الاثنين، 22 مارس 2021

 نوروزنا في مندلي

الباحث/احمد الحمد المندلاوي

هذا السرد يعود لعام 2018م، الإحتفال بعيد النوروز عادة شعبية قديمة متمركزة في مندلي ومعنى نوروز ( اليوم الجديد)، تستعد العوائل في مندلي لهذا اليوم قبل حلوله بشهر،إذ يحضرون الجلية و هي(حنطة منقوعة في الحليب ثم تقلى على الصاج ) بعدها تخلط مع السمسم،وتسمّى شعبياً بـ(كَه نمه شيره)، ويحضرون الكرزات والحلويات والبيض المصبوغ بألوان و نقوش، ويستحضرون لأولادهم الثياب الربيعية الممتازة،ويخرجون الى خارج المدينة في صبيحة يوم 21 آذار من كل سنة الى طاحونة ميرزا ضمن منطقة كبرات - كبري،ومنها الى البساتين فيفرحون ويبتهجون ويلعبون الألاعيب المختلفة كالجوبية والساز والدبكات، والطبل يدق، والناي يعزف والكل في هرج ومرج، وفرح وحبور،مع الطيبة و البراءة.

وفي ليلة النوروز يتمّ إشعال النيران فوق السطوح ابتهاجاً لهذا اليوم الجديد،رمزاً لإنتصار الثائر البطل كاوه الحداد على الملك الآشوري الجائر الضحّاك، وبعد انتهاء اليوم يرجعون الى بيوتهم والفرح والسرور قد أخذ منهم مأخذه،وهم في نشوة وابتهاج .

و لا ننسى الدوريش محمد فارشاً عباءته في (الدروازة) لاستقبال الناس بابتسامته الصوفية ومعطرا وجوههم بماء الورد وهم يهدونه النقود و المواد (عيدية).

نوروز هذا العام أختلف عندي كليّاً عن بقية السنين فلم أرَه في مسقط رأسي منذ أكثر من عشرين سنة بسبب الهجرة،ومن ثم السكن في العاصمة بغداد،وحرمتُ بذلك من نسائم نوروز و طيب الأرض و ضحكة الزهور البريّة لنا ..وعندما قرّر الأهل قضاء عطلة النوروز - في أرض الآباء و الأجداد هكذا كنّا نخاطب الأولاد والأحفاد الذين بلغ تعدادهم (36) فرداً، وافقتُ بلا تردّد على ذلك ،و هرعنا الى الاستعداد للسفرة التي تهواها الروح قبل العين (السيّارة،الأطفال،والمتاع و غير ذلك)،و هكذا فعل بقيّة العائلة ،إنطلقنا جميعاً الى مهد الصبا و مرتع الطفولة فرحين بذلك و أداعب أحفادي بقولي المشهور لدينا (هيّا الى أرض الآباء و الأجداد)،ونحنُ في السيّارة نتناول شيئاً من الكرزات،و الفواكه،والحلويات،ولا سيما ما صنعته البي بي الكبيرة (الكليجة) ذات طعم خاص يرجعني الى أيام الطفولة و نحن نركض الى منطقة (ميرزا) على مشارف قرية كبرات الجميلة و الساقية،وحقول الحنطة و الشعير و نقطف أزهار (كل بابونك الصفراء- الإقحوان الطبيعي) .

خرجنا من بعقوبة،و واجهتنا قطعة المرور المدونة عليها (كنعان - بلدروز- مندلي) والأطفال يقرأون الأسماء بصوت عالٍ مع صخب وتصفيق.

عبرنا كنعان و أحدهم ينادي:

وصلنا مندلي..

فأجبته: هذا حي مندلي في كنعان،و ليس مندلي..هكذا فعل بنا الطاغية جعلنا شذر مذر.و لكن نعمّر المدن حيث ما كنّا.

وصلنا بلدروز وأكثر أحبابنا وأهالينا في حي مندلي في بلدروز،وما زلنا في الطريق الى أرض الآباء و الأجداد،و صلنا منطقة الجسر و النهر..ثمّ معمل الطابوق،و تبة روميل،و قطعة المرور يساراً تشير الى الإمام كرزالدين و حاج يوسف (عليهما السلام) .. و كانت أسراب السيارات كثيرة عند مدخل المدينة حيث بقينا أكثر من نصف ساعة كي نجتاز نقطة السيطرة.

ها نحن على مشارف المدينة شارع يوصل الى مدينة مندلي،الأرض خضراء بالوانها الزاهية،والسماء زرقاء صافية تداعبها أشعة الشمس الذهبية،بينهما سلسلة جبال حمرين بلونها اللازوردي في ظلال جبال بشتكوه العالية،ويميناً يأخذنا الطريق الى قرى قره لوس،والذي يمتد الى خانقين ..ونسيم نوروز تداعب وجوهنا و الأرض أصبحت سجادة خضراء مع زهور صفراء حيناً و بنفسجية حيناً آخر لتزين هذه السجادة ،اتجهنا يميناً نحو سدّ مندلي و (كومة سنك)،و أسراب السيارات تملأ الطريق ذهاباً و إياباً ،و نحن كنا عائلة كبيرة (30 فرداً) نبحث عن مكان مناسب للأستراحة و تناول طعام الغداء الذي جلبناه معنا،فلم نعثر على ذلك فالأماكن الجيدة كلها محجوزة من قبل العوائل المندلاوية القادمة من بغداد و بلدروز و كنعان و غيرها .. و كأن الأرض مزروعة بالناس كالحقول و الأزهار،و نتنفس من ريح طلع النخيل مع طيب الزهور .

واتجهنا الى قلعة عز الدين النقيب لغرض الإستراحة،و نحن في قرية (بتكوكر) القابعة على ضفاف نهر صغير،وتعلوها مئذنة جامع (الأبرار)،أدّينا الصلاة و الحمد لله.والأطفال في هرج و مرج مع ألاعيبهم .قررنا الذهاب الى قرية كبرات لنحطّ رحالنا هناك .. فنزلنا عند منطقة (جوارآسيا – بالعربية أربع طواحين) وهنا نهر صغير يسير بهدوء و وقار و كأنّه يسرد لنا قصة الآباء و الأجداد و حياتهم البسيطة الحالمة ..أخذ الأطفال يلهون بماء النهر و قطف الزهور ..المكان كان بين النخيل، قمنا نجلب الحطب لأعداد الطعام و تهيئة الشاي،آه ما أجمل الطبيعة و الأرتماء في أحضانها الدافئة .حقاً كان طعاماً طيباً في - أرض الآباء و الأجداد – و بحضور الأهل،فقلت مع نفسي:

كما للحضارة محاسن جمّة،ولها مساوئ أيضاً.بدأنا بلعب (كرة القدم) و مداعبة الأطفال الصغار،ونحن نسمع من هنا و هنا الدبكات الكوردية و أغاني (كتان كتانة – باوانم كتان كتانة) و غيرها من الأناشيد الفلكلورية،و تمرّ السيارات المختلفة،وكذلك الدراجات البخارية و الهوائية،و الخيول أيضاً،مشاهد لطيفة بقيت متعلقة في الذاكرة،حان وقت العصر و لابّد لنا من إستراحة، رجعنا الى مدينة مندلي،بإتجاه منزلنا القديم في محلة قلعة بالي مقابل الحسينية و الصغار يسألوننا هذا بيتنا خرائب و أنقاض ،فإذا بي أترنّم مع نفسي:

كان لي دارٌ هنا في ربوةٍ

فمحاها البعثُ في ليلٍ بهيمْ

بلبلٌ يشدو معي في ساحِها

لحنَ حبّ فوق قيثار قديمْ

تركنا المدينة الى دور قلم حاج حيثُ ينتظرُنا الأخ العزيز الأستاذ عامر فرمان،و في طريقنا نسلّم على هذا و ذاك من أصدقائنا و محبينا .. شربنا الشاي للمرة العاشرة،و نحن مقابل المكان الأثري (مقام علي)،آن الغروب و الشمس في الأفق،وكما قال الشاعر الرصافي : نزلت تجرُّ الى الغروب ِذيولا ..

حضرنا الصلاة في جامع الإمام الحسين (ع) بإمامة الشيخ أحمد الساعدي،و ألقى بين الصلاتين كلمة رائعة تطرق فيها الى كيفية الإنتخابات المحلية للمحافظات،كانت ليلة رائعة و نحن في ضيافة الأستاذ عامر، قضيناها بالأحاديث الشيّقة فمن الأدب الى الرياضة ،الى النكات البريئة،الى التطور البطئ الذي يحدث في البلدة،الى قصص أيام زمان،والنساء لهنَّ أحاديثهنَّ أيضاً و لكن في جناح خاص بهنَّ.

كانت ليلة هادئة بلا ضجيج،وبلا دخان المولدات،نهضت صباحاً نشطاً وقلت في نفسي:آه لم أنم مثل هذه النومة منذ ما يقارب ربع قرن من حياتي،وهكذا تمرُّ ساعات الضحى و نحن نداعب الطبيعة و هي تداعبنا مع قهقهة الصغار،وقمنا بزيارة أهالينا ما استطعنا،و قفلنا راجعين الى بغداد و الساعة تشير الى الرابعة عصراً ..و كانت الكاميرا (آلة التصوير) لا تقف لحظة بيد أصغر أولادي (علي محمد) لإلتقاط صور تذكارية لهذه الرحلة النوروزية،و هكذا إنتهت الزيارة النوروزية لربوع مندلي - أرض الآباء و الأجداد – و لكنها لم تنتهِ في ذاكرتنا.

و في نهاية هذا المطاف أودّ أن أشير الى إنَّ منظمة الأمم المتحدة أقرّت في عام 2010م في قرار لها جعل عيد نوروز عيداً للتراث العالمي،والذي يعود تاريخه الى ثلاثة آلاف سنة.و كثير من الشعوب الآسيوية يحتفلون بهذا اليوم أيضاً،و قد بلغ تعداد الذين احتفلوا به عام 2012م أكثر من 300 مليون نسمة،وهو عيد بهيج قديم،جعله الله مباركاً علينا وعلى شعبنا و عراقنا ،ويعود كلّ عام علينا بخير و يمن و أمان وعافية ..و للجميع



الباحث/ احمد الحمد المندلاوي

2021/  95 م - مندلي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق