوس؟


□ هذا صحيح، صار هناك هوس للجوائز الروائية، لكن للجوائز، على الرغم من ذلك جوانب إيجابية، فهي في بعض دوراتها كشفت عن أسماء أدبية ممتازة لم يعرفها أحد سابقاً. كما أنها ساهمت وروجت لفعل القراءة الأدبية، لكن من جهة أخرى أفسدت شريحة ليست قليلة من الكتّاب الذين صاروا يكتبون للجوائز وضوابطها ومتطلباتها. لحظة الجوائز مؤقتة، فمن يذكر أسماء روايات البوكر الفائزة كلها؟


المتاهات


■ لديك عشر روايات منشورة إلى الآن، لكن «المتاهات» هي عملك الأبرز التي تشكل أطول رواية عربية، وهي سبع روايات تحمل أسماء أسطورية: آدم، حواء، قابيل، إبليس، وكما هو واضح أنك تستدعي الأساطير الدينية والمثيولوجيا في سردك الروائي. ما دلالة ذلك الآن؟


□ منذ مراهقتي وأنا مسكون بالبحث عبر الأديان والفلسفات عن سؤال الحرية والإرادة. سؤال الحرية بالنسبة إلي هو سؤال أخلاقي ووجودي في الوقت نفسه، ففي جانبه الأخلاقي يطرح سؤال الشر والخير والعدالة الاجتماعية والبؤس البشري، ومن جانب آخر يضع أسئلة المقدس في المنطقة الحرجة، لاسيما إذا استعدنا مفهوم الخطيئة والشر والعصيان وسيرة آدم، والعقاب الإلهي له، وبالتالي فإنني استحضرت الأساطير الدينية، بدءًا من إشكالية آدم مرورا بقضية الخطيئة وقضية قابيل، الإنسان البيولوجي الأول، متوغلاً في تابو المقدس، أي أن استدعاء الأساطير الدينية ليس لمناقشة الدين فقط وإنما لمناقشة سؤال الحرية والإرادة والخير والشر ومفهوم الخطيئة.


■ رواياتك ممنوعة في بعض البلدان العربية بسبب اقتحامها الثالوث المحرم: الجنس والدين والسياسية، ولنتوقف عند الجنس في أعمالك: أنت تكتب بطريقة فضائحية وبلغة مكشوفة وتتوغل في التفاصيل الخادشة للحياء، وهو ما يسبب صدمة لدى القارئ. لماذا هذا التركيز على الجنس في رواياتك؟


□ أنا أرى أن الجنس هو القوة الغامضة التي تقود الإنسان على الرغم من تحريمات الأديان والفلسفات الأخلاقية له باعتباره خطيئة، علماً بأن اليوتوبيا الدينية على الأقل في الإسلام هي يوتوبيا جنسية بامتياز، فحتى النص المقدّس يغري الإنسان بالجنس في الجنة، مقابل العبادة والطهرانية الأرضية. وحين أكتب مشهداً ما في راوياتي فأنا لا أكتبه على طريقة الأفلام المصرية، الرجل والمرأة يدخلان إلى الغرفة ويغلقان الباب، والبقية تجري في مخيلة المشاهد، لا، الأمر ليس كذلك في الحياة أبداً، فقد يكون الرجل ساديا يضرب المرأة، وقد تكون هي تحب العنف، وقد يكون هو عاجزاً، وقد يكون سريع القذف فيجعل من الممارسة لحظات عذاب نفسي للمرأة، وقد يكون أنانيا يفكر في شهوته فقط، وقد تكون رائحته كريهة، وقد تكون هي باردة، و.و.و، وفي تلك التفاصيل تسقط الأقنعة، وتنهار الحواجز، ويكشف الإنسان لحظتها عن أعماقه الغامضة، لذا فأنا أدخل مع شخصياتي الروائية إلى غرفة النوم لأكشف عن طبيعتها. كما أنني حين أكتب لا يهمني القارئ ولا المنظومات الأخلاقية الاجتماعية ولا أفكر فيها أصلاً، وإنما تهمني شخصياتي الروائية وصدق التعبير عنها فنياً، ناهيك عن أن اللغة المكشوفة التي استخدمها أثناء الحوار تكشف عن الدلالات النفسية للشخصية كما يذهب إلى ذلك فرويد ولاكان.


■ بناء المتاهات السردي متداخل ومتقن ويضم حشدا من الشخصيات الروائية، فكيف تتشكل لديك الشخصية الروائية؟


□ كل شخصياتي الروائية هي شخصيات حقيقية، ومستمدة من واقع هذه الحياة، لقد عرفتُ وقابلتُ أو تحدثتُ مع الشخصيات الأصلية التي منها شكّلت شخصياتي الروائية، وفي الوقت نفسه هي ليست سيرة لأي من هذه الشخصيات التي قابلتها أو عرفتها أو تحدثت معها في الواقع! في بعض الأحيان أستمع لقصص حقيقية لعدد من الرجال والنساء، أناقشهم أو أتواصل معهم كتابة عبر الإيميل أو حتى الفيسبوك، لكنني حين أشكّل الشخصية الروائية فإني لا آخذ من سيرة كل واحد من هؤلاء سوى نسبة ضئيلة، وأحياناً أستخدم بعض حواراتي معهم في صلب النص الروائي، لكن أي شخص من هؤلاء حين يبحث عن نفسه في رواياتي لن يجدها بسهولة، وإنما سيجد ظلالاً لها، وربما يأتي قارئ مجهول لا أعرفه فيجد نفسه في إحدى هذه الشخصيات.


■ في أعمالك الروائية يتداخل الواقعي مع المتخيل، والمرئي مع اللامرئي، والمادي المبتذل مع الروحاني، كما نجد هناك حشداً من الكتب والشخصيات الفنية والدرامية، التي يتحدث عنها أبطال رواياتك وكذلك مجموعة من الأغاني العربية والأجنبية مع نصوصها، ألا يعد ذلك حشوا أو استعراضا فكريا لا مجال له في السرد الروائي؟


□ أنا أكتب الرواية المعرفية ذات الأبعاد الفلسفية والنفسية، لا أضع مخططا لروايتي ولا أفكر في أي منهج نقدي أو قالب روائي تحدّث عنه النقاد، أخرج من الحكاية، وأتداخل مع المعارف الأدبية والعلمية والفنية والدينية، اتناص تمع مؤلفين عالميين ومع أعمالهم الروائية والفنية، وبتأثير السينما فأنا أسفيد من جماليات المسموع، فأستخدم الأغاني للتعبير عن مزاج الشخصيات وعالمها النفسي، لا استعراض معارفي وإنما أتناص روائياً مع أدباء لهم علاقة ببناء رواياتي، لا أميل للرواية التي لا تفجر الأسئلة ولا تلقي بي في آتون المعرفة وأسئلتها الغامضة.


المثقف والحداثة


■ ثمة إشكالية حضارية أمام المثقف العربي في الشرق الأوسط ألا وهي إشكالية الحداثة، كيف تنظر إلى حداثتنا المجهضة بينما خيب «الربيع العربي» آمالنا؟


□ أعتقد إن حركة «النهضة» العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت أقرب إلى حركات التنوير الاجتماعي، لكنها كانت حركات محاصرة اجتماعيا بالجهل والأمية والتخلف وبأحكام الشريعة والأساطير الدينية، وبالتالي فإنها لم تنور المجتمع كما كان يؤمل، وإنما ظلت مثل ذبالة شــــمعة على وشــك الانطفاء، إلى أن انطفأت بالفعل، لكن على المستوى السياسي ساعدت هذه الحركة على وعي ضرورة تشكيل الأحزاب القومية والاشتراكية اليسارية، لكن هذه الأحزاب، لاسيما اليسارية، ونتيجة لتكتيكاتها الساذجة آنذاك ساهمت من حيث لا تريد في محاصرة حركة التنوير الاجتماعي الحقيقية، وأقصد هنا إنها لم تتجرأ على تنوير منطقة المقدس، وشخصيا قلتها في أماكن أخرى: إن أي حديث عن الحداثة لا يقترب من المقدس هو مجرد هراء نظري.


■ كانت انتظارات المثقفين من «الربيع العربي» كثيرة، ماذا ينتظر الواقع العربي من المثقف؟


□ لا أعتقد أن ما جرى في البلدان العربية وما يسمى بـ«الربيع العربي» له علاقة «بالربيع»، هي ليست سوى اندفاعات تاريخية تفجرت نتيجة العنف والاستبداد والطغيان السياسي في هذه البلدان على مدى قرون، فهذه الاندفاعات أيقظت الجثث من قبورها لينطلق «الزومبي الأصولي» ليجتاح حياتنا براياته السوداء، وليحول واقعنا إلى كابوس مرعب، نحن تاريخياً نعيش فترة مظلمة.



د.عبد الدائم السلاّمي (نشر في جريدة الحياة)

 "وصايا سارتر"




محاورة تونسية للأثر الوجودي 




أصدر الشاعر والروائي التونسي حافظ محفوظ كتاب «وصايا سارتر» (الأطلسية للنشر 2015)، متكوناً من جزءين حاور فيهما الكاتب مجموعة من النصوص الشعرية والروائية الأجنبية والعربية والتونسية ضمن دائرة قرائية كبرى لم يعزل فيها النص عن سياقاته الاجتماعية والفكرية والسياسية؛ أولهما بعنوان «كتابات» ويتضمن مواقفه النقدية من الكتابة الإبداعية وما فيها من أجيال مهرت أسماء أصحابها مسيرةَ الإبداع الأدبي، وثانيهما عنوانه «قراءات» وخصصه الكاتب لتقديم رؤى له نقدية في متون نصية لمبدعين تونسيين. 

يبيح لنا كتاب «وصايا سارتر»، وهو عنوان لمقال من مقالاته، أن ننظر إلى متنه من زاويتين: نقدية أدبية، ونقدية ثقافية؛ وهما زاويتا نظر تمثلان في ما نزعم، غاية هذا الكتاب ومطمح أهدافه. فمن جهة النقد الأدبي يجوز لنا القول إن قراءة الكاتب لنصوص الشعراء والروائيين لا تُخفي بعض مديح منه لها محمول في لغة واصفة لا تميل إلى قول رولان بارت «نفشل دائماً في الحديث عمن نحب» وإنما هي تخلص جهدها للاحتفاء بالمقروء والتنبه إلى جمالياته والتغاضي أحياناً عن هناته الفنية. وهو احتفاء، وهو مديح يرى فيهما الكاتب سبيلاً إلى الاعتراف بالمبدعين اعترافًا قد يهوّن من حجم أحزانهم التي تصرعهم «كما تصرع آلة القص الكهربائي أشجار البلوط العملاقة من أجل فتح طريق لخيانة الطبيعة». وقد أكد كتاب حافظ محفوظ في عنوانه الفرعي «نصوص في مدح الكتابة» تقصّدَه هذه الغاية، وذلك من جهة أن المبدع هو بالتوصيف كائن حَيِي وعزيز النَّفسِ معًا، ومن ثمة فهو لا يطالب بحقِّ الاحتفاء به والاعتراف بمُنجزه الإبداعي وتثمين تجربته على كثرة ما يصنع للناس من معان تضيء عتمة أيّامهم وتخفّف عنهم ثقلَها وتُحقّق للواحد منهم توازنَه الوجودي داخل العالم. غير أنّ حياء المُبدع لا يجب أن يزيد من حياء القرّاء فيمنع عنهم واجبَ تثمين جهوده والاعتراف بفضلها الحضاريّ، لأن الكتابة، على حدّ ما يرى محفوظ، هي الضامنة لهُويّة الفرد داخل فضاء مجموعته الاجتماعية، لأنها «في أقصى حالاتها وسيلة للوجود المضيء، وبرهان خلاص من التشابه».

والظاهر أن حافظ محفوظ قد نزع في رؤاه النقدية إلى إعادة الاعتبار للنص ولصاحبه معًا في كلّ قراءة، كما لو أنه يرفض مقولة موت المؤلِّف التي دافع عنها أصحاب النقد الجديد، إذ لم ين في مقالات كتابه يحاور النص على ضوء سيرة صاحبه، بل هو لا يخفي إيمانه بحقيقة أنه لا يمكن بلوغ جواهر النصوص من دون النظر إلى ما جاورها من حياة كتّابها وما اتصل بها من سياقات اجتماعية وثقافية احتضنت إنجازها. لأن النص بالتعريف هو تقاطع الكاتب مع محيطه بكل دوائره الاجتماعية والثقافية والسياسية والتخييلية وغيرها، وإذن فكل نص هو فضاء الإنساني في الكاتب، ومن ثمة يكون تعرّفُ سياق النص أمراً ضرورياً لقراءته.

وبقدر ما احتفى حافظ محفوظ في نقده الأدبي بنصوص الكتّاب الذين انتخبهم عيّنةً داّلةً على سخاء الكتابة ووفرة معانيها أمثال محمود درويش ومنصف الوهايبي ويوسف رزوقة وصلاح الدّين بوجاه ومنوّر صمادح وغيرهم بدا شديد الحرص في نقده الثقافي على الإنصات لحركة الفعل الإبداعي التونسي من ستينات القرن الماضي إلى الآن وما صاحب ذلك من صخب ولَغْو قولي مرة وإيقاعات منتظمة مرات أخرى.

من ذلك أنه قرأ تجربة ما سُمِّيَ في تونس «شعراء الثمانينات» الذين مثّلوا جيلاً شعرياً تغيّا أصحابه تجديد آفاق القصيدة التونسية، قرأ تلك التجربة قراءة أفقيّة وقف فيها على حدودها سواء على مستوى مضامينها أو على مستوى أشكالها الفنية، وانتهى من ذلك إلى تقرير أنّ شعراء الثمانينات «لم يُخلّفوا لنا قصيدة واحدة نفخر بها أمام الأمم الأخرى، مرّت عشرون سنة وتزيد وهم يُنتجون نُسخًا مزوَّرة ومشوّهة لأشعار غريبة عنهم وادّعوا الزعامة والفحولة والتجاوز». ثم هو يعلن بجرأة وببعض المبالغة التي لا تخفي رغبته في تصفية حسابات جمّة مع ذاك الجيل أنّ «شعراء الثمانينات عندنا لا يعرفون من الحداثة إلا الحديث الذي يثار حولها في المقاهي... غالبيتهم تتبجّح بالنضال ونحن نعلم أنهم اختاروا المقاهي ليمارسوا فيها نضالَهم المزعوم»، ويضيف قوله: «كنّا نعلم أنهم ينتحرون رويداً رويداً... وتشهد قصائدهم أنهم فارقوا هذه الحياة، لكن نبتت لهم أنياب من تحت التراب وراحوا يحاولون تمزيق جسد القصيدة الفتيّة التي بدأ يكتبها الشعراء الجدد».

ولا يَخفى عنّا أن الشعراء الجدد المعنيّين بقول الكاتب هم «شعراء التسعينات» - وهو واحد منهم - الذين استهجن جيل الثمانينات أشعارهم ومنعهم من حضور غالبية الفعاليات الشعرية التي أقيمت آنذاك وأغلق أمامهم أبواب الظهور إلى الناس، ما دفعهم إلى التمرّد على مواقف هؤلاء الفنية والجمالية وما يحتكمون إليه من قيم الهيمنة والأبوّة، وكتابة نصوص جديدة تحتفي بالحياة في إطلاقيتها وبتفاصيل المعيش بكلّ جمالياته بعيداً عن كلّ استهتار ثوريّ. ولم يرَ حافظ محفوظ في ذاك الاستهجان لشعراء جيله وما تعرّضوا له من تشويه وتهميش أمراً يجوز توصيفه بمعركة القديم والجديد وإنما يراه معركة بين «الرداءة والجودة»، وهي «معركة حُسم فيها الأمر لفائدة الشعر الجديد».

إنّ ما يمكن الخلوص إليه من قراءتنا لكتاب «وصايا سارتر» هو أن حافظ محفوظ قد اتكأ في مقالاته على خلفية ثقافية ثرّةِ المشارب الفنية ساهمت في شكل فاعل في وسم نصوصه بوسم النص المثقَّف؛ النصّ الذي مهما قشّره النقد يظلّ مكتنزاً أسراراً ومعاني محفورة في أعماقه. وفي هذا ما جعل تلك النصوص نصوص حياة، لا نصوصًا قابلة للتكشّف السهل، وللموت الأسهل، وهي إلى ذلك نصوص لا تخلو من ملامح إنسانه هو؛ حيث يحضر فيها الكثير من نزوعه إلى تأصيل ما اهترأ من منظومة الكتابة الإبداعية، والكثير من تنبّهه إلى سرديات معيشه الثقافي والسعي إلى استدعائها فنياً لتفكيك ما فيها من هَنات، وشحذها بما تحتاج إليه من روح نقدية ما به تصنع أسطورتها.


حافظ ابراهيم 




د.عبد الدائم  السلاّمي ( جريدة الحياة)

حافظ محفوظ

 

مقدمة في تعريف الايقاع



منذ سنوات قليلة، كان الجدال قائما حول مسألة الشعر الموزون والشعر غير الموزون (بين العمودي والحرّ، بين القصيدة الخليلية وقصيدة النثر، بين القصيدة التقليدية والقصيدة الحديثة...). هذا الجدال كان المحرّك الاقدر «على خوائه» للكتابات النقدية.

لم يكن الامر سهلا أعني قبول غلبة هذا النوع من الكتابة الشعرية على الاخر كان يبدو مصيريا محددا لطريقة القول الشعري وللحكم على ما يقال. «لقد» انهم انشبوا الحرائق هنا وهناك طلبا للضوء وإنارة السبل لكنهم أتلفوا المحصول.

الموضوع الاساسي والمتكرّر منذ الثورة الشعرية العربية الاولى كان «الايقاع» الذي يختزل عادة في الوزن الخليلي واذا تجاوز هذا المفهوم فالى مرادفات له تقبع في مداره واليه تنتسبُ.

والحقيقة هي ان الوزن غير الايقاع. ثم روابط بينهما لكنهما يتنافران اكثر مما يتجاذبان والحقيقة أن الايقاع ليس خاصا بالشعر وعلينا ان نناقش الايقاع في النثر فطرح المسألة داخل النصوص النثرية أقرب الى الواقع والمنطق.

والحقيقة ان ا لايقاع ليس خاصا بالنصوص الادبية فقد يوجد في نصّ غير أدبي.

والحقيقة أن الايقاع ظاهرة توجد في الحياة بصفة عامة قبل النصوص. لكن معنى الايقاع بهذا الوجه من وجوه الطرح يضيع ويتلاشى ويفلت من كل تقنين وتقعيد اي من كل نظام.

نعم، الأمر كذلك، لأننا اذا حسرنا النظر في كل ما هو قواعد مضبوطة وسلمنا بضرورة ضبط المفاهيم خرجنا من مبحث الايقاع الى مبحث اخر مختلف تماما من حيث الطرح وآليات التفكير وهذا هو المنزلق الخطير الذي سقط فيه أغلب الذين خاضوا المعارك باسم الدفاع عن قضيّة الاوزان الخليلية أو باسم الخروج عليها.


 


قد يتبادرُ الى الاذهان ان دراسة الايقاع غير ممكنة في غير العروض والأوزان. والواقع ان في كل لغة عروضا واوزانا تختلف باختلاف خصائص الكلام ووحدات القياس والمصطلحات والمفاهيم انطلاقا من الاختلاف في مفهوم الايقاع والنظريات والمختصين فيها.

ولكن ما دمنا في مجال اللغة العربية فلنجمل النظر في امرها ولننظر كيف تعامل اهلها مع مسألة الايقاع.

إن معنى الايقاع انحصر في مفهوم الوزن ومعنى الوزن في أذهان العرب هو بحور الخليل وقواعد الشعر التي ضبطها وما قالوه في القافية وعمود الشعر والتفعيلة وهذا أمر طبيعي، فالمعوّل هنا يبقي على نظرية الخليل.

فالوزن ينتظم الكلام الذي نصطلح عليه بالشعر بقطع النظر عن الشعرية في النص لأن المنظومات التعبيرية لها أوزان وان كانت ضعيفة السمة الشعرية.


 


أما الايقاع فظاهرة في الكلام مهما كان الكلام ومستواه.

كلّما تحدثنا عن الوزن انحصر تفكيرنا في الشعر وحده، أما الايقاع فيهمّ الشعر والنثر والسجع والخطبة والرسالة والتقارير الادارية اليوم والمقال الصحفي وغيرها.

الأمر كذلك وقد نعرّج على ظاهرة الايقاع في غير الشعر طيّ هذه الورقات التي لا تبحث في النظم الوزنية وليس يشغلها شأن البحور الخليلية وقوالبها الصوتية التي يخضع لها البيت الشعري القديم او الأسطر الشعرية في القصيدة الحرّة أو في ضروب اخرى انبثقت من هذا وذاك.

لا يمكن الحديث عن الايقاع ما دمنا واقعين تحت سيطرة مفهوم مهيمن نعني «الوزن الخليلي». يجب أوّلا التبرأ من كل نظام وزني والتنكّر لمقولات سجنت هذه الظاهرة داخل اطر شكلية لا يمكن بحال ان تمسّ جوهر الشعر او تقترب منه.


 


سنقول للمرّة الاخيرة «الوزن لا يصنع الشعر» نعم قد يتخلّل الوزن قصيدة ولكنه لا يصنع شعريتها «الوزن ليس الايقاع» نعم قد يكون أحد عناصره في حالات مخصوصة منه ولكنه لا يمثله تماما.

الايقاعات حرّة

الاوزان مقنّنة مضبوطة

فالوزن بهذا الطرح تطبيق او تحقيق لنماذج ايقاعية جاهزة في الذهن لكن الشعر لا يخلو من ايقاعات حرّة بقطع النظر عن اوزان الخليل.

لن نخوض في تنويعات الأوزان اي نظام العلل وضروب الزحافات وأنواع القوافي المعتمدة فتلك من شأن بحوث اخرى.

ولن نخوض في مسألة النبر في الكلام فليس من السهل دراسة النبر ولم يتوصّل بعد الى وضع قواعد او اليات في هذا الموضوع. وهو امر يخصّ المشافهة اكثر مما يخص الكتابة.

وخلاصة القول ان في تراثنا نظرية في الوزن محكمة البناء منسجمة وليس فيها نظرية في الايقاع.

ماذا نقصد بالايقاع اذن؟

إنّ الظواهر التي تصل المعنى بالمبنى في القصيدة. القصيدة الحقيقية وليس ما يتشبّه بها أو ما يُروّج له كما يروّج لبضاعة استهلاكية لابد للايقاع من كيان صوتي / تركيبي / تعبيري.

للبحث الحديث آراء في مسألة الايقاع ونزعة الى وضع نظريات تدل على دقة المسألة وتوسّع جوانبها مهما تنوّعت زوايا النظر إليها ووعي بأهمية الايقاع في جميع أنواع الكلام وأثره في بناء معانيه وتوجيه الرؤى فيه.


 


نركّز هنا على احدى النظريات التي قاربت الاكتمال وتشكلت ملامحها نقصد نظرية الباحث الشاعر الفرنسي هانري ميشونيك وهنري ميشونيك هو شاعر وناقد فرنسي مولود بباريس سنة 1932 وهو أستاذ الالسنية بجامعة فانسان وقد نشر مجموعة من الكتب الشعرية منها في اعاداتنا 1976 أسطوري كل يوم 1979 نحو العبور 1990.

ونقد الايقاع 1982 . النظم والحياة 1990 / الحداثة، الحداثة 1994 / سياسة الايقاع، سياسة الموضوع 1995 / انشائية الترجمة 1999، وتمجيد الشعر 2001.

ويدرك متابعو أعمال ميشونيك مدى مراهنته على بناء نظرية متكاملة حول مسألة الايقاع مراهنة انطلقت منذ صدور اطروحته «نقد الايقاع» وتواصلت في كتبه الاخرى بنفس الاصرار والطموح.

وقد قامت شهرة ميشونيك على اساس ما حوته كتُبه النقدية من طرح جديد لمسألة الايقاع في الكلام عامة، وبحث مغاير عن تعريفات اشمل له واكثر التصاقا بالفكر الانساني الحديث «المتحرّك».


 



وطبيعي ان يكون كتابه «نقد الايقاع» مرجعا لا غنى للباحث في الادب عامة وفي الشعر خاصة عنه.

الكتابُ يقطع مع سائر الكتب النقدية التي تناولت هذا الموضوع ويرسي أسسا مستحدثة في التعامل معه لا باعتباره مكوّنا من مكوّنات الكلام الموقّع بل باعتباره ظاهرة متأصّلة في الكلام عامة تنبئ عن اصول تكوّنه ومدارات تقبّله وتأويله.

إنه كما يقول مسار نقدي للفكر الانساني


بقلم مفيدة خليل

 اليوم خلع عني الملك» لحافظ محفوظ: 

يجب إعادة التاريخ المكتوب وطرح سؤال هل أنه هو الحقيقة ؟

  

   


هل أن ما وصلنا من التاريخ هو الحقيقة المطلقة؟ 

هل أن ما كتبه المؤرخون عن فترة حكم البايات هو الحقيقة الكاملة؟ 

هل أن ما دوّن عن نضالات بورقيبةواستعادة الحكم من بايات كان يكدسون فقط الثروات امام مزيد تفقير الشعب هو الحقيقة الوحيدة؟ 

هل يمكن طرح السؤال والتشكيك في صدق تلك الوثائق التي كتبت تاريخا واحدا؟ 


هي كوكبة من الاسئلة التي يمكن طرحها بعد تناول رواية «اليوم خلع عني الملك» لحافظ محفوظ الصادرة عن دار مسكلياني.

«تستقل البلاد، تتأسس الجمهورية، يصير بورقيبة زعيما، لكن ليس في نظر الامير الشاذلي بن الامين باي، الذي راسل الامير اخته ليحدثها عن امور كثيرة تهم العائلة وشخصية بورقيبة» كما جاء في تقديم الكتاب الذي تميزت صورة غلافه بتلفاز قديم داخله صورة للحبيب بورقيبة والامين باي وكان الرواية دعوة للدخول الى عوالم التاريخ.

من الخيال الى التاريخي: جولة روائية ممتعة

يبدأ الكاتب كتابه باشارة ان «كل احداث الرواية خيالية وان استعارت بعض الاسماء لشخصيات تاريخية فذلك من قبيل التخييل لا غير» لكن حتى وان كانت الاحداث متخيلة فالحديث عن شخصيات واقعية اثرت في التاريخ التونسي، فهي دعوة غير مباشرة لاعادة قراءة التاريخ.

فالتاريخ المقدم عن فترة حكم البايات واوائل حكم بورقيبة تكاد تكون مصادره شحيحة، ذلك أن أغلب الكتب مجّدت الانتقال من زمن الملكية الى الجمهورية فقط لعل كنز البايات لم يكن الا فزاعة لبعث النقمة في روح الشعب على العائلة المالكة. انا اشكّ في كل ما يقال حول البايات وتاريخهم، والحق اقول اني لا اثق في رجال السياسة، لقد تعلمت ان سلاحهم الاكبر هو الكذب والتزوير والنفاق...احد اساتذتنا اثرى بكتابة كتب عن مسيرة بورقيبة النضالية وعن مميزاته كقائد فذّ وزعيم ورجل سياسة لا مثيل له في العالم، استاذي تصوّر هذا الكنز ولا ادري من اين اتى بمكوناته؟» كما يتساءل شمس الدين البوغانمي الشخصية التي اختارها حافظ محفوظ لتشكك في التاريخ المدوّن.

«اليوم خلع عني الملك» عنوان الرواية، جملة شهيرة قالها محمد الامين الباي الملك آخر البايات التونسيين حين ماتت زوجته «الملكة جنينة»، جملة يستعيرها الكاتب لتكون عنوان لمتنه، في الرواية يمتزج التاريخي بالخيالي، التاريخي هو التواريخ الحقيقية واسماء البايات، مثل الحديث عن المنصف باي ثم احمد الامين الباي الذي نصب ملكا على تونس عام 1943 بعد عزل المنصف باي «اعود الى صيف 1943 اي الى اجبار فرنسا سيدي المنصف باي على امضاء وثيقة تنحيه عن العرش في منفاه بمدينة الاغواط الجزائرية، واعتلاء والدنا الباشا الملك ومحاولته منذ تلك اللحظة اختلاس زمن من وقته يخلو فيه بساعاته»، كذلك اسماء اخرى اثرت في التاريخ التونسي مثل «روبار فينستان» الذي ترجم كلمات الباي لمنداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية، و الزعماء التونسيين مثل علي البلهوان وغيرهم اما الخيالي فيتمثل في صياغة الاحداث واختيار العديد من الاسماء والشخصيات لعالمه الروائي المشبع برائحة التاريخ.

يختار شخصية محورية اولى وزمن روائي حاضر هو شمس الدين الغانمي باحث في التاريخ ويعمل في الوكالة الوطنية للتراث والزمن الحاضر هو العام 2008، اما الزمن الروائي فمرتبط بذاكرة الشخصية الروائية الاخرى التي ستاخذ حيزا من الحكي هي «الشاذلي الامين» ولي عهد الامين باي الذي خطّ العديد من الرسائل لاخته «ليليا» لتكون تلك الرسائل نقطة بحث في الحقائق التاريخية التي دونها التاريخ الرسمي التونسي.

تتدافع الاحداث والشخصيات لاعادة رؤية التاريخ من زاوية اخرى

بين الحاضر والماضي تتراوح الاحداث والحكي، يوفر حافظ محفوظ لقارئه متعة في اكتشاف رسائل يبوح فيها امير بوضعية عائلته ويتحدث عن حقائق ربما لم تدوّن»مرّ ربع قرن من الوهم بسرعة وتركنا مشردين، اخرجونا من قصر قرطاج ورموا بنا في بيت لا يصلح حتى لتربية الابقار في ضاحية منوبة، قالو انه قصر الهاشمي الذي بقينا فيه قرابة السنتين، ثم اخرجونا والقوا بنا في خرابة اخرى في مدينة سكرة سنة 1958 قبل ان يخلى سبيلنا في سنة 1962 بامر من الحبيب بورقيبة» (ص62).

تتدافع الشخصيات والامكنة والاحداث ايضا، مراوحة بين الحاضر والماضي البعيد، رحلة بين الزمن الحقيقي وزمن القص كذلك الامكنة تختلف حسب الشخصية، مكان الكتابة الاول هو «عمارة عدد 12 بنهج مصر، هي الأخرى عمارة تاريخية فهي أول العمارات التي شيدها المهندس دافيد راكاه بهذا الشارع» فمكتب بوكالة احياء التراث فضاحية قرطاج،.

أما الامكنة البعيدة فهي «بيت جنينة» بمنوبة «اليوم تسلكت مفتاح دار جنينة من عند البير الساحلي البناء يدا بيد مثلما اوصيته: قال لي تسكن بالهناء سيدي، منذ أشهر وانا افكر، احس انهم سينزلونني من العرش، او سيقتلونني كما قتلو ولي عهدي، لست خائفا من الموت، الموت حقّ، همي هو حياة الغالية جنينة، بنيت البيت حتى يسترهم وقت الحاجة ويكون ملجئنا عند الشدة» كما دوّن الشادلي الامين على لسان والده الباشا محمد الامين باي، وقصر البار بسيس بقرطاج (بيت الحكمة اليوم) «كل القصور الاخرى ملك العائلة الباشوية، اما هذا القصر فملكنا وحدنا، اشتراه جدكم من اليهودي البار بسيس ب 400الف فرنك سنة 1922، وقد اصبح ملككم بعد ان اعطيت حقوق كل وارث وعندي وصولاتهم» فلم شرّدت العائلة؟ ان كانت تملك ملكية القصر.

تتدافع الحقائق التاريخية على لسان الشخصيات، يحاول الكاتب السؤال عن مصداقية ما دونته المراجع الرسمية، يضع تحت المجهر كيف كان بورقيبة يقلد الباي في لباسه «الحذا الابيض» وطريقة مشيته ورفع يمناه لتحية الجماهير تماما كما كان يفعل الامين الباي، يواصل «الشادلي الامين» البوح بما عاشته عائلته ويتحدث « اولا اقوف جرايات كل افراد العائلة الحسينية في 31ماي 1956، ثانيا قام بمحو شعار المملكة التونسية حاذفا منه كل ما له علاقة بعائلتنا في 21جوان من نفس السنة، ثالثا اصدر امر تحويل كل سلطات الباي اليه شخصيا واجبره على التخلي عن ممتلكاته لفائدة الدولة، تمّ ختم كل هذا بالغاء النظام الملكي وعوّضه بالنظام الجمهوري، بعد ذلك طردونا بشكل وحشي» هكذا يشكو ابن الباي وجعه الى اخته، ليعلق قارئ الرسائل ان يحسب لبورقيبة انهم لم يقم بقتل افراد العائلة المالكة كما فعل كل الملوك في العصور السابقة وحافظ على حياتهم مع تغيير نظام الحكم.

ينتقل الكاتب على لسان شخصيته المختارة بنباهة بين الاحداث التاريخية، يترك لها مساحة كاملة للتعبير ثم يعلق على ما تكتبه، «اليوم خلع عني الملك» نص داخل النص، فالنص الذي نقرأه هو نص تكتبه شخصية شمس الدين الغانمي تعليقا على نص كتبه الشادلي الامين في رسائله، يختلف الاسلوب وطريقة الحكي لشد انتباه القارئ ودفعه لطرح الاسئلة، فهل حقا كان الباي يدعم الفلاقة «تحدث في الرسالة الطويلة عن رحة الى قرية في الشمال الغربي صحبة المدعو سالم البناني، وغاية الرحلة تسليم اموال الى قائد المقاومة المسلحة انذاك في جبال المنطقة» هنا يطرح سؤال ابن الباي يتنقل بنفسه لتقديم الاموال للفلاقة؟ 

في النص يتساءل عن جدوى كتابة الرسائل، هل كتب الشادلي الامين ولي عهد الامين باي رسائله حقيقة بغاية مشاركة اخته ذكريات الماضي؟ ام كتبها لعيد صياغة التاريخ الرسمي خاصة وانه يسند نصه بالكثير من التواريخ والاحداث الحقيقية؟

«اليوم خلع عني الملك» الرواية السؤال، اسلوب يدفع القارئ لاعادة فتح كتب التاريخ والنبش في الذاكرة التونسية عن الحقائق غير المكتوبة، هي رحلة في عالم الخيال لكنه خيال مزين بشوك الاسئلة عن مدى حقيقة تاريخنا المكتوب؟ هل ما دوّن هو الحقيقة المطلقة.

حافظ محفوظ // تونس

 قراءة في قصيدة "مثل عجوز بيتر بيخسّل" تقريبا

                                                                                                     لمنصف الوهايبي




"في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو". 

كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد،  في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع،  رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل.  قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: كأن أدعوك يا مذياع... صنبوري ويا مرآة كرسيّي ويا ألبوم مرآتي ويا سجّاد دولابي ويا دولاب أنت حديقتي " سرّ السنونو" أنت مائدتي ومائدتي هي السجّاد يا كرسيّ أنت منبّهي ومنبّهي ألبوم عائلتي سريري لوحتي صوت المذيعة ضفدعي صحفي سريري الباب نهري جارتي ديكي ... ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.

شبّاكي سلحفاتي نبيذي ببغائي زهرتي قطر الندى الأطفال أسماكي وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء. 

كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى السجّاد ثمّ ملأت كأسي ببغاء واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض السرير لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار الطيور فكدت أعطس مثلها وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بلوحتي وفتحت صنبوري فخشخش ضفدعي.

لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من الألبوم عالية وطقطقة من الصنبور خافتة ونهضت وقفت من برد على الدولاب ثمّ سحبت من الحديقة معطفي ونظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.

أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق منبّهي وسحبت سجّادي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب المرآة مائدة فمائدة موائد كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .

وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي  قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت الدّيك من غضب يدقّ النّهر وهو يصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا تفعل الأسماك عند الديك قل أم هل أصاب الديك مسّ ؟ 

غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أثغو: 

خذي قطر النّدى هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض الببغاء ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة". 


                     حين يصبح الشّاعر العربيّ صرّارا في حقّة من خشب

                                    "هشاشة الجميــــل"

                                   قراءة في قصيدة"مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا"*

                                                 للمنصف الوهايبي


                                                                               ــــــــــــ حافظ محفوظ

يتّسم المنجز الشعري للمنصف الوهايبي  بالتّجريب، وهي سمة لا يعسر على القارئ تتبّعها وتمثّل ملامحها. ومن مظاهر التجريب لديه الاشتغال ضمن مشروع متكامل يظهر على شكل كتاب تتظافر نصوصه لتشكّل وحدة بارزة. هذا النوع من الكتابة يقتضي من الشّاعر التخطيط لما يكتب والبناء الواعي للنّصوص، فهو يصنع قصيدته ويباشرها راسما لها غاية إن صحّت العبارة  ويدخلها مسلّحا ببرنامج قوليّ محدّد يعدّل حدسيّا وجماليا. بهذا تكفّ الكتابة الشعريّة عند المنصف الوهايبي عن أن تكون انفعالا أو استجابة وجدانية لمثير خارجيّ، لكنّ ذلك لا يعني الاستجابة لغرض من الأغراض أي الانصياع لفعل النظم بمعناه المسطّح.

إنّه يكتب عالمه إن شئنا، مسخّرا من اجل ذلك ثقافته وذائقته بعيدا عن مستلزمات المشافهة والإنشاد وهو ما يطلق عليه النّاقد حسن البنّا عزّ الدين  ( الوعي الكتابيّ )الذي يفترض فيما يفترض وجود استراتيجيا كتابيّة واضحة تقطع مع الشفاهيّة المطلقة التي ما تزال تطبع أغلب الشعر التّونسي والعربيّ عموما، وتسجنه داخل إطار الحضور والزّمانيّة فكأنّما هو شعر مكتوب للإلقاء ينتهي تأثيره بمجرّد نزول الشاعر عن المنصّة فإذا قرأته بعد ذلك وهن تأثيره فلا يحتاج منك إلى جهد لبلوغ معانيه فهي على رؤوس ألفاظه، ولا يستدعي تأويلا لتعرية عنصره وعنصره الأسمى صوت منشده وآداؤه.

أمّا نصوص منصف الوهايبي لاسيّما تلك التي كتبها في العشريّة الأخيرة  فإنّها من جنس تلك النّصوص المفتوحة على التّأويل ذات بنى متداخلة ونسيج معقّد تعقيدا يشدّ إلى طرفيه اللّغويّ والدّلالي وتفرض على قارئها اللّطف في النّظر والمغالبة في التحليل والفهم والمجاهدة للوصول إلى الحقيقة فيها. إنها تتطلّب من القارئ أن يكون داخلها لا خارجها وهو الأمر الذي يستدعي قارئا نموذجيّا يعيد صياغة النصّ ويتأوّله تأويلا. يقول الشاعر في مقالة له: " ثمّة دائما شخص آخر هو رفيق غامض يتقدّم فيعلن عن ميلاد قصيدة ثمّ يعقبه آخر فيضخّ فيها دما جديدا."  

وقراءة التأويل تتبرّم من المنهج معتبرة إيّاه عائقا أمام بلوغ حقيقة النصوص. وكثيرا ما صرّح أصحاب هذا الاتّجاه أنّ المنهج النّقديّ مهما اتّسعت مداراته إنّما يجيب عن أسئلته أكثر ممّا يجيب عن أسئلة النّصوص. والقارئ النّموذجيّ في عرف التّأويل هو البديل المثاليّ للكاتب النّموذجيّ. والأثر المفتوح دعوة لمشاركة المؤلّف كتابة أثره.  (L'œuvre ouverte est une invitation à faire l'œuvre avec l'auteur)                

"لأنّ النصّ يمكن أن يحتوي نصّا مضمرا أو نصّا تحتيّا sous-texte يندسّ وينزلق بين الكلمات المرئيّة المقروءة ".  

يقول الدّكتور عدنان الظاهر: " أقرأ شعر المنصف الوهايبي ... فأجد نفسي وجها لوجه مع وأمام الشاعر. قلّة من الشعراء من يملك هذه القدرة على استحضار القارئ وإفراد المكان الذي يستحقّ في نصوصه. لا أبالغ إذا قلت إنّي أجد نفسي على صفحات الديوان بل وفي كلّ سطر، بل وما بين كلمات السطر الواحد. الفراغ الأبيض يملأه القارئ ضيفا كريما مكرّما على الشاعر. يدعوه الشاعر أن يشاركه فيما يقرأ من تصوّرات وأفكار وانفعالات ومشاعر ومن ثمّ في أن يقف منه موقف الدّارس والمحلّل والنّاقد. لا يدع القارئ أن يمرّ على شعره مرّ الكرام. يرغمه على التّفكير وعلى التّساؤل وأن يقاسمه جميع معاناته. وهذا ضرب جديد من الشّعراء." 

من أجل هذا تخيّرنا من مدوّنة الشاعر منصف الوهايبي نصّا له لم يضمّه كتاب من كتبه المنشورة هو قصيدة " مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا " وقد استمعت إليه في أكثر من مكان وقرأته منشورا في جريدة القدس العربيّ. 


النصّ مرتع نصوص:

إنّ أمر هذه القصيدة غريب حقّا، فلو نزعنا عنها لعبة الأسماء التي يغرينا بها الشاعر فإنّنا لا نكاد نعثر منها على شيء غير مذكور في قصائد أخرى بشكل أو بآخر. أعني أنّ جلّ العبارات المكوّنة لهذا النصّ مستدعى من نصوص أخرى وردت في مجاميعه المنشورة أو في قصائد مفردة له اطّلعنا عليها. أتراه يؤكّد قول زهير بن أبي سلمى إذ يقول:

وما أرانا نقول إلاّ معارا             أو معادا من قولنا مكرورا

أم أنّ الأمر يتجاوز ذلك ليصعد بهذا النصّ إلى مكانة أثيرة لدى الشاعر فيكون جماع نصوصه وخلاصة بيانه؟ 

أم أنّ اللعبة لا تقتصر عنده على اللعب بالأسماء كما ورد داخل هذا النصّ بل تتعدّاها إلى اللعب بالنّصوص، لعبا يجبر القارئ لا على تتبّع مقاطع هذا النصّ بالتدقيق والتثبيت فحسب إنّما يجبره على تتبّع القصائد القديمة للشاعر أيضا؟

سنحاول فيما يلي  أن نربط بين هذه القصيدة وأخيّات لها سابقات معتمدين في ذلك على أوجه الشبه بينها  ( لا نريد أن نستعمل ها هنا مصطلحات نقدية تعني ما نذهب إليه مثل مصطلح التناص أو مصطلح التّطريس، فإنّني في الأصل أحاول الاقتراب شخصيّا من هذا النصّ ولا غاية لي من خلال هذا العمل غير المتعة الذاتية و بلوغ أقصى ما يمكنني من فهم. إضافة إلى أنّ التأويل وإن زعم  بعض روّاده، كما زعم أصحاب نظرية التلقّى، ارتكازه على ثوابت يمكن تفصيل القول فيها، يتجرّد من كلّ ما له علاقة بالمنهج لأنّه فعل يعتمد الخبرة القرائيّة والذائقة الفنّية والرّؤية الجماليّة وهي أمور إلى الحريّة أقرب منها إلى القيود.

" فتحت شبّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها".

- الحقّ أقول أنا أتلصّص من نافذتي فإذا أبصرت بجارتي تخرج و الكلبة، ناديت على كلبي وخرجنا مثلهما نتنزّه أو نتسكّع في الطرقات.

" لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده".

- فجارتنا لم تخرج هذا اليوم على عادتها والكلبة لم تنبح في هذا الوقت على عادتها.

- ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين عاما.

" وأبعد في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته".

- طفل صغير يستحثّ حصانه... وكان حصانه الهزّاز من ساج قديم.

- لا شيء غير حصانك الهزّاز يا ابني، عاريا بردان، يقبع بانتظارك، غير حسرتي الأخيرة.

" أمّ وطفلاها، السّوالف مثل أجنحة السّنونو".

- كان جناحه المخضوب مرآة لأمّي.

- أين السّنونو في سماء البئر يهوي ثمّ يهوي .

_ كان جناحه المخضوب بالحنّاء منسدلا ...

- اللّيل أجنحة السّنونو...

"  و نظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما".

- لم تزل عين مطوّقة بزرقتها تشيّعنا.

"وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل " كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها. وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي، قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب...".

- أن يضحك منّي صرّار ذهبيّ أخرجه فتحي النّصري من أحقاق طفولته فيما كان يفكّر في غيلفيك.

        يمكن أن نذكر أمثلة أخرى سواء كانت جملا كاملة أو عبارات أو كلمات مفاتيح أو إحالات على أماكن بعينها أو أشخاص... استدعاها المنصف الوهايبي إلى نصّه هذا، بل قل ركّب منها هذا النصّ تركيبا. فماذا يكمن وراء هذا الفعل الواعي؟ 

هل نضب المعين كما غاض ذاك البئر الذي كان للجارة؟

ما دلالة هذا التّوظيف للقصائد القديمة؟

هل لهذا علاقة بالحقيقة الكامنة داخل النصّ؟ وما هي هذه الحقيقة، حتّى لا نقول ما هو مقصد الشاعر وحتّى لا نقول ما المعنى الذي يريد إيصاله للقارئ؟ 

محاولة لاكتشاف النصّ:

من الجليّ أنّ الشاعر بنى قصيدته على حكاية ونقصد بذلك تواجد بنية سرديّة واضحة يمكن تحديد مقاطعها أو إن شئت مختلف وظائفها. وهي نزعة درج عليها في أغلب كتاباته في السنّين الأخيرة بل ونجد لها آثارا حتّى في كتابه الأوّل "ألواح" ولا نطمح هنا إلى تبيّن العلاقة بين السّرديّ والشعري في تجربة الوهايبي فقد تناول هذه المسألة غيرنا  بكثير من البراعة و بحث في مفهوم توظيف الحكاية وما يتّصل بها من دلالات. حسبنا أن ندرك هذا النصّ في سرديّته كما نفعل حين نريد تلخيص حكاية وتقديم أحداثها بعد القراءة ولكنّنا نرى لغاية تجريد النصّ الأصليّ من لعبة التّسميّة و إعادته إلى أصله كما لو أنّها لم تكن فيه أصلا. على ذلك يكون كما يلي: 


في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو". 

كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد،  في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع،  رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل.  قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.

وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء. 

كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى المائدة ثمّ ملأت كأسي نبيذا واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض الصّحف لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار النّاس فكدت أعطس مثلهم وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بسريري وفتحت مذياعي فخشخش صوت المذيعة.

لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من نافذتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من المنبّه عالية وطقطقة من المذياع خافتة ونهضت وقفت من برد على السجّاد ثمّ سحبت من الدولاب معطفي ونظرت في المرآة لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.

أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق كرسيّي وسحبت مائدتي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب الألبوم صورة فصورة، صوّر كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .

وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي  قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت جارتي من غضب تدقّ الباب وهي تصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا يفعل الأطفال عند جارتي قل أم هل أصاب جارتي مسّ؟ 

غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أنبح: 

خذي زهرتي هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض النّبيذ وسريري يحتاج من زمن إلى امرأة تشبه جارتنا العزيزة. 


المكان: غرفة في الطّابق العلويّ، بعيدة عن الأرض، خلوة يهرب إليها الشاعر كلّما ثقلت عليه الهموم وحزّ روحه الواقع، وهو مكان لا هو بالأرضيّ ولا هو بالسماويّ هو بين هذا وذاك. عاد إلى غرفته بعد أن خلّفها لمدّة لا نعرفها قد تكون طويلة تفوق العشرين سنة( ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين سنة) وقد تكون قصيرة، يوم واحــد أو بضعة أيّام( قرأت خبرا بائتا...)  

الزّمان: بين الظهيرة وساعات الليل.

الأحداث: فتح الشاعر شبّاكه المطلّ على بلكون جارته فلم يرها، تذكّر حديقة جارته القديمة في بيتهم القديم، بيت الطّفولة، تلك الجارة التي كانت تسقيه( تقدّم ماءها للزّهر مثل السامريّة للمسيح). وترعاه وهو يكبر( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ). وتمسّح عليه بيديها ( بأزهار الحواشي). وتهدهده ( الهدهدة للطّفل كي ينام). حين يبكي. 

البئر الذي كان مصدرا للماء ( لعلّه جفّ)

قال: لعلّ شيئا ما تغيّر.

هو لم ير جارته بل رأى نفسه حينما كان طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته. ولم يعد يسمع صياحه القديم لذلك يقرّر أن يبدّل الأسماء ( أسماء الأشياء الحاضرة أمامه) هو يريد أن يغيّر الواقع، يطلق أسماء جديدة على ما يراه ويسمعه فكان أن انتقى تلك الأسماء الجديدة من قاموس طفولته:

الصنبور، الحديقة، ألبوم عائلته، ضفدع، نهر، ديك، سلحفاة، ببّغاء، أسماك...

                عاد إلى طفولته بفضل هذه الأسماء الجديدة فابتهج وشرب نبيذه( استبدل ماء الجارة الذي كان يرويه بالخمرة) "والخمرة هي ماء الحياة في عرف الشعراء، هي بديل لبن فسكر الصّوفي معنويّ ناتج عن الدّهشة والرّغبة في الاتّحاد بالذات الإلهية والخمرة بالنسبة إليه السبيل الوحيد لإظهار الشيء وجلاء الغموض عنه . 

             تلتقي الخمرة والماء في الإمداد بالحياة فالماء في سيله يسقي الطلل ليعيد إليه حياة سلبها منه الزمن إنّه رواء الأرض  الرواء المعادل لحليب الأمّ في فترة الطفولة أمّا الخمرة فهي ما يسقي ذاتية الشاعر بغية الإحساس بمتعة اللحظة على الأصحّ بغية الحياة . لكأنّ الشاعر بلا هذه الخمرة لا يحيا حياته أو لا يوجد في زمنه إنّها حياته وحليبه الذي يرنو ويتطلّع إليه."  

            شرب إذن خمرته ونام كما لو أنّ جارته سقته وهدهدته وحينما استفاق من نومه استفاق من وهمه( لم أدر كيف نمت وكم). فأراد مواصلة تلك اللذّة الرّوحية لذلك فتح ألبوم العائلة وأخذ يقلّب صوره ( ركّز في النصّ على صورته وهو يبتسم حذو أمّه وأخيه) وهي الصّورة التي ذكّرته بأغنية " قد كان عندي بلبل".

          لقد كان الشاعر في الماضي بلبلا في قفص من ذهب وها هو اليوم صرصر في حقّة من خشب. 

        هذه هي إذن حالة الشّاعر كما يقول ( فقد، والله تشبهني وتشبه حالتي). فيكون ضحكه العالي من حالته تلك ضحك كالبكاء. يحتاج من يسكته ويهدهده ليعود إلى النّوم كما في الطّفولة. لابدّ من الجارة وهي رمز العطاء والحبّ والطمأنينة. لذلك طلب حضورها في الحاضر. وسمع طرقا على باب بيته ولكن... لقد كانت الجارة غاضبة هذه المرّة وعوض أن تمنحه ما يحتاجه فقد صاحت به أن كفّ عن البكاء والتبرّم من الواقع وعن الشكوى من الحاضر لألاّ يستيقظ الأطفال النّائمين أي لألاّ تنتقل شكواك إلى بقيّة الأطفال فيستفيقوا من غفوتهم و يبصروا حقيقة الواقع. وتتحوّل دلالة الجارة ممّا كانت عليه في الماضي إلى رمز للسّلطة القامعة التي تسكت صوت الحريّة.

                        كلّما قام في البلاد خطيب      موقظ شعبه يريد خلاصه 

           وإذا عدنا إلى الدّيك في الأسطورة العربيّة وجدنا له دلالات أبرزها الديك الكوني  وديك العرش أو إن شئنا الأنموذج العلويّ الذي عليه سائر ما على الأرض. والدّيك الكوني ديك أسطوريّ أو ملك بحجم الكون رجلاه في تخوم الأرض السفلى وعنقه مثنية تحت العرش وقد أحاط جناحاه بالأفق مشرقا ومغربا. يقول الكسائي في قصص الأنبياء عن هذا الديك " الدّيوك كلّها من هذا الدّيك" ص 66. وعليه يصبح المطلوب من تسميّة الجارة في هذا النصّ بالدّيك تمثيلها للسلطة التي تريد أن يكون الكلّ على شاكلتها أي تابعا لها وإلاّ فإنّها ستسكت صوته.

          ولكنّ الشاعر يواصل الضحك رغم غضب الدّيك( الجارة) ( السلطة) ويتساءل باستغراب واستهزاء " ماذا تفعل الأسماك عند الدّيك؟" أي ماذا يفعل الأطفال عند الجارة وهي الوحيدة دائما؟ كما يقول في بداية النصّ أي ماذا دهى الناس حتّى يناموا ويطمئنّوا لهذا الدّيك أعني لهذه السّلطة؟ 

هل أصاب الدّيك مسّ؟

هل جنّت هذه السّلطة، فتتصوّر أنّ الأطفال (الشعب) نائم عندها؟

             و يواصل الشاعر استهزاءه فيعتذر من الجارة بمدلولها الذي ذكرنا ويهديها زهرته "وهي لسلاسة بنائها ورقّتها وتنوّع ألوانها وظهورها في فصل الرّبيع قد أصبحت في الأعراف رمزا واستعارة ومجازا وصورة للطّراوة والشّباب وصورة للأناقة الأنثويّة" هي كلّ ما يملكه الشاعر (؟؟؟) ويعرض عليها خمرته لعلّها إذا شربت عادت مثله إلى صورتها القديمة التي في خيال الشاعر والتي يحتاج إليها أي يحلم بها من زمن تلك الصّورة المثالية لعالم يسود فيه العدل والحرية والخير. ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة. وجارتنا هنا ليست صاحبة البلكون بل هي صاحبة الحديقة وليست صاحبة الكانيش بل صاحبة الكلب الحارس وليست تلك التي تريد إسكات غنائه بل تلك التي تقدّم له ماءها مثل السّامريّة للمسيح. جاء في إنجيل يوحنّا أنّ المسيح غادر أورشليم منطلقا إلى الجليل وكانت طريقه تمرّ عبر مدينة السّامرة. وكان قد أرسل تلاميذه إليها ليبتاعوا طعاما، وفي غيابهم توقّف عند بئر يبدو أنّها كانت تخصّ يعقوبا، أحد أجداد الشعب اليهودي. فصادف هناك امرأة سامريّة وطلب منها أن تعطيه بعض الماء ليشرب، فتحيّرت المرأة، كيف أنّه وهو اليهوديّ، يطلب أن يشرب من سامريّة، ذلك أنّ الشعبين كانا يتبادلان ضغينة دينيّة وقوميّة منعتهما من إقامة أية علاقة بينهما فأجابها المسيح:

" لو كنت تعرفين مبادئي لما حكمت عليّ بحسب القاعدة الشائعة بين اليهود ولما كابدت في ذاتك أيّ تردّد في أن تطلبيها منّي ولكنت فتحت أمامك نبعا آخر للماء الحيّ الذي يطفىء عطشك إذا غرفت منه، فهو الماء الذي ينبجس منه نهر يقود إلى الحياة الأبديّة  ".

            يطلب الشاعر وهو النبيّ أن يتعرّف الآخر الممثّل هنا بالسلطة مبادئه قبل أن يحكم عليه بحسب ما يشاع أي دون علم بالحقيقة التي يحملها داخله. إنّه يطلب من الآخر أن يسمعه ويتواصل معه تواصلا يؤدّي إلى التّساقي فالشاعر يؤمن أنّه قادر على أن يفتح أمام الآخر نبعا للماء الحيّ الذي يطفىء عطشه إذا ما أعدم كبرياءه و فتح بابا للحوار الحرّ. 

     يهوذا خان المسيح، فصلب.  ولكنّ كلماته الدّاعية إلى الحبّ بقيت في الأرض ولم تمحها سلطة بيلاطس. كذلك الشعر الجيّد الصّادق، يبقى في النّاس ...

نقرأ في قصيدة يوميات برجوازي صغير للمنصف الوهايبي:

"يا صديقي ما الذي نفعله في زمن 

تحكمه أجهزة القمع وسيف الخونه

ما الذي نفعله في زمن

مارسوا فيه دروب القتل والزّيف

وغسل الأدمغه

غير أن نكتب شعرا

فيه شيء من خيوط الأمل

ربّما يقرأ شعري عامل في منجم

يفتح في الصّخر طريقا

ربّما يهتف في أصحابه كان رفيقا." 

على شاكلة السيموزيز :

         يمكن أن نواصل قراءتنا لهذا النصّ بتحديد الثغرات الموجودة فيه أو بالبحث عن مستويات أخرى للتأويل ( التأويل المضاعف ) على حدّ عبارة أمبرتو إيكو في كتابه الأثر المفتوح . كأن نتّجه إلى الألوان المستعملة داخل النصّ فنلاحظ طغيان الأزرق فقد ذكر في ثلاثة مواضع، بينما لم يذكر الأحمر إلاّ في موضع واحد( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ ) وكذلك الأصفر ( سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي ) في حين غاب اللّون الأسود (  وهذه الألوان هي الألوان الأساسيةالأربعة).

" منذ رأيتها في الأزرق الصّوفي"

" لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما"

"وصرصري في حقّة زرقاء من خشب" 

              نلاحظ في هذه الاستعمالات أنّ الشاعر جعل اللّون الأزرق فيما يحيط أي في الغلاف والغشاء ففي الموضع الأوّل هو للثّوب الذي يحيط بالجسد، جسد الجارة ( ولما كانت الجارة كما ذهبنا إلى ذلك صورة للسّلطة ) فنفهم أنّ السّلطة مغلّفة بالزرقة. وفي الموضع الثاني هو للموجودات التي تحيط بالعين أي كلّ ما يمكن أن تبصره وهو الواقع الماثل أمام العين. أمّا في الموضع الثالث فهو للحقّة التي يعيش داخلها الصرصر أي الشاعر وهي عالمه كاملا . 

         ولمّا كان الأزرق دلالة على التعفّن والفساد ( هذه الأرض زرقاء كبرتقالة) أي متعفّنة وفاسدة . فإنّ الفساد والتعفّن سيطال بالتّالي السّلطة والواقع والعالم، وهي قمّة التشاؤم والسوداوية التي عليها الشاعر. ولعلّ اللّون الأسود الغائب هو لون دواخل الشاعر.

          أمّا إذا ما وجّهنا النّظر إلى العناصر الأولى للحياة وهي الماء والهواء والتّراب والنّار فسنلاحظ حضورا مكثّفا للماء يأتي بعد ذلك التّراب والهواء في حين تغيب النّار كما غاب اللون الأسود في الألوان. فلا نكاد نعثر على ما يحيل إليه إلاّ في دلالة الحمّى التي في قول الشاعر" وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني" ويحيل هذا القول على قصيدة للمتنبّى هي قصيدة الحمّى ومنها:

       وزائرتي كأنّ بها حيـــاء        فليس تزور إلاّ في المنــام

       فرشت لها المطارف والحشايا         فعافتها ونامت في عظـامي 

          فالنّار إذن تسكن دواخل الشّاعر كما سكنها اللّون الأسود. ومن دلالات النّار العذاب والحرقة والحيرة والخوف وضع ما شئت من الدلالات فهي كثيرة ولا ريب.

          أمّا في خصوص لعبة التّسمية التي انبنى عليها النصّ، بل لعلّى لا أجانب الصّواب إذا قلت ركّب حوله نصّ هو في الحقيقة شذرات من نصوص أخرى للشاعر فإنّنا يمكن أن نقسّمها إلى ثلاثة أقسام:

1) تغيير أسماء  الأشياء الموجودة داخل الغرفة تغييرا بينيّا فيأخذ هذا الشيء اسم الشيء الآخر (  الصّحف/ السرير، المائدة/السجّاد، السجّاد/الدّولاب، المرآة/الكرسيّ....) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى. 

2) إطلاق أسماء حيوانات على الأشياء ( شبّاكي سلحفاتي، الأطفال أسماكي، نبيذي ببّغائي، صوت المذيعة ضفدعي) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشّعراء. 

ففي القسم الأوّل يقول الشاعر ( أبدّل هذه الأسماء) أمّا في القسم الثاني فيقول ( أبدّل أسمائي).

ويقول في القسم الأوّل ( ألعب لعبتي ) أمّا في القسم الثاني فيقول ( ألعب لعبة الشعراء ).

       فما دلالة ذلك؟ 

3) تغيير جملة كاملة هي طالع أنشودة حفظناها في طفولتنا ( قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب) ب: ( قد كان عندي صرصر في حقّة من خشب)  هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشاعر قلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي. 

         هل تغيّر اللعب في هذا القسم إلى جدّ وإذا كان الأمر كذلك فهل نفهم أنّ اللعبة التي انخرط فيها الشاعر وهو في وحيد في غرفته قد قادته من تسميّة الأشياء حوله إلى تسمية ذاته فلم يجد اسما يطلقه على نفسه إلاّ الصّرصر أو هو صَرَّارُ اللّيل أي الجدجد وهو حشرة كالجراد يصوّت في الليل وهو أكبر من الجندب وبعض العرب يسميّه الصّدى.  

فهل الشاعر هنا مجرّد صدى وهو الصوت الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها أي أنّه لا يفعل إلاّ ترديد ما يقوله الآخرون وما يشعرون به فيكون بذلك لسان قومه وها هنا مماثلة جوهريّة، الشاعر باعتباره صورة مصغّرة لمجتمعه. 

    أم يكون الصّدى بمعنى العطش. تقول العرب صَدِيَ الرّجل فهو صَدٍ وصادٍ والمرأة صَدْيَا.  

     فإذا كان الشاعر عطشان فإنّه يطلب الرِّوى، أي يطلب الماء كما فعل المسيح مع السّامرية. فهو إذ يطلب الماء يطلب الحياة. 

    أمام ما سبق إذن، يمكن أن نجيب عن السؤال الذي طرحناه في البداية، فنقول إنّ اللعبة لا تقتصر عند الشاعر على اللعب بالأسماء من أجل اللعب بل تتعدّاه إلى اللعب بالنّصوص أي أنّه يعود إلى نصوصه القديمة كما عاد إلى حياته القديمة، إلى أمّه وأخيه وجارته وأناشيده وغرفته وغيرها..

      فكما عاد إلى كلّ ذلك ليأخذ منه ما به يواجه واقعه المرّ، عاد إلى قصائده القديمة ومن لحمها شكّل جسد قصيدته الجديدة.

     فماذا نطلب من شاعر يبوح لك بأنّه مجرّد صرصر في حقّة سوداء لا يرى شيئا ممّا حوله إلاّ أن يغوص عميقا في ذاكرته يبحث فيها عن قطرات من الضوء والأمل؟؟؟

     وحال شاعرنا هي حال أغلب الشعراء العرب المقيمين في أوطانهم. فهل علينا أن نطرد الشعراء العرب من أوطانهم ليعودوا إلى طبيعتهم بلابل مغرّدة للحبّ والأمل والحريّة أم نتركهم، فيظلّوا صراصير في حقق زرقاء من خشب؟