الجمعة، 11 فبراير 2022

منصف وهيبي // تونس

 آفيرو (البرتغال) ذات خريف


في تـلـك الأيّام الأولى من سبتمبر

والشّمس هنالك لم تبرح برج العذراءْ

كان لسان البحر ينام كنهرٍ طفلٍ

في لثّـة آفيرو

وقوارب موليسيروس الفينيقيّـة ُ

رابضة في المينـاء

لم يستيقـظ أحـد من نزلاء الفندق،

في ذاك الأحد الدّافئ من مطر اللّيل سوايْ

وأنا أدفع في لـطف بابا دوّارا

وكانّي أتسلّـل من بين أصابع أمّي

نحو لداتـي

في باحة حارتـنا

لا أحدٌ عـنـد لسان البحر يراني

لا شيءَ لِيصغي لهسيس خطـاي

حتّى بلح البحر المـكسـور فـقـد ردمــتـه أقدام البحّـارة والمصطـافيـنْ

وقوارب موليسيـروس هنـالـك ما زالت

تتـرجّح في الفجر المبلول بيـوتا من مــاء

ثمّ كـأني أسمع أصـواتا طازَجـة تحـملها رائحة الملح،

كأنّي ألمح كهّـانا في زيّ ملائكـةٍ سودٍ،

يرسمهـم قـلم فحـميٌّ،

وظلالا بـيضا في قمـصان دون عباءات،

تـقفـز راجفة فوق رصيف الحاجزِ

نحو قوارب موليسيـروس قوارب أولاء الفينيقيّـيـن

(إنكليز الأزمنة الأولى)

ومضوا فـجرا

في أكواريـل الضّحكــات،

يديـرون صواريـهم ناحية الرّيح

أمـراء فـنيقـيّة في جلابـيـبهم

يـقطعـون صـنوبر بـيـبلوس

ذا خـشب لمراكـب ترشيش،

ذا للصّواري

وذا لـتوابيـتـنا

جفّ زيت الصّنوبر في الجلد،

(لكـنّ رائحة منـه، سوداء

كانت تضيء لنا وسط جبس الضّـباب)

قطـرات الـمطــر

لم تكــن غير أصواتـهـم

وهي تبـحث عن كلمــات أرقّ مــن المــاءِ،

حتــّى إذا لاحت الشّمــس ثــانية

أخذت تتسرّب في باطن الأرض

لائذة بالــحجــرْ

مطــر يتســاقـط

ثـمّ يرمّـم أجراس بــلّــوره بالغــبــار،

ويخــلطها بالــتّراب

لأقـولـنَّ عـن الأمطار إذنْ

ما قلت عـن الأشجــار قديــما

هي أيضا بــيوت، ولكنّها لسوانا

ولكنّ أحجــارها تتـنضّد إذ تـتــساقط

منــحـلـّـة في خيوط الهواء

سأقول: إذن هي مثل الشّجــرْ

فضلـة البحر منذورة لذوات الجناحين،

أرض لمــن يملــكون السّمـــاء

وأقول المــطر

لم يكــن غــير معمــار هذا الفــضاء

سـفينة تــرشــيش

رأس غــزال في مــقـدّم الـسّـفـينه

وذيــلها يـعـلو كـجـيد الـبجـعه

مـرتــفعــا إلـى الــسّــمــاء

وفـي يــدي عـــصا طــويــلة

بــهــا أجـــسّ نــبــض المـــاء


٭ ٭ ٭


قــلــت أســتـدرج الــبنــت وقــت الرّحــيــل

إلــى ســطــح تــرشـــيـــش،

حــيــن تُــفـكّ حـــبالُ المراســـي

بـنعـلــين مــن فــضّـــة،

وأســـاور مــن ذهـــب

ـ قــبــل ان يــطــفئ الــبحــر زرقــته الــبارده ـ

وغـــطــاء عــلى الرّأس فــي هــيـئة الباز

قــلـت: طــفــولــة آلـــهة هــشّـــة هــذه الــبــنت

تــخرج من رئــة الــبحــرِ‍‍‍‍

أمــســكــها مــن ذراعـــيــن يـكـــسوهــمــا زغــب الــبـنّ

قــلــت: أفــكّ فــراء الــثّـعــالب عنها،

أحــلّ ضـفائر مــن خرز ومحــار،

وأعــتــصر الــضّــوء فــي ضربـة الــرّيـــشــة الواحــده

بـــعــد حــيــن تـجيء

بـــعـــد حــيـن تــكــون الــحــراشــف أجــنــحــة،

بــعـــد حـــيــن يــكــون الــمثــلّـــث دائــرة ً

تــتــفــتّــح شــيــئا فــشــيــئا لـــه

وهــو يــســـقــط مــن نــفـــسه

وســـفـــينــة حـــانـــون ذي تــتــقــدّم

فـــي زبــدٍ وطــحــالــبَ يــجــتـرّهــا الــبــحــرُ،

مـــرفــوعــة فــي صــيــاح الــنّــوارس،

يــخــفــرهــا ســمـك طــائــر بـين مــاءيـن

حــتّــى الــتّــخــوم


٭ ٭ ٭


فـي أوّل فـجـر بـعـد الطّـوفـان

وطـأت قـدمـاي الـمـاء

لـم يـبـق مـن الـطـّوفان سـوى ذاكـرة المـلح الأعمـى

طـعـم طـفولـتـنا

لـم يـبـق سـوى ذكـرى الـعـشـبة

بـنت الـنّـسـيان الـبيـضاء

العـشـبه

فـي كـلّ مــكان تـنـبـت،

فـي الـرّمـل الـنّاعـمِ،

بـين شـقـوق الـصّـخـر عـظام الأرض الـصّلـبه

عـند حـواشـي الـطّرق المـأهـولةِ،

تـغـرز ساقـا

أو تـنـصـب فـخـّا للـرّيـح،

وتـصـغـي لـقوائم حـملان تـرعى

الـعـشـبه

بـنـت النّـسـيان الـبيـضاء

تـتـمـدّد فـي مـمـشى مـهـجور

فـي مـنزلـنا الـصّـيفـِي

أو تـبـزغ فـي حـاشية الـماء

تـتـسـلـّـق قـبر أخـي الـضّـائع بـيـن قـبـور

فـي لـشبونـة،

فـي مـنزل» فـرناندو باسّوا»

حــيث «أمالـيا» تـسـتـيـقظ فـي «الـفادو»

واللّـيل يـكاد يـجـنّح

فـي أذنـي كـلب أخـضـر بالـباب

يـتـتـبّـع رائـحة الـظـلّ،

ويـنـظـر فـي عـيـنـيه

حـيـث نـبـاتـيّـون إلـى مـائدة اللّـيل

نـبـيذ أخـضـر يـرشـح فـي الأكـواب

كـرز يـحـمـرّ بطـيـئا فـي سـكّـره الأخـضر،

أصـداف مـحـار فـي قـرمزهـا الـكـحـلي

حـيـث فـتاة ريـو دو جـانـيرو

فـي زيـنتـها الـغجـريّـة: عـقد من كرز خـشـبيٍّ، قـرط أزرقُ

فـي الأنـف، وقـرط أسـودُ فـي الـسّرّةِ،

تـستظهـر ضـحكـتـها

حـيـث الـعـشـبة مـن نافـذتي

فـي أفــق مــن أعــشاب

بـفم أخــضــر، تـجـتـرّ الأرض علـى مـهل وتـدور

كـنّا نـحـن جـمـيعا

الأخـضر والأحــمر

والأزرق والأســود

والـعاشـب واللاّحـم

أطــفالك أيّـتـها العــشــبة

يــا صــانــعة اليــخــضــور

حــديــــث نّــهــر»الدورو» البرتغال

لا تــستـغــرب أن آخــذ والـنّــهـر بأطــراف حــديــث ما

أن تــصـطـفـق الأبــواب بلا صــوت،

ويــهــلّ عــلــيـنا زوّار غــربــاء

أن تــقــفــز نــحــوي أســماك بــحــراشـف أو أجنحةٍ

أســماك كان يلاعبها «سعدي يوسف»

أسماكٌ كــانت تــبلـغ أعــتاب بــيوت البصرةِ

أن يــضــحــك مـنّي صـرّار ذهــبيّ أخـرجه «فتحي النصري»

مـن أحـقـاق طـفولــتـه

أن تــرقص حــولي فـاخـتة بــجــناحـيها المـقــصوفــيـن،

وتــسألــني عـكّازا كــي تــقــطــع نــهر الدّورو

أن يــنــضو حــلزون مــعــطــفه المــطريَّ، ويــنزل أدراج المـاء

أن يـتـوافى «أحمد عبد المعطي حجازي» وقـطاه الـنّـهر معا فـي شَرَكٍ

كـان يـجـاذبـه، يــسأل إن كـان لـه أن يـسـتهـدي

بالـنّـجم الفـيـنـيقيّ إلى مــصر

أن يــأتي «شوقي بزيعٌ» فــي هــيـئة أوزوس الـصّـيّادِ،

ويــلقــي جـذعا فــي الــنّــهر

ثـمّ يــجــذّف دون يــديـن

ويــقــول: مـلاحـة يـوم لا غــيـرْ

كـي أبــلــغ صُــورَ، وأرفــع للنّـار وللرّيــح عــموديـن

أعــرف لا ثــعــبانٌ فــيــها يــحرس زيــتــونة عــشــتارت، لا نــسرْ

صُـورُ المشــطورة بــيـن جزيرتــها والـشّـاطئ،

صُــورُ الـطّافــية الآن عــلى الــبــحرْ

أن يـفـتح «علي أحمد سعيد» بابا فـي شـجـر المرْ

يـخرج منه أدونيسُ ويخرج فـيـنـيـقـيّـون بـقـطّ وحـشيّ أو فـهد أو ثـور أحـدب،

أن يأتي مـعـهم، عـبر موانئهم مـتعاقبة طـول الـسّاحل «محمد علي شمس الذين»

يـنحت سـلّـمه فـي الـصّـخـر

أن يـأتـي «محمود درويش» بجـداريّـته

أن يصعـد نـحو سـماء تـحـلج قـطنا

وجبال عـطور تـترجّح فـي الرّيح

أن يـتـعـب هـذا الـجــسر

هـذا الـجاثي فـوق الـدّورو مـنذ سـنـيـن

أن يـرفع ركـبـته الـيمنى حـينا أو ركبـته الـيسرى

أن تجيء الـحـياة

هـكذا فـجأة

تــنـحــني فـوقـنا

وتــقــبّـل مـا بـين أعـيـننا

ثـمّ تـتركــنا وحـدنا للحـياة

هـذي أشـياء تـحدث يا أوجينيو دو أندراد

حـين نـكون وحـيدين على مقـعدنا

مـتّـكـئين قـريـبـا مـن نــبـض الــنّهـرْ


مـطــهــر دانــتــي


يــــدُ مـــن فــي الـغــمام؟

أهـي الـشّـمس تــضــبط أوتــاره مرّة،

ثـمّ تــرخــي لهـا مـرّة؟

أم هـي الـرّيـح لائـذة بالـشّـجـر؟

يـد مــن فـي الـغـمـام؟

مـطــر يــتـخــلـّــل نــومـي

وأنـت إلى جـانـبي

وأنـا بـيـديـن مــن الـغـيم،

كـنـت أفــكّ فــراء الــثّــعـالـب عــنـك،

وأمــســح ريــش الــنّـعـامْ

والمـــطــرْ؟

يــتــريّــث أم يــتــعـجّــل

هــذا المـــطــرْ؟


فــي الـقــطـار إلى أفــيـرو


قــلت هـامـسـة:»ســوف نــنــزل قــبل مــحــطّـتـنـا

لا أحــبّ الأخـيـرةَ، أعــرف أنّ لــكـلّ مــحــطّـتـه حــيـث يــنزلُ،

وهــي الأخــيـرة! لـكـنّـها لــو يــفــكّـر لــيــسـت ســوى الــموت

يــســتــقــبــل الـقادمــيــن، ويــحـمل عــنهم حــقائــبـهم

وهـو يــغــمــز للـذّاهــبــبيـن

ثــمّ ضــاحــكـة: لا حـدود هــنا لــجــهــنّـم

ثــمّــة درب صــغــيــر يـؤدّي إلى الــبــيت. كــيف أســمّــيــه؟

ســوف أسـمّــيـه مــطــهــر دانــتـي

مــرايـا مــحــدّبــة أو مــقــعّــرة مـــثـل مــوتـي ومــوتـك،

حــيــث لــنا أن نــرى جــسـديــنـا بهــا

حــيــث نــسـلـخ أشــبــاحنا ونــحــبْ

حــيــث نــنــسى ولو مــرّة مــا تــقــول الــكــتــبْ


هـــو:

ثــمـّــة خــــيــط مــا بــيـن الــعــطــر وهــذا اللامــرئي

ســمّــيــه مــا شــئت! اللّه أو الـمـطــلـق

لا نــبــصــره، وعــلــيــنا أن نــتــشـمّـمــه فــي عــطــر

أو فــي مــجــمــرة ســوداء

: هــي

لا أذكــر مــنه ســوى مــا كــانت تــحــكــيه لــنا أمّي

مــن قــصـص الـجـنّ، لكنّي لـم أسـألـهـا إذ كـانت

تــأتـي مــثــقــلـة بـهـدايــاها إلاّ عــن بـابا نــويــل.

مــن يــتــخــفـّـى فــي لـحــيـــته الــبــيــضاء؟

قــطــرات الــمــطــرْ

لــم تــكــن غــيـر مــاء الــحــجــرْ

يــتــســاقط

فــيــما أنــا واقــفٌ

أرقــب الــصّــحو يــمــطر فــي غــيمه

والــحــديــقـة تــفــتح نــافــذةً،

ثــمّ ثِـــنْــتــيـْن،

ثــمّ ثـلاثَ نــوافــذَ،

ثـــمّ مـئــات الــنّــوافــذْ

غــيــر أنّ الـسّــمـاءْ

مــن مــشــبّـك بــيــتـك

أوســع مــن كـلّ هــذي الــنّــوافـذْ

شــبــكــتْ يـديــها

كــي تــريـح الأرض مــن دورانــها

قــالـت: ســأجـلــسـهــا قــلــيلا

ثــمّ أتــركــها لشـأنــي

الــشّــمــس مــا زالــت هــنــالـك عــند بــرج الـدّلــوِ

لــي مــن صـيــفــها عــســل الــبراري فــيــك،

لــي يــنــبــوعــهــا الــكــحــليُّ،

لــي شــهواتــهــا

ولــسـوف تــعــطــيــني فلا أرضــى

ســأرقــص كلّ لــيلـي.. كــلّــه

وأدور حــــولـــي

أمّــا أنــا

فــكــعــادتــي مــا زلــت مــحــتــفــظا بــعاداتــي

وحــالاتـي عــلى حــالاتــها

لا تــعــجــــبي

إن جــئـتــكم مــتأخّــرا

فــي هـــامــش مــن لـــيــل

هــي عــادة الــشّـــعــراء حــتّــى لا يــكــونــوا وحــدهــم

لـــو بــكّــروا

لا تــعــجــبي

إن جـــئــتــكم عــنــد انــتــهاء الحــفــل


٭ ٭ ٭


بــاب دوّار لـم نــعــرف، حــين دفــعــناه

أكــنّـا نــدخــل أم نــخــرج

بــاب كالــنّـوم يــدور بــنا

فــيما أصــعــد فــي عــطــر الــفـانــيــلـيـا

أو أهــبـط فــي رائـحــة الــفـطـر اللّـبـني،

والــباب يــدور بــنا فــي مــنــعــرجــات اللّــيل،

لــيــقــذفــنا فــجــرا

مــنـــهــوكــيــن عــلى الأعــتــابْ

هــل كــنّــا نــتــقــدّم أم كــان اللّــيل إذن؟

أم كــنّــا هــذا الــبــاب!؟



منصف الوهايبي// تونس


 الحلم مكتوبا :       الحلاّج مثالا


 "الحلم نشاط دماغي غير مُراقب. يقول العلماء إنّ الانسان ينفق ما يقرب من 10% من حياته أحلاما وكوابيس طبعا". 

على أنّه «مراقب» في الكتابة الأدبيّة. من ذلك ما نقف عليه في المخيال الإسلامي، حيث ينهض تعبير الأحلام بوظيفة مهمة في الحياة الدينيّة «الاستخارة». وكان من الطبيعي عند المتصوّفة أن يحلم المريد بمعلّمه بعد موته، وأن يسأله عمّا صنع الله به. وفي حال الحلاّج تشكّل هذه الأحلام موضوعا أدبيّا لا يخلو من غرابة. ولعلّ في هذا القليل الذي أسوقه منها، ما يعزز وجهة نظرنا فيها من حيث هي شطح صوفي أو تعبير، أي تفسير؛ خاصة أنّها ليست بالملتبس المضطرب الذي يصعب تأويله. نقول هذا على الرغم من أنّ الفهم قد لا يكون ضروريا، من منظور صوفيّ خالص؛ فالصوفية وهي المعقودة على الوجدان والذوق والإلهام، تقدّم الانفعال على الفهم. على أنّه ما يسلك حالمان اثنان في طريق واحدة، وحظّ هذا من الوضوح أو الغموض، ليس حظّ ذاك. ولعلّ الجامع بينهما هذه الكتابة «المرحة» التي تطعم العربية بروح جديدة، وتحمل النصّ على دلالات الكشف وسبر المجهول وغبطة السفر، أو الرحلة ومتعة الكتابة، حيث الحلاّج في هذه الأحلام، صورة من بوذا «المغتبط بالأبدية».

 قال الشبلي: «استخرت الله ذات ليلة، صلّيت فيها عند مقام الحلاّج حتّى الفجر؛ فسألته وكان الفجر قد طلع: يا ربّ كان الرجل من عبادك، مؤمنا بك، حكيما شاهدا على وحدانيتك، وواحدا من أوليائك، فلماذا حلّت به هذه النكبة؟ ثمّ غلبني النوم، فرأيت يوم البعث؛ وقد قامت الساعة، وانتصب الميزان؛ فسمعت صوتا يصيح: إنّه عبد من عبادنا، أذنّا له بأن يدرك سرّا من أسرارنا؛ لكنّه ادّعاه لنفسه أمام الناس؛ فأنزلنا به ما رأيت». وقال الشبلي: «رأيت حسينًا بن منصور في المنام بعد قتله. قلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أنزلني وأكرمني. قلت: في أيّ محلّ أنزلك؟ قال: في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدِر. قلت: ما فعلَ بهذا الخلق؟ قال: قد غفر للطائفتين: المشفقين عليّ، والمعادين لي. فأمّا من أشفق عليّ؛ فلأجل أنّه عرفني فأشفق لله؛ عليَّ. وأمّا من عاداني، فلأنّه لم يعرفني؛ فعاداني لله أيضا. فكلّهم معذورون وأصحاب فضائل».

ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته. وكان ذلك بعد تعذيب شنيع؛ في مشهد رسمه كأبلغ ما يكون المستعرب الفرنسي لويس ماسينيون في مصنّفه الشهير «آلام الحلاّج» وكأنّه شاهد عيان ينقل الحدث بكلّ تفاصيله وشوارده. ولا أحبّ هنا أن أعود إلى هذا المشهد، وما أعقبه مثل منع الورّاقين وهم بمثابة الناشرين اليوم؛ من نسخ أعماله، وإجبارهم على حرق كلّ ما بين أيديهم من النسخ الأصلية؛ وإنما إلى ناحية لم أجد من اعتنى بها، على غرابتها، وأعني أحلام مريديه وتلاميذه أو رؤاهم التي كان الحلاّج بطلها أو «المحلوم به». وكان الدافع إلى مثل هذه الأحلام السؤال ما إذا كان المقتول قد قُتل (بأجله) المقدّر أم لا؟ وهو السؤال الذي كان الحسن البصري أوّل من طرحه على ما يبدو؛ في مسألة الأجل والأرزاق، كلّما تعلّق الأمر بقتل مؤمن بيد مؤمن آخر. بيْد أنّه لم يقطع فيه برأي أي هل الضحيّة شهيد أم هل هو مرتدّ؛ وهو الذي لم يمت بأجله في الحالين.


ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته.


والأمر هنا أشبه بتعبير الحلم أي تفسيره، فهو لا يتكوّن من صور الحلم وإنّما من سرد الحالم لها، أي أنّ الصور الحلمية التي تمثل قاعدة التعبير أو التفسير ليست صور الحلم «محلوما» ؛ وإنّما تلك التي يرويها إنسان مستيقظ، ويستدعيها من حيث هي حمّالة معنى. والأصوب أن نقول إنّه يتمثّل محتوى الصور المستدعاة في سرده، من حيث هو معنى لا صورة. على أنّه معنى ظاهر مرتهن بمعنى باطن؛ وكلاهما لا يوجد إلاّ بوجود قرينه. لكن من غير أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل، كأن نقرّر أنّ الصورة الغريبة، شأنها شأن الحلم، ليست إلاّ ذريعة من بين ذرائع شتّى يتّخذها الحالم لتجميعات حرّة مرسلة غير مقيّدة. فإذا كان سرد الحلم متمكّنا من الحلم، دون أن يكون هذا ذاك، فإنّ قراءة الصورة متمكنة من الصورة؛ لكن دون أن تكون هذه تلك. وأيّ تراسل مفترض بينهما إنْ هو إلاّ باطل خادع. والأمر في حال الحلم، أو بعبارة أدقّ عند تعبيره أو تفسيره، راجع إلى تباين بين وضع «حلميّ» ووضع «يقظ». ففي اللّحظة التي يتكلّم فيها الحالم، فإنّ العبور من النّوم إلى اليقظة عبور من نمط من الإدراك إلى نمط آخر. والمسألة هنا لا تتعلّق بتعبير مجازيّ وإنما بقانون فينومينولوجيّ (ظاهراتي) فبنى الإدراك الحلميّ تتعارض والإدراك الواعي.

لنقل إذن، إنّه مثلما تتبدّد صور الحلم ومعها «الفضاء» الذي كان يضفي عليها هيئة، حالما يتحوّل الرّسم الجسميّ، وينشرخ استقلاله بذاته، بأوّل خروج من الذّات؛ يضع المستيقظ في وضع تمكّن أو وعي، فإنّ القراءة، إذ تعبر من نصّ إلى نصّ يمكن أن تكون هي أيضا فعل تبديد أو مراوحة بين معنى ينشده المنشئ (الحالم) ومعنى يؤدّيه القارئ؛ فلا تكون لصورة الأوّل البنية نفسها التي لصورة الثّاني. وكثيرا ما تترجّح القراءة، بسبب من ذلك، وتظلّ «مقبوليّة» المعنى معلّقة مقدّرة؛ بل إنّ الصّورة تمّحي في المعنى الذي تُضِيفه القراءة إليها أو تُضْفيه عليها. ذلك أنّ التّفسير يقتصر على وضع «المعنى» في علاقة مباشرة مع صيغة تعبيره، أو مع البنى القوليّة المخيّلة التي تدلّ عليه، وكأنّ الصّورة قول مركّب لا يسلّم فيه بالمعلول إلاّ إذا لزم عنه لذاته علّة. وربّما غفل البعض عن أنّ هذه البنى وقد «تحيّنت»؛ لا يمكن أن تعني ما هي عليه في النصّ، فالمعنى يتحوّل وينتقل من/ إلى أي من حلم إلى تعبيره أو تفسيره، وأنّ ما يعدّ معنى أصليّا يدير عليه الحالم صورته، إنْ هو إلاّ نواة المعنى وليس المعنى الصوفي الذي يغنيه السياق ويبدّله تبديلا. وهو في الحلم المعنى الباطن الماثل في موضوعه وليس المعنى الظاهر، على الرغم من أنّ الاثنين، في ما يتهيّأ لنا من هذه الأحلام التي نحن فيها، قطبان لمعنى واحد يصعب أن ندركه، إلاّ من حيث هو وجهة معنى أو توطئة لمعنى.

والأمر، من وجهة نظر حديثة، أقرب ما يكون إلى «النقد الظاهراتي» أي (الفينومينولوجيّ) الذي يذهب واضعوه إلى أنّ العمل الأدبي ينهض على أفعال قصدية من شأنها أن تفسح للقارئ معايشته عبر تداخل بين تجربة الكتابة وتجربة القراءة. ذلك أنّ هذا العمل عالم خيالي ينبثق من العالم المعيش، ليجسد وعي صاحبه. وهذا الوعي ليس مستقلاّ وإنما هو دائما «وعي شيء ما». على أنّه في الأدب وعي فريد أو هو وعي فرد بعينه. وهو من ثمة على وشيجة بذات كاتبة، لكنّه موصول، على نحو من الأنحاء، بشكل من الوعي العام المهيمن على حقبة تاريخيّة بأكملها. وهذا ما يجعل التّواصل الوجدانيّ الحاصل بين القراءة والعمل المقروء، تواصلا واعيا مدركا لاختلافه، بحكم أنّ النصّ يظلّ مثل صاحبه مختلفا أو غريبا. وربّما كان الحلم قراءة مخصوصة؛ أي عملية إبداعية أو عملية محاكاة تجاري فيها لغة القراءة لغة الكتابة.

والمقصود ها هنا نمط الظاهراتيّة المخصوصة بالقارئ أي ما اصطلح عليه «جماليّة التلقي» التي تعتبر العمل الأدبي إجابة عن أسئلة موضوعة من خلال «أفق التّوقّعات» وحاصلها أنّ تأويل العمل ينبغي أن لا يكون محوره تجربة قارئ خاصّ (مستقل) وإنما تاريخ تلقي العمل في علاقته بالمعايير الجمالية المتغيّرة؛ بما يجترح شتّى التّوقّعات التي تجعل العمل قابلا للقراءة في مختلف الحقب. على أنّ السياق الذي نحن فيه، يمكن أن يحيل أيضا، على ما يسمى «نقد استجابة القارئ» الذي يحلّل الكيفيّة التي ينتج بها القرّاء المعنى، توقّعا وتخمينا. والرّأي الذي نذهب إليه أنّ قرّاء الحلاّج، إنّما هم المتصوّفة أو الشّعراء، الذين ترسّموا طريقته أو تقيّلوا مذهبه مثل الشاعر الهندي عبد القادر البديل (ت 1720):

في نخلستان [بلاد النخيل] حيث الحسّ يثمّن الأشياء

لا يمنحُ الخيالُ الوضيعَ سوى فاكهةٍ فجّة

إنّ قطفَ لوز اليقين، غير ميسور؛ وهو الألذّ

إنّما هو كرامة باركت الحديقة من دم الحسين بن منصور

أو من المعاصرين الذين «وظّفوا» نصّه (صلاح عبد الصبور وأدونيس وعبد الوهّاب البيّاتي). على أنّ هذا مبحث قائم بذاته.


منصف الوهايبي

كاتب وشاعر تونسي

مراد القادري // المغرب الثقةفي

 كلمة بيت الشعر في المغرب في نعي الطفل ريّان

 


شكرًا لك ريان... شكرا للقصيدة التي ضفرتها في بئرك الدفينة


تابعنا في بيت الشعر في المغرب حادثة الطّفل ريان، الذي سقطت طفولتُه الريّانة في قعر الجبّ. خمسة أيام وأنفاسُنا مشدودةٌ إلى أنفاس هذا الطفل، الذي كان الهواءُ يضيقُ على رئتيه، فيما العالم أجمع كان مستعدَّا ليمنحَه كلّ أوكسجين الأرض، علّه يُعينُه في عُـزلته وغربته تلك التي عاشها بعيدًا عن والديه، قريبًا من أكـفّـنا التي كنا نرفعُها، صباح مساء، بالدّعاء ليعودَ إلينا كما عاد يوسف إلى والديه.      

خمسةُ أيام كانت كافية ليعيشَ في قصيدتنا هذا الطفلُ ابنُ الخمسة أعوام، ليعيشَ العُمرَ كلّه، حاضرا ريّانا، بعد أنْ نجح في توحيد العالم، وحشْد الانتباه لحالة طفولتنا في اللحظة التي يدفعُها فضولُ الاكتشاف، وغيابُ مرافق اللعب، نحو غياهبِ المجهول.

إن بيت الشعر في المغرب، إذ ينعي قصيدتنا البكر هاته، التي لم تجد طريقها للإيناع، يتقدم بخالص العزاء و صادق المواساة لوالدي الطفل ريان، شاكرا و مقدّرا الجهود التي بذلتها  أيدي  الإنقاذ المغربية التي هزمت الجبل، واستعادت من جوفه ابننا ريان، ليرقد في حُفرة أخرى حيث يُمكنُ الترحم عليه، وتركُ وردة على قبره، تمدّ عروقَها بالطيب إلى جسده المنهك الصغير. 

 كما نشكرُ في بيت الشعر في المغرب كلَّ من شاركنا الأمل، و تقاسمَ معنا الألم، خلال هذه المحنة التي وحّدت البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وأكّدت، بجلاء، الحاجة المستمرة إلى ما يوقظ المشاعر الدفينة في قعر الإنسان، و يبعثها من جبّ اللامبالاة نحو سطح المعنى والحياة.  

شكرًا لك ريان... شكرا للقصيدة التي ضفرتها في بئرك الدفينة، والتي عبَرت معك النفق نحو وجداننا وذواتنا، فغسلتها بالماء والضوء. 



إنا لله و إنا إليه راجعون....

مراد القادري //المغرب الثقافي

 بلاغ عن استقبال السيد محمد مهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، لوفد عن بيت الشعر  في المغرب.



شكّل استقبالُ السيد محمد مهدي بنسعيد وزير الشباب والثقافة والتواصل لوفد من بيت الشعر في المغرب، يتكوّن من الشّعراء :  》مراد القادري و نجيب خداري والناقد خالد بلقاسم 》،  مناسبةً للتباحُث في سُبل تعزيز الشراكة التي تجمعُ بين الطرفين، والتي تتميّز بالمتانة و القُوة، كان من نتائجِها، على مدار أزيد من ربع قرن، الارتقاءُ بالحياة الثقافية و تقديمُ نموذجٍ مُضيء في الديمقراطية التشاركية التي تجمعُ القطاع الحكومي المكلّف بالثقافة ومؤسسة ثقافية مدنيّة مُستقلة، وهو ما يُمكِن تلمُّسُه، مثلا، في النّداء الذي تقدّم به بيت الشعر بتاريخ 29 يونيو 1998 للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونيسكو) من أجل إقرار يوم عالمي للشعر، وهو الاقتراحُ الذي حظِي آنئذ بتزكية من طرف وزير الثقافة محمد الأشعري، و الوزير الأول الأستاذ الراحل عبد الرحمان اليوسفي، حيث استجابت اليونسكو لهذا النداء وأعلنت في 15 نوفمبر 1999 عن 21 مارس يوما عالميا للشعر.

 كما يُمكن ملاحظة هذا التعاون، على مستوى ثانٍ، من خلال مجلة "البيت" التي تصدُر عن بيت الشعر بدعم من وزارة الثقافة، حيث بلغت هذه المجلة المتخصّصة في الشّعر و نقْده و ترجمتِه عددها الأربعين ( 40)، وهو ما ساهم في التعريف بالشّعر المغربي وتقْريب صلاته بالجُغرافيات الشعرية العالمية، عبر اسْتضافة شُعراء وتجارب عالمية كبرى، علاوة على انفتاح صفحاتها على مُختلف أشكال التعبير المرتبطة بالشّعر أو المشتغلة عليه، وتقديم أصوات جديدة تنبئ بالوعْد الكثيفِ لمستقبل شعرنا المغربي. 

كما تُمثّل جائزة الأركانة العالمية للشّعر لحظةً أخرى للتعاون والشراكة التي جمعَت الطرفين معا بمؤسسة الرعاية لصندوق الإيداع والتدبير، الجهة الراعية لهذه الجائزة التي يُعتبرُ منحُها علامة مُميّزة في تاريخ ومسارِ الشُعراء الذين فازوا بها، وشَرَفُوا بها، و شرُفت بهم، من مثل الصيني باي ضاو، والفلسطيني محمود درويش، والعراقي سعدي يوسف، والفرنسي إيف بونفوا، والإسباني أنطونيو غامونيدا، والبرتغالي نونو جوديس، و الطواريقي خواد، واللبناني وديع سعادة، والألماني فولكر براون،  والأمريكيين مارلين هاكر و تشارلز سيميك و المغاربة محمد السرغيني و محمد بنطلحة و الطاهر بنجلون و محمد الأشعري، وهو ما جعل من هذه الجائزة جائزةٌ للصّداقة الشّعرية، يقدّمُها المغاربة لشاعرٍ يتميّزُ بتجربةٍ في الحقل الشّعري الإنساني ويُدافع عن قِيم الاختلاف والحُرية والسّلم، بها يُحيّي الشّعراء المغاربة وبها يتقاسمُون و الشعراء الفائزون حُبّهم للشّعر وسَهرَهم عليه، بما يليقُ من التّحية.

كلُّ هذا التاريخ الممتدّ في الشّراكة والتعاون كان حاضرًا خلال لقاء السيد وزير الشباب والثقافة و التواصُل مع وفد بيت الشعر في المغرب، حيث أكّد الطرفان إرادتهما المشتركة على مُواصلة العمل من أجل تطوير هذه التجربة  الغنيّة في العمل الثقافي الثُّنائي، عبر تجْديد و تطوير و تحْيين اتفاقية الشراكة التي تجمع بينهما، فيما عبّر السيد الوزير عن استعداد وزارته لإطلاق برنامج دعم النشر والكتاب، وهو البرنامجُ الذي يُمثّل شريانًا حيويّا بالنّسبة لقطاع الصناعات الثقافية في مجال الكتاب، كما عبّر عن رغبته في إحداث مبادرة ثقافية جديدة تتمثّل في نقل الشّعر المغربي وترجمته إلى اللغات الأجنبية، واستعداد الوزارة لدعْم مهرجان الشعر الإفريقي، الذي يعتزمُ بيت الشعر تنظيمه بمدينة زاكورة، ودعم طلب بيت الشعر للاستفادة من مقر ثقافي بمدينة الرباط،  وذلك ضِمن برنامج الرباط عاصمة الأنوار، و استعدادها لتكون عاصمة للثقافة الإفريقية و الإسلامية. 

هذا، و من جِهته، عبّر الشاعر مراد القادري، رئيس بيت الشعر، خلال هذا اللقاء، عن تثْمينه لمسار و مُنجز مائة يوم من عمل الوزارة في الحقل الثقافي، مُشيدًا، من جهة أخرى، بتخْصيص السيد رئيس الحكومة عزيز أخنوش، و لأول مرّة في تاريخ العمل البرلماني، جلسة لمناقشة موضوع “السياسة الثقافية”، والتي أكّد من خلالها عن إرادة الحكومة المغربية الجديدة لإقرار سياسة ثقافية بمُشاركة كافة الفاعلين والمعنيين بالإشعاع الثقافي الوطني ودعم اقتصاديات الثقافة.




نشر مراد القادري

عن المغرب الثقافي 

 الرباط في 4 فبراير 2022

حسن نجمي

 توضيح من الشاعر الكبير أدونيس 


يُرجَى تعميم هذه الرسالة من والدي، أدونيس. وكما تعرفون، ليست لديه صفحة على فيسبوك، وكل الصفحات التي تحمل اسمه( في الشبكة الاجتماعية، تقصد)

《 لا علاقة له بها ولا يَعرِف أصحابَها  》


وصلني نص يبدأ بعبارة "عزيزي الله…" حول الاسلام أعده ضدي أولا شخصياً، فهو ليس لغتي، وليس أسلوبي، والآراء التي يحملها ليست آرائي. لذلك أتبرأ كلياً من هذا النص وأرجو من الذين قرأوه أن ينظروا إليه بوصفه تزويراً كاملاً تُقصَد منه الاساءة اليّ.


 وقبل كل شيء أكرّر ليس لدي موقع فيسبوك أو غيره من صفحات التواصل الاجتماعي. ولا أعرف أي شخص على الاطلاق من أولئك الذين يفتحون صفحات باسمي.


 أشكر جميع الذين يقفون مع الحقيقة ومع كرامة الإنسان. 


                                                                 أدونيس






  (عن ابنة أدونيس 

Arwad Esber)


* قبل نشر هذا التوضيح ، كلّمتُ الصديق أدونيس هاتفيا ،وتحدثنا قليلا عن هذا الاستهداف ، وأيضا عن مقالته الأخيرة الجريئة التي نشرتها صحيفة " الشرق الأوسط" في سابقة دالّة على مستوى الخط التحريري لهذا المنبر الإعلامي السعودي.



حسن نجمي 

المملكة المغربية 

الخميس، 10 فبراير 2022

أشرف قاسم

 عرفانية اللغة في "العابرة إلى السراب"

____________________


في خضم أعمالها الروائية التي تمثل القضية الفلسطينية فيها حجر الزاوية تفاجئنا الكاتبة الفلسطينية بشرى أبو شرار بمجموعتها القصصية التي صدرت ضمن كتاب الرافد الرقمي عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة " العابرة إلى السراب" وهي عبارة عن مجموعة من النصوص القصيرة، تقترب كثيراً من النصوص العرفانية، بلغتها الصوفية، وروحها المتقدة، المتطلعة للخلاص، تلك اللغة المتوهجة التي تقتحم بأنوارها عتمة الروح فتضيء مساحات شاسعة، وتربت على تلك الروح بأكف المواساة، والتي تبدو أحياناً لغة مبتورة، غير مكتملة الصورة، وكأنها صورة من تلك الذات الساردة في وحدتها وانفرادها وأحلامها المبتورة.

تتماهى الكاتبة مع نصوصها، يبزغ الإنسان بشتى حالاته الانفعالية، وتناقضاته، تتجاور شتى المشاعر الإنسانية من حب ونفور، وعشق وكره، وقرب وبعد، كل هذا تحمله لغة أشبه ما تكون بلغة العارفين من المتصوفة، أبناء الطريق، تلك اللغة الروحية المقطرة العذبة، التي تفيض رقة وشفافية:

"لي ظل غاب عني، أبحث عنه، ويبحث عني، وما بيني وبينه نحول الوقت في متاهات الروح، صمت أسمع البكاء في أنحائه، لا صوت، هي دمعات الغريبة، تلون مدارج صمت هو لي، دروب مضت بي ومضيت بها ..." ص 8


تندثر الهوامش في اتون المتن، ويندثر المتن في ارتقاء الهوامش، ليصيرا معا بوتقة تحمل داخلها روح الإنسان بأحلامه وآلامه، بفرحه وحزنه، بجبروته وضعفه، ذلك الإنسان الذي هو أساس الوجود، وأس الحياة، ومدار الخلق والإبداع، والفكر دون فلسفة ودون ضجيج، فقط هو شيء من روح الله:

"التقيتها على هامش الوقت، ضمتني إليها، بوهج ابتسامة تهمس لي:

جميل عطرك، وقد سكن أنفاسي

أخذتها الطرقات بعيداً، صرت أنا والعطر والفراغ، أهمس من روح الوجع:

هي لا تعرف أن هذا العطر هدية رجل سكن الغياب، ولم يبق لي منه إلا زجاجة عطر. ص 13


تتجلى في نصوص تلك المجموعة صورة الوطن، والحب والحنين واللوعة على فراق هذا الوطن الجريح "فلسطين"، هذا الوطن الذي يسكن قلب وروح الكاتبة، وفي تلك النصوص يتجلى انتماؤها إلى أديم هذا الوطن، فالوطن ليس مجرد مكان تحده حدود جغرافية وحسب، بل هو كل التفاصيل التي بثتها بشرى أبو شرار في ثنايا نصوصها بحرفية وصدق، تلك التفاصيل الصغيرة التي تستعيدها خلال نصوصها بألم وحسرة، فنحن نغادر الوطن مرغمين، ولكنه لا يغادرنا، تبقى أرواحنا وقلوبنا معلقة به، نقاسي آلام الغربة، ونتجرع كؤوس الفراق، فيشدنا الحنين إلى أوطاننا، ومرابع طفولتنا، وتفاصيل ذكرياتنا:

"لي مدينة لها سور قديم، هناك أنا، حيث تركت مطارح أقدامي على عتبة "باب العامود"، على بوابات القدس طيرت جدائلي، ولم تعدها الريح لي، هناك تسكنني ألف مدينة ومدينة، من يعيدني؟ من يعيدني؟ " ص 33

يلعب الرمز كذلك دورا مهما في هذه النصوص، ولكن الكاتبة لا تغرق في الرمزية والغموض، ولكنه الرمز الموحي الدال على معان روحية ووجدانية، الحامل لرسالتها لفلسفة الوجود الإنساني، من خلال سياقات فنية متعددة، ذات أبعاد مختلفة، جوهرها الإنسان، وماهيتها مأساة اغترابه في هذا الوجود، وربما هذا هو ما حدا بالكاتبة إلى اللجوء إلى اللغة العرفانية المتصوفة، لأنها أكثر سعة ورحابة في التعبير عن شتى المتناقضات، من فرح وحزن، وحياة وموت، وغير ذلك:

أفتح خزانتي، رفوف على سكونها وملابس لاذت إلى سكونها، في ركن منسي قميص نومي بلون وردات النهار، انتشلته من عزلته، وردة رقيقة مازالت تسكن حوافه، هل أعود من جديد وأحب قميص نوم أذابه النسيان، في كف يدي قارورة عطر، قميص نومي يتنفس عطري، صرت أنا القادمة من روح وردة ص 25

كما أن هذه النصوص التي ضمتها تلك المجموعة، والتي تربو على الخمسين نصا، والتي جاءت في أربعين صفحة فقط، ما هي إلا لقطات التقطتها عين الكاتبة، من خلال كادرها الخاص، وكأنها تقبض على تلك اللحظات، كي لا تهرب من إسار الزمن، بغية توثيقها، لذا جاءت غالبية تلك النصوص قصيرة مكثفة في عدة أسطر، لاعتماد الكاتبة على التكثيف الدلالي، من خلال الجمل القصيرة/المبتورة/ ذات الإيحاء، والتي تختزل اللحظة، وتترك للمتلقي فسحة لخياله ليكمل أبعاد تلك اللحظة، ومن هنا جاءت نصوصها مصفاة، بعيدة عن الحشو اللغوي.



قصيدة للإيطالي: جوفانّي باسكولي. ترجمة: أسماء غريب.

 النسَّاجة  

      

هناكَ  فوْقَ الوادي المُظلمِ   

  نَثَرَ الفجْرُ قطعَانَهُ:

      رعاةً وأغناما بيضاً

وحين حلّ المساءُ   

عادَ الجميعُ    

يتسلّقون الأعالي 

  مُنهكِي القوى   

  إلى هُناك حيثُ البيتُ 

    تقودُهُم إليه نجمةٌ

عادوا إلى مُعلّمتهِم    

يتقدّمون بخُطى وئيدة ويصيحون:

     هناك في الشرفة  

 بين أوراق النعنع 

وعُروش الريحان

    تجلسُ غادة شقراء: 

  إنّها مريم، تحيكُ وتخيطُ

     لمَ، ولمنْ، 

وماذا يا تُرى؟  

  أإزاراً، 

أمْ خماراً أبيضَ؟

السّماءُ كلّها ورديّة اللونِ 

     وردية وذهبيّة اللونِ

     السماءُ كلّها 

فوقَ رأس الصبيّة  

  تعكسُ نوراً وهّاجاً.

    ارفعي عينيكِ 

عن الحياكةِ:  

  فيهِمَا دمعة؟ 

بَسمة؟

تحت السّمَاءِ الورديّة

 والذهبيّةِ   

أحنتِ الصبيّةُ وجهها 

وعينيْها

     إنّها تنسجُ وتحيكُ.