الأحد، 13 سبتمبر 2020

بقلم الآديب محمد الإدريسي


سفينة الهوى
*****

طائرَةُ ، سَفينَةُ الهَوى
اِذْكُريني كما أذْكُرُك
سَألوني عَنكِ مَن تَكون  
التي أنْتَ بِها مَجْنون
قُلتُ مَلاكٌ على الأرْض يَمْشي
في النَّهار شَمْسي
في اللَّيْل قَمَري
حبيبتي طولَ عُمْري
نَسيمُ عِطْرٍ في كِياني
عُصفورَتي الخَضْراء
تُجَمِّلُ السَّماء
اِسْمُكِ على أوْراق الأشْجار 
تُسْقيهِ حَبّاتُ المَطَر
بيْنَ أضْلُعي 
أحْفِظُكِ مِن دُجى اللَّيْل
سألوني عَنْ مَوْلِدي
قُلْتُ لِكُلّ كِتابٍ أجَل
عَيْني بِعَيْنَيْها اِلْتَقَت
دقَّ قَلْبي اليَومَ وُلِدْت
عَلَيَّ اِنْهَمَرَتْ الأشْعار
تَوَلَّعْتُ بِحُبِّها و السَّمَر 
 تَحْتَ نورِ القَمَر
تَحت أغْصانِ الشَّجَر
لَكِ عِشْقُ فؤادي ما لقي  
مِنَ العُمْر ما بقي
مُعَلَّقاً بك سَيَبْقى 
يا ملاكٌ ساقَهُ عِنْدي القَدَر
كَوْكبٌ وُلِدَ عِنْدَ السَّحَر
بَدرٌ لَمَعَ غزا البَصَر
لا يُضاهيهِ البَشَر
أنْتِ حُبُّ كُلِّ الأزْمان
صَبَابَةٌ كما عَرَفَها الفُرسان 
في حكايات كان يا ما كان

طنجة 19/10/2019
د. محمد الإدريسي

مريم محمد المهدي التمسماني


قصيدة ..النساء!
*****
كعادتي كل مساء
لازلت أضع على شفتي
   أحمر الشفاه
......الغامق.....
حتى تستقيم بعض الخطوط
وتشرق ملامحك الشرقية..

ولازال المشط في يدي
أصفف شعري الكستنائي

      بيت القصيد

       واللغز المحير.....

أصفف شعري بدقة
...شعرة بعد اخرى...

تتخلله ذكريات
على مفترق العمر
وأنت... وانت...
لازلت تغالب عطش السنين

و لا تقوى على مجاهرة
كل أسرار العشق
تطوقه
 تخنقه
تقاوم آخر شعرة
"الكبرياء الملعون"

 تصرعك اللهفة
في
لحظة مجنونة

تتمتم أنا لا أقهر

لا تعبث كثيرا مع الحياة
الحياة أقوى منك
و مني
ومن الطاغوت

فالاقدار تفعل ما تشاء
أريد أنا
تريد أنت
الهوى غلاب

لازال المشط ملك يدي
أتحكم فيه
وأغير تسريحات شعري كما أريد
كما أشاء

أمام مرآة العمر
....لا تخذلني...
منديل الرأس الأسود
وحكايات القهر
لا زالت مستمرة
.....والنساء!
........النساء ......؟!


بقلم مريم محمد المهدي التمسماني


طنجة// المغرب

مجد الدين سعودي // إدريس الهكار....المغرب

ادريس الهكارفي قصيدة (بلاش نكتب) :فعل الكتابة صادق وحارق
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _




استهلال
_ _ _ _

ادريس الهكار ...
زجال حكيم ...عاشق للزجل والكتابة بالنسبة اليه مقدسة ومحترمة وهي كما يقول فرانز كافكا: ( الكتابة شكلٌ من أشكال الصلاة).
ويصفه الأستاذ رشيد سكري قائلا : ( إدريس الهكار التازي من الرعيل الذي أصيب بهمس الزجل ، بل بِهوس الكلمة الشعبيَّة منذ نعومة أظافره ... 1)..
كتاباته حكيمة لا تهادن أحدا لأن : ( القلم يجرح غالبا أكثر من السيف.) كما يقول المثل الدانماركي .
يقول عنه الناقد والشاعر نور الدين حنيف : (منْ تازَة نَزَح ، على بحْرِ الزّجل رَكَح ، بقلْبٍ لا يرْتاحُ حتّى تستوي سفينَتُهُ على " جودي " الرّوعة ، بكائِناتٍ هيَ كلماتٌ لا كالْكلِمات ، وحُروفٌ في النّقاءِ سامِقات ، تَغْشَى بَصَرَكَ وأنتَ تتّهِمُها بالْبَساطَة ، فيعمِيكَ شُعاعُها لأنّكَ لمْ تحْسِبْ للسّنا فِيها حسابا ... وَ فاتَتْكَ آنَئِذٍ فُرَصُ الْعوْمِ في سَدِيمِ الْعِشْقِ عنْدما يكْتَسِي لوْنَ الْمَحَبّة الْإنْسانِيّة لِلْإنْسانِيّة جمْعاء  4 )
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

القسم الأول
_ _ _ _ _ _

في السيرة الذاتية
_ _ _ _ _ _ _

من مواليد ضواحي مدينة تازة سنة 1952
اشتغل تقني فلاحي ثم محاسب
تابع دراسته الابتدائية والثانوية والتقنية بالرباط
له اسهامات في الشعر الفصيح والزجل والقصة القصيرة
له ديوان زجلي بعنوان (سوق راسي)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

في العنوان
_ _ _ _ _

(بلاش نكتب) هو عنوان قصيدة زجلية للشاعر ادريس الهكار ...
وهي عبارة عن بوح عن (الكتابة ) بغيرة على الكتابة وصدقية الخطاب وشفافيته، فالقصيدة الحقيقية تلامس كل الجوانب وتعري الواقع ولا تهادن أو تستسلم.و(الكلمة) رسالة ناضجة ومسؤولية حقيقية  ...لأن :( الكتابة انفتاح جرح ما ) كما
يقول فرانز كافكا .
(بلاش نكتب)عنوان يحمل عمقا كبيرا وتصورا حقيقيا ... ف (لا تقود الكتابة الا الى المزيد من الكتابة) حسب كوليت.
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ __

القسم الثاني
_ _ _ _ _ _

الفصل الأول: الكتابة ضد التزييف
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

في بوحه الزجلي (بلاش نكتب) يؤكد الزجال ادريس الهكار على شفافية الكتابة وعدم زيفها ، لأن الكتاباة تتولد من المعاناة كما تؤكد أحلام مستغانمي: (  لتكتب , لا يكفي ان يهديك احد دفترا واقلاما , بل لا بد ان يؤذيك احد الى حد الكتابة.).
يقول الشاعر ادريس الهكار:
(بلاش نكتب
إلى كنت غ نضحك عل الكلمة
ونكتبها معاني مغشوشة
وتضيع لحروف فواد الغضبة
وتـتخبى النقاط بين الحدورة والعقبة
ما هي فسما طايرة
غير عل الأرض تغش .. وتحمي الكوشة
دخاخنها عجاجة .. تحرق البرواك والدومة)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

الفصل الثاني :الكتابة مرآة وسمعة الكاتب
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

ينطلق ادريس الهكار من أهمية فعل الكتابة التي تمثل مرآة الكاتب ، وقد صدق الروائي الجزائري الكبيرواسيني الأعرج عندما قال: ( الكتابة لا شيء سوى رعشة الألم الخفية التي نخبئها عن الآخرين حتى لا يلمسوا حجم المأساة وجحيم صرخات الكلمات المذبوحة بنصل صدىء ).
فيقول شاعرنا:
(وما نبغيش
ما نبغيش .. تطيح الصمعة ونبقى بلا سمعة
أنا الكلمة على راسي شان وهمة
ونقولها بالفور.. زيد فالموتور يا شيفور
يا الله نكتبو جميع ذيك الكلمة
نفرحو شي نهار ونغنيوها معنى)
وكأنه يصدح بلسان الفنان (الفار الت):(  أنا لا أكتب ، أنا أبني)
 _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

الفصل الثالث :أهمية الكتابة
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

يواصل الشاعر ادريس الهكار بوحه الشعري عن أهمية الكتابة التي قال عنها محمد شكري :(  إن الكتابة تبارك من يخلص لها ولا تتخلى إلا عن الإنتهازيين)، لهذا يؤكد شاعرنا:
(كيفاش
انت يا ذاك السطر يا القاري
شد النوبة بحال خوتك
وشطب ما بين السطورا
واخة ما بقى صف ما بقاو صفوفا
غير البكى ضحك والضحك بكى
والعين واخة تشوف كتعمى
والفم بلا لسان صار حشومة
شكون يغمز هاذوك النوامة)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

الفصل الرابع : (كتابة صفراء: كتابة ميتة)
_ _ _ _ _ _  _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

ان كتابة ادريس الهكار ضد النفاق وتجميل الواقع لأن قلبه عاري من كل الأشواك كما قال عبد الفتاح كيليطو:
عبد الفتاح كيليطو   ( كنت دائما متأثرا بعنوان لبودلير: «قلبي عاريا»، من الممكن أن هذه هي الكتابة).
ولهذا يواصل الشاعر ادريس الهكار:
(كيفاش
سدو البيبان وكلاو الكاغيط
ها لخضر ها لصفر
والباقي .. بلا لون مشري
الكارطة فالجيب كتبري
يا حلومة
كيفاش
بانو لي فالمنام وانا فايق
كيشمو المرقة وياكلو الكيسان
لحسو صباعهم ونساو الفوطة
وبلاش الفوطة .. أنا زعفان)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

خاتمة
_ _ _ _ _

وأجمل ما نختم به هو نهاية النص الزجلي(بلاش نكتب):
(بلاش نكتب
إلى كنت غ نضحك عل الكلمة)
فهذا غوستاف فلوبير يعترف قائلا: (أنا غاضب من كتاباتي الخاصة ، أنا مثل عازف كمان أذني الموسيقية سليمة لكن أصابعي ترفض إعادة اإتاج المعزوفة التي أسمعها بداخلي .) .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

احالات
_ _ _

1 رشيد سكري: ديوان « سوق راسي » لإدريس الهكار التازي : التشكيل بلغة الزجل
2 عبد الرحمان الصوفي : التناص الامتصاصي ومنطق سيميائية المحسوس في الديوان الزجلي - سوق راسي - لإدريس الهكار
3  محمد منير شرف الدين :  (عن الكتابة أكتب )
4 نور الدين حنيف : (إدريس الهڭـار التّازي شاعِرٌ يصْرُخُ بِأصْواتٍ منْ حَرِير)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

النص الزجلي (بلاش نكتب) لادريس الهكار
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

( بلاش نكتب
إلى كنت غ نضحك عل الكلمة
ونكتبها معاني مغشوشة
وتضيع لحروف فواد الغضبة
وتـتخبى النقاط بين الحدورة والعقبة
ما هي فسما طايرة
غير عل الأرض تغش .. وتحمي الكوشة
دخاخنها عجاجة .. تحرق البرواك والدومة
.
وما نبغيش
ما نبغيش .. تطيح الصمعة ونبقى بلا سمعة
أنا الكلمة على راسي شان وهمة
ونقولها بالفور.. زيد فالموتور يا شيفور
يا الله نكتبو جميع ذيك الكلمة
نفرحو شي نهار ونغنيوها معنى
.
كيفاش
انت يا ذاك السطر يا القاري
شد النوبة بحال خوتك
وشطب ما بين السطورا
واخة ما بقى صف ما بقاو صفوفا
غير البكى ضحك والضحك بكى
والعين واخة تشوف كتعمى
والفم بلا لسان صار حشومة
شكون يغمز هاذوك النوامة
كيفاش
سدو البيبان وكلاو الكاغيط
ها لخضر ها لصفر
والباقي .. بلا لون مشري
الكارطة فالجيب كتبري
يا حلومة
كيفاش
بانو لي فالمنام وانا فايق
كيشمو المرقة وياكلو الكيسان
لحسو صباعهم ونساو الفوطة
وبلاش الفوطة .. أنا زعفان
.
وعلاش
المعنى عليا وعليك يا مول النوبة
مدادك شربتيه قبل ما يوذن لفقيه
الوسخ ساح يا ذاك الكلمة
لبسي معانيك .. بغيت نسولك آش طرى ليك
واش زعما ينفع غسيلك .. صابون تازة ....؟

بلاش نكتب
إلى كنت غ نضحك عل الكلمة..)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

إدريس الهكَار (شتنبر 2020)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

مجد الدين سعودي 

جميلة محمد

زجلية  رثاء   للمرحوم  الصغير عدنان ..المتوفى ..اختطافا واغتصابا  وتنكيلا بجسده الصغير ...
إلى جنة الخلد باذن الله..يا صغيري.
انت الى جنب رب العالمين .وقاتلك ...الى نار الجحيم ..في الدنيا والآخرة ..( ان الله يمهل ولا يهمل).
--------------‐---------------‐-----------------------------------------

يا ليل ...ي
شحال  طواليتي 
سالف عبلة وليتي ..

نعست  خايف منك .....
هارب من  كورونا ..

هارب من عديان...الوقت 
 كنعرفوهم ويعرفونا ..

داير بحسابهم....
  وليت  ف زماني...
..... "عنترة "

..عينية....وراية ..
حطيتهم ف قفاية 
باش ما يغفلونا ..

ظنيت عدوية... أجنبي

واش تصدقوا ...؟
عدوية من...جنبي 

خوية ....جاري.....
من اهلي ...واحبابي

ذاك  الي ثايق فيه ..

ذاك الساكن يابو 
...قدام بابي..

ذاك إلى وصاه
  ووصاني عليه النبي
 (صل الله عليه وسلم )..

ذاك الي عايش  عمري
...خايف علية وعليه 
.... وا.... غذرني ..

وا خطف من بين يدي 
...عدناني   ..
.       وا.....رزاني ..

وخلاني بحسرتي.. .
من ..حر الشمتة. ..
....كنعاني....

وا.....دموعي...
ولو بالدم  ما كفياني.. 


ياك  ...هاذي  الفراقة ...
دات....الحراقة
دات ...  المرضى ..
خدات شلة ...أبرياء
 .

على كل طريق
..وبكل  لون ..
اليوم... 
  تابعاني...السراقة 

غفلتني ...يالخوت
غفلتيني ... يا  الموت

 من بين يدي
 خطفتي عدناني ..

وا....خلاتيني بحسرتي.
..   من حر  الشمتة.
.  اليوم  ..كانعاني.....

فين كنت ؟
فين كان عقلي؟ 
اشنو عليه  لهاني؟

..سؤال .ورا..سؤال .
وخ  ... أنتم صدقتو  ..
وانا شفت بعيوني 

وا ...عيوني...
 والله ما مصدقاني...

واش بصح..هاد شي.. يا وطني...؟!
ولا ... اشاعة... وبلعاني  ..

جميلة محمد 
انا لله وانا اليه راجعون

الخميس، 10 سبتمبر 2020

محمد أديب السلاوي

في مغرب اليوم، من يقود من …سؤال الثقافة أم ثقافة السؤال؟ 



-1-

 الثقافة، كلمة واسعة وشاسعة، لا يحدها زمان ولا مكان، ولا تحدها معرفة ولا علم، فهي كل أدوات الحضارة الإنسانية، وهي التراث الإنساني في كلياته، وهي الفكر في شمولياته، وأبعد من ذلك هي كل العقائد والديانات، الشرائع والقوانين... وكل ما ينتج عنها.
 والثقافة في إتساعها، تحولت إلى ثقافات سياسية واقتصادية ومعلوماتية وأدبية وفنية... واللائحة بعدد العلوم والاختصاصات، التي تنتمي إلى الثقافة، طويلة وعريضة.
فإلى أي حد يمكننا قياس هذه "الثقافة"، على أجهزتها في بلادنا؟
طبعا، مثل هذا السؤال يستدعي على الأقل، استحضار الوضع الثقافي العام، خلال القرن الذي ودعناه دون أسف، في سياقاته ومراحله وأزمانه، وهو ما يحتاج إلى كتب ومؤلفات... وإلى جيش عرمرم من المؤرخين المختصين. فالوضع الثقافي المغربي، خلال المائة سنة الماضية، بالقياس إلى الأوضاع الثقافية في البلدان المتوسطية التي تتقاسم معنا المتوسط، كان وضعنا في قيمه وانتاجيته وسلوكياته، بين الرجاء والترنح، بين الوعي والتحديث والمثاقفة والتجاوز والانجداب نحو التراث الماضي/ بين الهوية والاختراق، في محاولة للبحث عن النموذج البهي الذي ورثناه عن سنوات الانحطاط... وعن سنوات العزلة الحضارية.

-2-

خلال القرن الماضي، وفي خضم الغزو الثقافي/ العسكري/ السياسي، المتعدد الأهداف والصفات، انتقل المغرب من نظم ثقافية ميتولوجية/ شفاهية/ ومقدسة، إلى النظام المعرفي الحديث، القائم على المعرفة التجريبية، والكلمة المطبوعة، ليبدأ نقلة ثقافية جديدة، إلى عالم ما بعد الأبجدية/ عالم المعلوماتية ووسائل الاتصال الإلكترونية...
هكذا عندما انتقل المغرب إلى الألفية الثالثة، وجد نفسه محاطا بأنماط ثقافية/ عربية/ فرنسية/ أمازيغية، متداخلة ومتشابكة ومتناقضة، متعددة متصادمة ومتراكمة، يسعى بعضها إلى إلغاء البعض الآخر، إلا أنها في المحصلة النهائية أصبحت تشكل نظاما معرفيا يشتمل على انتاج المعاني/ منتجات العقل، وهو نظام رغم ما يعانيه من صراعات، يتوخى تحديد موقع المغرب في الزمان والمكان، وخدمة القضايا الأساسية المتصلة بالتغيير الديمقراطي، وفي ذات الوقت يربط الرهان الثقافي بالرهان السياسي، الذي بلور الوعي بضرورة الفعل الديمقراطي في المغرب الراهن... والمغرب الذي تتطلع إليه الأجيال الصاعدة.
ولأن مجتمعنا المغربي، خلال القرن الماضي، والقرون التي قبله، كان عبارة عن كيانات سياسية، فإنه أصبح مدعوا في إطار هذا الزخم الهائل من المتغيرات التي حملتها رياح الألفية الثالثة، أن يعيد النظر في المسلمات والبديهيات التي تحكمت في القيم والآليات التي مازالت متداولة على جغرافيته، منذ عدة قرون.

فالثقافة في عالم اليوم، لم تعد فقط فضاء للابتكار والإبداع، ولكنها تحولت إلى وعي نقدي، تسنده قيم الحرية والمساءلة في المجتمع السياسي والمجتمع المدني... تحولت إلى فعل يومي لتحصيل المعرفة وتربية الذوق وتنمية الملكة النقدية... وهي بذلك وضعت نفسها في مواجهة القيم السلبية والرجعية التي تسعى إلى تحويل الثقافة والمثقف إلى "أعوان" للسلطة وخدامها.
لذلك تظل الثقافة في عرف الأنتربولوجيين وعلماء علم الاجتماع الثقافي، بنية متحولة باستمرار، وخاضعة لتأويلات التجارب الجديدة التي تصادف التاريخ في صيرورته، ولذلك أيضا يرى العديد من العلماء والباحثين، أن الثقافة ستظل شرطا أساسيا لإعادة بناء الرؤى حول القضايا الحيوية المرتبطة بالإنسان وبجوهر كينونته.

-3-

خلال العقود الخمسة الماضية، حيث تغير العالم بشكل كبير، وفق مستجدات التكنولوجيا الجديدة وجد المغرب نفسه أمام مشهد ثقافي في يهمن عليه تصور محكوم بآلية الاعتماد على الغير/ الآخر، إذ كنا منذ بداية القرن المنصرم نستكين إلى وعي ناقص، لا يستقيم بدون الآخر... وفي مثل هذه الحالة جعلتنا السياسات الرسمية طيلة العقود الأخيرة مجرد مستهلكين للثقافة، لا نستطيع التعامل مع الواقع دون وساطة أو إسقاط، وهو ما جعل "المثقف" المغربي مرغما في محطات عديدة من هذا التاريخ، بعيدا عن الفاعلية،بعيدا عن مجرى الزمن وإيقاع التاريخ المتحول، وبعيدا بالتالي عن إشكالاته ورهاناته.
 والسؤال المتردد عن المشهد الثقافي العام بمغرب الألفية الثالثة، ينصب على المجتمع الحداثي الذي نتخذه شعارا لمرحلة الانتقال الديمقراطي، والذي لا يمكن تصوره بمعزل عن وضعية الثقافة التي أصبحت تشتغل بعفوية وتلقائية في غياب تام لأي برامج أو مشاريع أو سياسات، ذلك لأن الانتقال  المنشود، هو قبل كل شيء تصور ثقافي قبل أن يكون نضالا سياسيا، وهو ما يجعل غياب إستراتيجية وطنية واضحة ومحددة لتحديث الثقافة، وجعلها في مستوى "العصر الديمقراطي" إستراتيجية بديلة قائمة الذات، لتكريس تخلفنا الثقافي، ولإبطال مفعول طاقتنا الثقافية.
 إن الانطباع الذي يخرج به المتأمل في الوضعية الثقافية بالمغرب الراهن، يؤكد أن الأسئلة الحائرة التي تحيط بهذه الوضعية تستمد ذاتها من وضعية السياسة الثقافية لمغرب الألفية الثالثة/ من وضعية ومفاهيم وبرامج سياسات وزارة الشؤون الثقافية/ من مفاهيم المشهد الحكومي/ الحزبي العام بالبلاد/ من وضعية المثقف المغربي، المتأرجحة والمتأزمة/ ومن خلال علاقاته بالسلطة وبالتحولات المجتمعية.
 في عمق هذه الوضعية، تسود الفرقة والانفصال، ويحتمي العديد من الفاعلين الثقافيين بالعزلة القصوى، مثلما يحتد منطق الاقصاء، ويتنامى المنطق الدرائعي البراغماتي المؤسس على "الفرضية" وعلى تشكيل صورة افتراضية بعيدة عن الواقع المضحك/ المبكي للمثقف ولمواقفه وخطاباته.

 في عقود القرن الماضي جرت العادة، أن يطرح السؤال نفسه، عن دور المثقفين في أزمنة الأزمات الكولونيالية، وفي لحظات التحول التاريخي داخل مجتمعنا المغربي، الذي أقر واعتمد على الوظيفة الاستثنائية للمثقفين الملتزمين بالأسئلة الاجتماعية الكبرى، استطاع العديد منهم تحقيق معجزات سياسية/ اجتماعية/ ثقافية لا يمكن نكرانها.
 وفي هذا السياق لابد من الإقرار، أن أدوار المثقفين المغاربة في عقود القرن الماضي حتى وإن كانت جزء من وضعية التراجع العامة الحاصلة في الواقع المغربي، إلا أنها فاقت أدوار باقي الفاعلين في المشهد التاريخي، في تنوعاته وتعقيداته، ليس بسبب وعي النخبة الثقافية المبكر، ولكن أيضا، بسبب إيمانها وإصرارها على التغيير... والانتقال إلى مرحلة أحسن.

-4-

 من داخل هذه الانشطارية، التي فرضتها علينا ظروفنا الخاصة، ظهرت تفجرات ثقافية، تبشر بالتجديد المعرفي/ التكنولوجي، تسعى إلى نقل الثقافة المغربية، إلى مستوى تطلعاتها، نحو عصرها الجديد دون أن تقطع مع "التراث" في مراتبه وتصنيفاته.

 ومن داخل هذه التقاطعات، المتحكمة في مشهدنا الثقافي، تصر الثقافة المغربية في شمولياتها، على إعادة انتاج هويتها التي هددها/ يهددها الغزو من كل جانب، لتظل بعيدة عن سلطة التقرير متشبثة باستقلاليتها حتى وإن لم تستطع التخلص من الماضي ولا من قيوده... ولم تعمق تواصلها مع الحداثة بشكل منهجي/ عملي.

 نعم، قبل أن ينتقل العالم إلى الألفية الثالثة، ظهرت على ساحة هذه الثقافة، اتجاهات الحداثة في النثر والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية، وفي فنون إبداعية أخرى، لكن "اتجاهات" الثقافة العلمية، التكنولوجية/ الأكاديمية، ظلت "تتبلور" ببطء، تتوسل الاقتراب من العالم في نهضته الثقافية، دون أن تتمكن من ربح الرهان.
 ويجب الاعتراف هنا، أن الاتجاهات الحداثية التي ظهرت متوسلة، قد أحدثت تحولات عميقة في اهتمامات النخبة المثقفة بعيدا عن أي سياسية أو توجيه أو إستراتيجية، حيث أصبح التفكير منصبا حول دور الثقافة في الانتقال الحضاري، الإنساني، بعدما أصبح "الإنسان" في حاجة إلى حضارة بديلة نابعة من صميم المكونات الإنسانية، وثقافتها المتقابلة والمتعارضة، فالانتقال الثقافي المرغوب فيه، يشترط عدم التنكر للعقلانية، ورفض الانغلاق داخل المرجعيات المذهبية، وإعطاء المزيد من الاهتمام إلى الآخر، وهو ما يتطلب من هذه الثقافة المزيد من الصبر والاندماج والتواصل، ومن المواجهة، والاقتراب من التخطيط العلمي/ الإيجابي.

-5-

 السؤال الذي تطرحه مثل هذه الوضعية: هل يعكس إدراك النخبة المغربية، واهتماماتها بالشأن الثقافي إحساسها الزمني بالاستحقاق الراهن، موضوع السؤال؟
 الأكيد أن الوعي الذي يتحصل على النخبة الثقافية/ المفكرة والمبدعة تجاه هذا الاستحقاق، هو الذي يبيح لها وضع نفسها في علاقة مباشرة مع تراثها الثقافي، مع تطلعاتها المستقبلية في نفس الآن، فهي تواجه الثقافة الإمبريالية، والثقافة الصهيونية، والثقافة الغازية المتعددة الأهداف، بثقافة تواجه موضعيا تحديات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تنطق بلغة الممارسة النضالية الحية، أو بلغة التراث العريق والمتجدر في الهوية والتاريخ، ولكنها تكرس قيم العقلانية والاستنارة والإبداع والخلق وروح النقد والتجديد خارج أي تخطيط أو توجيه أو دعم أو رعاية، وتصر على التحرر الإنساني والتقدم الاجتماعي، وهو ما يترجم بعمق إحساسها الزمني بالاستحقاق السالف الذكر.

 إن النخبة الثقافية المغربية، تعتبر الثقافة من المحفزات والدعامات الأساسية لهذا الاستحقاق، فهي رهان تفرضه وتحتمه العولمة وتتطلبه التنمية الشاملة، وحتى يتحقق الفعل الثقافي بنضالاته وتطلعاته ورهاناته، لا بد من تحقيق شروطه الموضوعية، أولها أن تكون للثقافة مؤسسة راعية قادرة على حماية الثقافة والمثقفين من التلف والاندثار، قادرة على تحفيز المجتمع على دخول رهانات المستقبل، ولن يتأتي ذلك دون عدالة ومساواة وديمقراطية وانتقال ديمقراطي ومواطنة كاملة.

-6-

 المثقف المغربي، الذي يعمل خارج أي سياسة أو إستراتيجية ثقافية، أضحى يعاني سلسلة أزمات لاحد لها، فهو يعرف دوره في المجال ولكنه ضائع بين ضغط السلطة وبين تزلفه إليها، فهو أما عميل لهذه السلطة، أو متصارع معها.
 والملاحظة الأساسية التي يمكن تسجيلها عن الوضع الثقافي المغربي، في ظل المؤسسة الرسمية للثقافة/ السلطة الثقافية، هي أن هذه الثقافة بدأت تعود مكرهة إلى الخلف، ولم يعد لها التأثير المطلوب، وإن المثقفين بسبب هذه الوضعية، انعزال بعضهم عنها وأصبح البعض الآخر يشعر بلا جدوى الثقافة.
 من هنا، يمكننا أن نطلق سؤالا آخر: هل تملك حكومة المغرب الجديدة/ القديمة، تصورا استراتيجيا متكاملا للتغيير الثقافي، يأخذ بعين الاعتبار التبدلات السريعة التي حدثت في القيم الثقافية بمغرب الألفية الثالثة؟ وهل تعي هذه الحكومة... ووزارتها المكلفة بالشؤون الثقافية تبذل الأنساق الثقافية وقيم التبادل الثقافي..؟ أم أن خطابها الثقافي مازال منغمسا في الأحلام الرومانسية والشعارات الدعوية الجوفاء؟
 إن الحكومة الراهنة، كالحكومات السابقة، وربما حتى اللاحقة، لا يمكنها في منظورنا أن تتعامل مع الثقافة سياسيا أو استراتيجيا، إذا لم تجعل منها فضاء للابتكار والإبداع وتأسيس وعي نقدي تسنده قيم الحرية والمساءلة في المجتمعين السياسي والمدني/ لا يمكنها ذلك إذا لم تستفد من الثقافة في القطاعات الإنتاجية الأخرى/ إذا لم تجعل من الثقافة، إسهاما يوميا لتمكين المواطن من تحصيل المعرفة والتربية والذوق والإحساس الجمالي وتنمية الملكة النقدية.

 نعم، إن التعامل مع الثقافة كسلطة رمزية ومعرفية، يتنافى والمهام المنوطة بها وبأدوارها ومسؤولياتها، حيث تقوم السياسات الرسمية على تكريس قيم القبول السلبي بالأوضاع المتردية القائمة/ القبول بانعدام الثقة في فعاليات المؤسسات السياسية/ القبول يجعل الثقافة وإنتاجيتها حبرا على ورق، وكلام رومانسي، لا يغني ولا يسمن من جوع.
 لذلك اعتبر العديد من المحللين والسياسيين، وحتى بعض المثقفين، أن وصول شخصية تقدمية إلى موقع المؤسسة الرسمية للثقافة في هذا الظرف التاريخي المتميز، فرصة جديدة لوضع السؤال الثقافي المغربي في موقعه الصحيح، موقعه المرتبط من جهة بمفاهيم التقدم المجتمعي والحداثة والانتقال الديمقراطي. وبمفاهيم التعددية والاختلاف من جهة ثانية.

 إن العديد من الفعاليات الثقافية، اعتبرت إن الفرصة أصبحت مواتية من أجل التداول والحوار مع الحكومة الجديدة القديمة، من أجل تشخيص الوضعية الثقافية الراهنة بالبلاد، ووضع الأسئلة المختلفة العميقة من أجل تحديد أسباب أزماتها المتراكمة، وإيجاد الحلول المناسبة والممكنة لها. ومن أجل إعادة النظر في منظومتنا الثقافية، ليس فقط بسبب الدعوات المتزايدة للإصلاح في كافة القطاعات، ولكن أيضا بسبب التحديات التي أضحت تملي إرادة التغيير على مغرب الألفية الثالثة، الذي شاهد/ يشاهد انهيار مجموعة من القيم والمفاهيم الثقافية والسياسية التي أثبتت جدارتها لعقود بعيدة، في الوقت الذي بدأت تبرز فيه أجيال جديدة، بخطابات جديدة، ووعي جديد، متشبع بالحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والذات والهوية، وغيرها من القيم الثقافية.

 أفلا تدركون..؟

محمد أديب السلاوي

لنتحدث قليلا عن العالم القروي.

محمد أديب السلاوي

-1-

ان الحديث الجاري اليوم عن الإصلاح، يفرض علينا أن نرتب قائمة الإصلاحات المطلوبة لمغرب يريد السير نحو التطور والتقدم والرفاهية، على أساس الأولويات الملحة والمستحيلة.
في وضع المغرب الحالي الذي يمثل على القرن القادم سلسلة من الأزمات المترابطة وبتعداد سكاني يقرب من ثلاثين مليون، غالبيتهم أميون / عاطلون / فقراء، ينتمون ويعيشون بالعالم القروي، يشكل نموذجا بارزا للتخلف والفقر .
هكذا...وعندما يبدأ الحديث عن التغيير والإصلاح، في إدارتنا واقتصادنا ومجتمعنا ودستورنا. يقضي الواجب علينا تركيز هذا الحديث على البادية المغربية وعالمها القروي، لأن  وضعيتهما الراهنة صعبة للغاية ومحرجة للغاية، وهو ما يدعو إلى جعل كل الإصلاحات تبدأ بهذه الوضعية، وبالانكباب الفوري والعاجل عليها قبل أن تصبح مستعصية، وخارجة عن أي تخطيط أو برنامج أو إصلاح.
إن العالم القروي، ونتيجة لتراكمات مشاكله وقضاياه، أصبح بلا وضعية، فهو عالم للفقر وللبطالة وللجهل وللأمية والتخلف في صورته الشاملة. وهو من جانب آخر، عالم للتجارب الفاشلة، وللابتزاز والقهر. فلاحو الصغار أصبحوا عاجزين عن تلبية أبسط حاجياتهم اليومية في غياب الإدارة الحكيمة. وفي غياب التخطيط والإرادة والإمكانيات التي من شانها إعادة الاعتبار للعالم القروي ولساكنته ولموقعه وعطائه.
إن العالم القروي، لم يصل إلى هذا التدهور، نتيجة سنوات الجفاف التي ضربت "الزرع والضرع" ولكنه وصلها في الحقيقة نتيجة للتهميش المتواصل الذي تسلط عليه وعلى فلاحة الفقراء، وهم أغلبيته المطلقة بلا منازع.
ولعل المسؤولون عن هذا التهميش، وعن تدهور الفلاحين وعالمهم القروي، أصبحوا يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الانعكاسات السلبية لوضعية العالم القروي، خطيرة وعظيمة على الاقتصاد الوطني عامة، وعلى سوق الشغل بصفة خاصة، نظرا لعمق دور الفلاحة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

الفلاحة، كما أكد ذلك جلالة الملك لعدة مرات، ركيزة أساسية من ركائز اقتصادنا الوطني، عليها ينبني صرح نمائنا وتطورنا، وعليها تنبني قلاع تقدمنا.
ومن قال الفلاحة، قال العالم القروي، لأجل ذلك نكرر القول، أن الإصلاح الأساسي يجب أن يتجه إلى الفلاحة وعالمها القروي، على أن يكون هذا الإصلاح شاملا وكاملا، يغطي مختلف المناحي الفلاحية والبشرية، ومختلف القطاعات ذات الصلة بها.
أمامنا كمثال على هذا التوجه دولة اليابان :
إن قصة نجاح اليابان في هذا المجال، تكمن في الإصلاحات التي اعتمدت على إنعاش العالم القروي، باعتباره محطة الانطلاق نحو المستقبل، وثمة مثالان آخران احدث عهدا هما مثال كوريا ، مثال الصين اللذان خرجا من أزماتهما في التشغيل والإنتاج بفضل المكانة البارزة التي أعطيت للزراعة في سياستهما التنموية وفي إصلاحاتها الاقتصادية.
إن الأمر يتعلق في عمق الإصلاحات الزراعية في العالم اليوم، بتحقيق الاكتفاء الذاتي في التغذية وإقامة صناعات زراعية وتحويلية في مستوى مطامح السوق العالمي التنافسي وفي مستوى الإمكانات التي تتيحها الأرض المغربية...وعصرنة الفلاح ومحيطه / العالم القروي.

-2-

في الإحصاءات الرسمية، يحتضن العالم القروي مل يقارب 65% من سكان البلاد، يعيش اغلبهم على الزراعة والمهن الفلاحية.
وفي الأرقام الرسمية، لا يستفيد العالم القروي المغربي، إلا من 35% من الدخل القومي، في حين تزيد نسبة نموه السكاني على 3.13%.
من أجل ذلك أولت أدبيات الحركات السياسية المغربية، ومنذ بداية عهد الاستقلال، اهتمامات خاصة لمشاكل وقضايا وأوضاع العالم القروي، باعتباره ساحة تكرس عليه التهميش منذ العهد الاستعماري (1956-1912)ن تفاقم تخلفها، كما تفاقمت حاجياتها الأساسية من التجهيز وكل البنيات التحتية، سواء في المرافق العامة أو في الصحة والتعليم والنقل والتشغيل والسكن.
العالم القروي قاعدة أساسية لكل تنمية فاعلة،ولكن إقلاع حضاري جديد، ومن ثمة طالبت الحركات الوطنية بمخطط اقتصادي/ اجتماعي / ثقافي، مستعجل للإنقاذ هذا العالم والدفع به إلى الإسهام الفعلي في التنمية الوطنية. معتبرة أن تهميش الأسلوب الديمقراطي في تسيير الإدارة المحلية للعالم القروي كما في التجهيزات والدعم المادي، إلى المزيد من التخلف والتهميش والتسلط والطغيان... وبالتالي أدى إلى التدهور والتراجع والفقر والأمية، حيث تعرض إلى حالة استنزاف قصوى بسبب الكوارث الطبيعية التي ألمت به خلال السنوات الأخيرة، الجفاف والفياضانات والعواصف وزحف الرمال، وبسبب الهجرة والتفقير وضعف البنيات الأساسية من طرق وإنارة وخدمات صحية وتربوية ورياضية وغيرها... وهو ما أدى إلى ما يشبه الانهيار.
أن مؤشر النمو الديمغرافي في العالم القروي،سيبقى من أعلى المؤشرات وطنيا وربما عالميا، ومؤشر الفقر والأمية والتخلف بهذا العالم سيبقى أيضا، من أعلى المؤشرات وطنيا وربما عالميا.
ما هي البدائل الممكنة لإخراج العالم القروي من حالة يأسه وبؤسه ؟
تقول الأدبيات السياسية للعديد من الأحزاب المغربية، أن تقدم وتنمية العالم القروي يقتضي الاستخدام الكلي لثرواته البشرية والطبيعية والثقافية وتشجيع المبادرات الخاصة للفلاحين والمشاركة النشيطة لعناصره، لتحقيق تنمية حقيقية، تضمن العيش والتكافل لسكان هذا العالم.
أن الرفاهية الاجتماعية، أو ما يمكن ترجمته ب"الكرامة" التي رددها السيد محجوبي احرضان، وهو زعيم يستمد مكانته في العالم القروي
 هي الهدف الأساسي لهذه الرؤية، بل هي المرتكز الذي تقوم عليه فلسفتها، وهي تتطلب سلسلة من الإجراءات الأولية، كالقضاء على الأمية والفقر والبطالة والظلم والاستغلال. والارتقاء بالمستوى المادي والروحي للمواطنين...وهو ما عجزت عنه العديد من السياسات والحكومات التي سجلت اسمها على تاريخ المغرب الحديث.
"الكرامة" هي أن يضمن الوطن لمواطنيه ما يصون "كرامتهم" من الولادة الى الموت، بالارتكاز على الحق الأكبر الذي وهبه الله للإنسان / المواطن.
وتقول الأدبيات أيضا، أن كرامة الفلاح وعالمه القروي تتوقف  بالدرجة الأولى على التعبئة القصوى لجميع ثروات العالم القروي واستخدامها الاستخدام الفعال والرشيد، مع اتخاذ تدابير للإسراع بإلحاق العالم القروي بالعالم الحضري، وبتصنيع العالم الزراعي وإعداد برامج تكاملية للتنمية القروية، وهي نفسها البدائل الممكنة لإخراج العالم القروي من حالة بؤسه ويأسه ومحنته.

-3-

يرتبط العالم القروي ، بسلسلة من القضايا أهمها قضية الأمن الغذائي، الدعامة الأساسية هنا وفي كل العالم للبقاء، حيث تستمر الجهود الدولية من اجل الابتعاد عن فاجعة الجوع، لتصبح قضية إنتاج واستهلاك الغذاء من أعقد القضايا المستحوذة على التفكير الإنساني، فهي مدار بحث مختلف المؤشرات العربية، سواء في نطاق المنظمات المتخصصة، أو المؤسسات الإنمائية، بحيث بات هاجس توفير الغذاء يشغل حيزا كبيرا في المخططات الإنمائية، بمختلف الأقطار، منذ أوائل السبعينات حيث برزت أزمة الغذاء في العالم.
إن انفجار أزمة الغذاء في العالم قبل حوالي عشر سنوات، والتي تضافرت عليها العديد من العوامل المتشابكة في مقدمتها ارتفاع استعار مختلف أنواع الحبوب، ومستلزمات الإنتاج الزراعي. الأمر الذي ترتب عليه وقوع معظم الدول النامية، ذات الإمكانيات المالية المحدودة فريسة مصيدة الغذاء، وأصبحت هذه المشكلة تستحوذ على أية موارد يمكن توجيهها نحو التنمية الاقتصادية، وهذا ما أدى إلى انخفاض معدلات النمو الإنتاجي، في الوقت الذي يزداد فيه الطلب الاستهلاكي بمعدلات كبيرة، مما زاد المشكلة تعقيدان بحيث أصبح إيجاد الحل المناسب لها يشكل حجز الزاوية في السياسات الإنمائية لمختلف البلدان النامية.
ولا شك أن مشكلة إنتاج الغذاء في المغرب لم تكن لتقل حالة عما هي عليه في مناطق العالم النامي، فقد عانى المغرب وما يزال في هذا المجال، باعتباره منطقة عجز غذائي، ثم لأن تأثره بالأزمة كان اكثر عمقا وحدة من غيره في بعض المناطق المماثلة.
ومما يزيد المشكلة خطورة على المستوى المغربي، أن حجم الفجوة الغذائية خاصة من سلع الغذاء الرئيسية تزداد اتساعا سنة بعد أخرى، فقد تصاعد حجم العجز في مجموعة الحبوب، ومنها القمح  والروز والشعير والذرة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العجز في السنوات القادمة، إذا لم نسارع بخطة إصلاح ناجعة. أما بالنسبة إلى القمح فباعتباره أهم سلع الحبوب الغذائية فإن عجزه الغذائي قد يتصاعد إلى جانب السلع الغذائية الأخرى، خاصة الزيوت والمنتجات الحيوانية ذات الأصل المتجذر بالعالم القروي.
وبالرغم من الجهود التي تبذل في هذا المجال، فإن الفجوة لا تزال في تزايد مستمر، تبين أن الفارق بين نمو الإنتاج الزراعي والطلب على السلع الزراعية، وخاصة سلع الغذاء الرئيسية، أخذ يتنامى منذ أوائل السبعينات...ومرشح لمزيد من "النمو" في المستقبل. وهو ما يعكس تخلف القطاعات الإنتاجية الزراعية مقابل النمو السريع في الطلب الاستهلاكي، ويكفي للدلالة على مدى ما تعانيه القطاعات الزراعية من تخلف، أن الإنتاجية الهكتارية للحبوب لا تتجاوز 1.1 طن، أي نصف نظيرتها في العالم البالغة 1.9 طن، كما تنخفض كثيرا عن إنتاجية القمح في العالم، حيث تبلغ 1.65 طن بالمقارنة مع 4.8 طن في الدول المتقدمة.
أما بالنسبة للإنتاج الحيواني، فهو أكثر تخلفا من نظيره النباتي، إذ لا يقوم على اسس صناعية...ولا على أسس استثمارية.

-4-

إذن، في أي قراءة أفقية أو عمودية لحالة ّ "الأمن الغذائي" في المغرب يتأكد للباحث أن حالة العالم القروي مصدر هذا "الأمن" جد سيئة، ولا تستطيع في الوقت الراهن، وبالإمكانات المتاحة أن تذهب في توجه تحقيقه.
فقراء البنك الدولي لحالتنا الاقتصادية جاءت واضحة كل الوضوح وصريحة كل الصراحة، في هذا الموضوع وأكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن المغرب سيعرف تقهقرا محققا في المجال القروي / الزراعي. كما سيعرف تراجعا في كافة المجالات الاجتماعية والثقافية المرتبطة به، إذا لم تتخذ الإجراءات الضرورية باستعجال، لضمان وتيرة نمو محددة تضمن العيش والاستمرار.

من جانب آخر، أكدت هذه " القراءة" أن إنقاذ العالم القروي وإنتاجيته، تلزمنا بالانتباه إلى الوقت الضائع، فالوقت لا يرحم وكل يوم بل كل ساعة تمر دون إيقاف "النزيف" المتواصل، تعد خسارة لا يمكن تعويضها.
فقد، أصبح للوقت أهمية قصوى، وبذلك أصبح إيقاف النزيف، يتخذ موقع الأولوية في حسابات الوقت والمعالجة لوضعيتنا الاقتصادية / الاجتماعية المتداخلة مع العالم القروي وإنتاجيته.

إن الأحزاب الوطنية، والهيئات الحقوقية والمهنية والجامعات والمعاهد العليا، أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بتشخيص حالة النزيف الذي يضرب العالم القروي في الأعماق وتحديد الأولويات التي يجب القيام بها في أفق العقد القادم...وترى أن الإجراءات الأساسية لإيقاف هذا النزيف، وبدأ العلاج لا يحتاج إلى زمان أو مكان، بل ولا يحتاج إلى إمكانيات أو اعتمادات، بقدر ما يحتاج إلى الإرادة القوية والنزاهة والقناعة والحس الوطني الصادق.
وفي اعتقادنا إن معالجة الوضعية الراهنة يتوقف بالدرجة الأولى على وضع أسس جديدة وحديثة وعقلانية لإنقاذ العالم القروي من تخلفه ونزيفه، أن تنمية قروية قائمة على تجديد دماء الاستثمار المنتج، وتشجيع المقاولات القروية بما فيها العلاجية من شانهما إعطاء دفعة جديدة لمستقبل الفلاحة والفلاحين ووضع حد للفوارق بين سكان البادية وسكان الحاضرة، وهما أساس معالجة النزيف الذي أدى إلى "هزال " العالم القروي وضعفه وفقره.
ولاشك أن إعادة النظر في مفهوم الإنتاج الفلاحي، في بلادنا سيدفع حتما إلى تصنيف الفلاحة كمهن لا كحالات اجتماعية، وهو ما يعني ربط الإنتاج بالمردودية والمنافسة الداخلية والخارجية.
فضعف قطاعنا الفلاحي، لا يكمن في كونه ما زال رهن التساقطات أو دون توظيف وسائل التكنولوجيا المتوفرة أو ارتباطه بالنهج التقليدي، الذي أصبح تأثيره على الإنتاج والمردودية الفلاحية والتنموية متعاظما، بل يكمن في الحس الحاد بالتخلف تخلف الزراعة وأهلها، الأرض وأصحابها.
ان فلاحتنا اليوم في ظل أوضاع الفلاحين تستغيث، تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى التقييم والمراجعة والى التحديث والتجديد والى الإنقاذ
.
وفي إطار ذلك تحتاج هذه الفلاحة إلى مفاهيم جديدة ومباشرة للرفع من مستوى الفلاحين – سكان العالم القروي وكذلك لطرق الإنتاج والتموين، ولطرق القرض والتمويل، فنحن مطالبون بابتكار وسائل جديدة، وأساليب جديدة للتعامل مع هذا القطاع لإنقاذه وتطويره.
بمعنى آخر، أن الإصلاحات المطلوبة للعالم القروي ما زالت في حاجة إلى رؤية فلاحية، لا تفصل العالم القروي عن فلاحته ن عن مجتمعه وتربيته وثقافته وهويته، لا تفصل عصرنة الفلاحة وتحديثها وتصنيعها عن عصرنة مواطن العالم القروي وتربيته وإعداده ومساعدته على الارتقاء وعلى الإنتاج والمردودية.
إن اعتماد إستراتيجية إنمائية ريفية متوازنة، تقوم على أساس الزراعة الدينامية المستوعبة لليد العاملة وعلى الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة في إنتاجيتها من شأنها إعطاء نفس جديد للعالم القروي، وانتشاله من رداءته التي وصلت حد البؤس واليأس، شريطة اعتماد نفس الإستراتيجية لتطوير المواطن، بالعالم القروي وإخراجه من عزلته وتخلفه.
إن كل إصلاح لا يتجه إلى هذه الناحية، سيكون في نظرنا بلا فائدة، لأن الأمر يتعلق بالعالم الذي نعيش ونتنفس من خلاله الهواء والهوية.

أفلا تنظرون...؟

محمد أديب السلاوي

الصناعة الثقافية، تفرض علينا عقلا جديدا... وتلك هي الإشكالية.



-1-

ظهرت مفاهيم وقيم "الصناعة الثقافية" في الإعلام والبرامج السياسية والسياسات الحكومية خلال منتصف القرن الماضي، على أيدي جماعة من المفكرين بألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الذين تبنوا بقوة، قيم العولمة والاقتصاد الليبرالي.
بعد ذلك بقليل، حددت منظمة اليونسكو مصطلح "الصناعة الثقافية" في الصناعة التي تجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها، وهي ذات طبيعة ثقافية غير ملموسة / مضامينها محمية بقانون حقوق المؤلف، ويمكن أن تأخذ شكل البضاعة أو الخدمات.
وعموما يشمل مفهوم "الصناعة الثقافية"، انتاجات الطباعة والنشر والوسائط المتعددة والوسائل السمعية والبصرية والمنتجات الفوتوغرافية والسينمائية والحرف التقليدية والفنون البصرية.
يعني ذلك، أن "الصناعة الثقافية" هي تلك الأنشطة التي تركز على المعرفة في صورتها المتكاملة التي تحتاج إلى كثافة عمل عالية وقادرة على توليد الثروة وفرص العمل.
يعني ذلك أن اللوحة والشريط السينمائي والمسرحية والأغنية الشعبية والقطع الموسيقية وفنون الحلقة والبرامج الإذاعية والتلفزية والمؤلفات الأدبية والثقافية والنقدية، والقطع الشعرية هي الصناعة الثقافية التي تنتج قيم التنمية في زمن العولمة.
في نظر منظمة اليونسكو،أن الأعمدة التي تقوم عليها الصناعات الثقافية ، تشمل كل عناصر الثقافة : الأدباء / المفكرون في كل التخصصات / الفنانون في كل التخصصات / الفنانون الشعبيون / الصناع التقليديون.

-2-

ومن شروط قيام صناعة ثقافية، في أي مجتمع نامي أو في طريق النمو، وجود قاعدة علمية وثقافية في المجتمع، يكون بإمكانها إنتاج المعلومات وتوزيعها واستهلاكها، وهو ما يعني 
توسيع آفاق التعليم والإعلام بين أفراد المجتمع، ذلك لأن العلاقة بين الصناعة الثقافية وارتفاع المستوى العلمي والثقافي والإعلامي، علاقة جذرية تقود إلى زيادة حجم الاستهلاك الثقافي...وهو ما يتطلب إنشاء المؤسسات التواصلية، جرائد ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومطابع ودور نشر واستوديوهات سينمائية ومسارح وقاعات للعرض التشكيلي ومتاحف وغيرها من وسائل الاتصال الثقافي، إضافة إلى المناخ الملائم لحرية الرأي والتعبير.

يعني ذلك، أن الصناعة الثقافية تحتاج من الدول السائرة في طريق النمو، والتي تنشد الاستثمار في الشأن الثقافي، دعمها ورعايتها وحمايتها لكافة المنتجين / أدباء وشعراء ومفكرين وفنانين وإعلاميين، حتى تتمكن هذه الدول من الدخول إلى أسواق المنافسة وتعزز تواجدها.

-3-

يرى العديد من الباحثين والدارسين لوسائل الاتصال الجماهيري أن الثقافة والفنون في عالم اليوم من أجل الازدهار والنماء والتطور، أصبحت في حاجة ماسة إلى شروط أساسية وموضوعية، منها خلق مؤسسات تحتضن الثقافة وأهلها، يكون في إمكانها إنتاج المعرفة الثقافية الرصينة من خلال إبداعات الفن والثقافة والمعرفة. ذلك لأن العلاقة بين ارتفاع المستوى  المعرفي بالفنون والآداب والثقافة عموما، تتناسب مع تقدم وسائل الاتصال التي تخلقها هذه المؤسسات، مما يقود إلى بلورة قيم الصناعات الثقافية عموما، وهو ما جعل الدول المتقدمة، ترصد ميزانيات ضخمة من أجل أن يكون لهذه المؤسسات جماهير واسعة تستفيد من خدماتها، وبرامج قوية تدعم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحكومات الوطنية التي تعمل من أجل التنمية المستدامة، المؤمنة بالديمقراطية وحقوق المواطنة.
إن تعبير الصناعات الثقافية في عالم اليوم، أصبح مصطلحا وطنيا ذا معنى خاص لا يرتبط فقط بصناعة الإنتاج الثقافي / من اللوحة إلى الكتاب، ومن الشريط السينمائي إلى الأغنية والمعزوفة الموسيقية، ومن المنحوتة إلى البرنامج التلفزيوني / الإذاعي، ولكنه يرتبط أكثر بالتنمية الوطنية في سائر مجالاتها وميادينها.
في الألفية الثالثة، ليست المؤسسات التجارية والاقتصادية والمهنية القائمة على الإنتاج الثقافي وحدها من يبلور الصناعة الثقافية. أن المؤسسات الفنية / الثقافية، هي التي تعطي هذه الصناعة إيديولوجيتها وقيمها ومفاهيمها التي تبلورها في سوق المعرفة، كما في السوق الحضارية الوطنية والدولية، وهو ما يجعل منها شرطا أساسيا للتنمية المستدامة والتقدم والازدهار الصناعي والتجاري والثقافي.
وفي العالم الصناعي، كما في الدول السائرة في طريق النمو، أصبح الاستثمار في الصناعات الثقافية، ذات أهمية قصوى، ذلك لأن الرؤية الصائبة والواضحة للشأن الثقافي، والقدرة المالية من أهم عوامل نجاح الرأسمالية الثقافية.

-4-

وبحسب ما هو قائم حاليا فإن مفهوم الصناعة الثقافية الذي تصل منتجاته إلى 10 في المائة من إجمالي الصناعة العالمية، شبه غائب في عالمنا وهو شبه معدوم في الاقتصاديات الوطنية والقومية، كما أن الاستثمار في المجال الثقافي لا يكاد يذكر بالمقارنة مع مجالات أخرى، وهو الواقع الذي ترى العديد من المؤسسات العلمية، أنه يقود إلى ضعف احتمال تحقيق متطلبات واستحقاقات الثقافة فضلا عن عدم القدرة على مجابهة تحديات الأمن الثقافي القائمة على صناعة تنمية في هذا المجال، والتي تمثل عنصرا رئيسيا من التنمية المستدامة. 

ولاشك، إن انخفاض المستوى الثقافي في بلادنا وفي البلاد العربية الأخرى، لا يعود فقط إلى عدم توفر الصناعات الثقافية، التي تدعم المؤلفين والمفكرين والفنانين والصناع التقليديين وكل العاملين في الحفل الثقافي، ودفعهم إلى الإنتاج والتنمية، ولكتها تعود أيضا إلى ابتعاد السياسة الثقافية عن هذا المجال.
 إن المحتوى الثقافي لدينا في المغرب وفي العالم العربي، واسع وشامل، إلا أنه لا زال بعيدا عن التصنيع وتحويل قيمه المعنوية والروحية إلى قيم مادية، أي تحويله إلى سلع في الأسواق الاقتصادية من أجل التعريف بها ونشرها وإفادة التنمية الوطنية بقيمها ومردوديتها المادية.
من هذا المنطلق تشكل الصناعة الثقافية أهمية خاصة ليس فقط للجانب الاقتصادي، ولكن أيضا للمستوى الحضاري، باعتبارها ذرعا واقيا للهوية الثقافية.

يعني ذلك بوضوح،إننا نحتاج في المغرب الراهن وفي العالم العربي شرقه وغربه، إلى عقل جديد وتفكير جديد ليستوعب إشكاليات الصناعة الثقافية وقيمها ودورها في الدفع بالتنمية الوطنية المستدامة إلى الأمام. ذلك لأن الطرق التقليدية في إدارة القطاع الثقافي، لم تعد صالحة للعصر الحديث ولشروط الحداثة والعولمة...وتلك هي الإشكالية التي نهرب من مواجهتها في سياستنا الحكومية.