الخميس، 28 فبراير 2019

بقلم عبد الرحمان الصوفي

دراسة نقدية مستقطعة ( الجزء الثاني ) للتجربة الشعرية لمليكة الجباري من خلال ديوانها ( على صهوة الجموح ) / عنوان الدراسة المستقطعة ( رباعية الجموح : الذات ، التمرد ، الصمت ، الغربة والاغتراب / ديناميكية النصوص ومقاييس نقد الشعر  ) 


======================    مقدمة =============================


بسم الله الرحمن الرحيم 


ينطلق علم الجمال في الأدب والفن من مبدأين رئيسين هما : المبدأ الحسي ، والمبدأ الوظيفي الأخلاقي . وهذا تقسيم مرتبط بالعلاقة المتبادلة بين الفن والأخلاق ، التي تفصح عن مضمون الأدب ، ووظيفته الاجتماعية ، وعلى الرغم من أهمية هذه القضية ( قضية الأدب والفن والأخلاق والواقع والذات  ) ، فقد تبلورت حولها رؤى عبر مد العصور  والكثير منها تؤكد على أهمية الأدب والفن في تربية الفرد جماليا ، وتنمية ذوقه وإدراكه ، ويتضح دورهما كذلك في مراحل كل تحولات اجتماعية كبيرة ، حيث يتكثف دورهما ( الأدب والفن ) في تأثيرهما الفعال . يكاد يكون ( هيكل ) من أبرز الفلاسفة الذين الذين حاولوا تحليل الظواهر الاجتماعية ، بما فيها الأدب والفن ، ومن خلال منهجه الجدلي ، دون أن يفصل العناصر الاجتماعية عن بعظها البعض ، ولذلك فقد حلل الفن والأدب وصلتهما بمختلف أشكال النشاط الإجتماعي ، والعلاقات الإنتاجية الاقتصادية والسياسية ، ونتيجة لذلك ، ثم الكشف عن مختلف المجالات للثقافة الجمالية ووظائفها الاجتماعية المتعددة وشروط تطورها . وبناء على هذا قرر ( هيكل ) أن الفن والأدب هما أحدا أشكال الكشف الذاتي للروح المطلقة . ومن هذه النقطة بدأ ( لوكاتش ) تطوير أفكار ( هيكل ) في علم الجمال عموما ، مستفيدا من إنجازات بعض العلوم ، مثل علم اجتماع المعرفة ، وعلم التأويل ، وركز على علاقة الأدب والفن بالبنى المختلفة للوجود الإنساني ، فنقل رؤاه وعممها في المجالات المختلفة للنقد الأدبي ، مركزا كذلك على طبيعة العلاقة الجمالية بين الأدب والفن والواقع  حتى توصل إلى الواقعية منهجا جماليا يفسر به الأعمال الأدبية من ( هوميروس ) إلى ( توماس مان )  . 


جاء في كتاب ( الذرائعية في التطبيق في تحليل النص الأدبي العربي ) في مدخل ( الخلقية الأخلاقية للنص أو التيمة ) ، ما يلي : ( تمتاز كل النصوص والأعمال الأدبية الرصينة برمتها على موضوع خاص يبنى عليه النص بشكل كامل ، كأن يكون سياسي أو اجتماعي أو إنساني ، يلاحق السلبيات ويثبت القوائم الأخلاقية في المجتمع ، وذلك هو واجب الأدب والأدب الحقيقي الرصين ، ويشترط أن يلتزم الأديب بقوائم الأخلاق والمثل الإنسانية العليا ، ولا يحق له التعرض لمنظومة الأخلاق العامة ، والأديان والأعراف والقوانين بشكل هدام ، حيث يشترط أن ينضوي الأديب الرصين تحت خيمة الالتزام الأخلاقي الأدبي ... وهذا المبدأ يفرض على الأديب الالتزام بالقواعد الأخلاقية المنظمة في المنظومة الأخلاقية العالمية ...لذلك يجب أن يكون النقد هو الحارس الأمين لكل التجاوزات الأدبية الهدامة ، التي تخترق بنية الأعراف والقوانين والأخلاق لعالمنها بكل أطيافه وأجناسه ....) .


=============== في السيرة الذاتية للشاعرة ===========================


تقول الشاعرة مليكة الجباري : ( قلت يوما إذا استطعت أن أتصيد النور في الكلمة فأنا قادرة على إشعال الشموع في كهف عتمة الوجع  مادة قصائدي على صهوة الجموح من قلب الواقع ، قصائدته تترجم بعض من سيرة الشاعرة وهي حالة فوضى السؤال في حالة تأمل ...وفي حالة ألم ، هي ليست معصومة من البوح في حالة استرجاع ذكرى ...حاولت الانتصار لوعي البوح والإمتاع الفني ، ساءلت الذاكرة وما رست سلطة الشاعرة بداخلي لاكتشاف أرخبيل الصور العالقة والتي قضت مضجع القلم فاضطر معها للترجمة في حفلة في حفلة تصالح مع الذات الغاضبة . هناك لحظات نتمرد فيها على استسلامنا عن وعي ونضج للنتصار لهذا الشغب الفكري . حاولت الهروب من عملية اجترار ما حولي من ملامح كتابية . فشعرية الخطاب تطلب مني أن أكون أنا وأصفي للغتي فبل أن يصغي إليها القارئ ، وفي قلب عملية الاصغاء حاولت تطوير قدرتي في البحث عن كيفية الوصول للقارئ وإثارة وعيه وإمتاع ذائقته الفنية ، كالنحات وإزميله كلما اقتربا من بعضهما أكثر اقسما على الولاء والإخلاص للتحفة الفنية حتى تنطق إبداعا . ) 

يمكن الاطلاع على سيرة الشاعرة الذاتية في الجزء الأول من دراسة التجربة الشعرية للشاعرة مليكة الجباري .

========= المدخل البصري لديوان الشاعرة ( مليكة الجباري ) ( على صهوة الجموح ) =============


ديوان ( على صهوة الجموح ) ، متوسط الحجم ، تحمل واجهته الأولى للغلاف لوحة تشكيلية ، تتشكل من حصانين متداخلين ، الحصان الأكبر مشكل بأحرف من الخط العربي ، والحصان الثاني رسم تشكيلي للحصان العربي . يقع الديوان في مائة وأربع صفحات  تضم تسع وثلاثين قصيدة نثرية ، نذكر منها ( غزل البنات ) ، ( كن وطنا ) ، ( وشم على صفحة الماء ) ، ( سكني خارج الذاكرة ) ، ( صهيل الصمت ) ، ( متمردة هي ) ، ( امرأة أنا ) ، ( موجة بلا وطن ) ، ( آه ياوطن ) ، ( العرائش ) ،( حروف محتلة ) ، والكثير من قصائد أخرى ، كما لا حظنا قلة استعمال علامات الترقيم بالمقارنة مع ديوانها الأول ( في قلب العاصفة ) ، تختلف القصائد من حيث الطول والقصر ، مركزة على نقط الحذف في الكثير من القصائد . قدم للديوان الناقد الأدبي ( الميلودي الوريدي ) ، حيث يقول : ( حروفك أيها الشهد تعشق الجموح والشموخ .. يسكنها توق المعاناة والمجاوزة .. لا تهادن ولا تستكين ، ولا تدين إلا بقداسة انتهاك المواضعات والمألوفات ... وعلى هذا الدين نسجت " مليكة الجباري " ديوان حروفها الجامحة ... فالشعر عندها مذهب " جون كوين " : هو ذاك النمط الذي يجده الليل في أحلامه ، وتجده القصيدة في كلماتها ...حروف ملفوظها اللغوي ليست إلا جزءا من بنية الكون ... تنتمي إلى هذا الكون انتماءها للنص ..والنموذج الذي يولد من رحم شعر اللغة يستلهم مصداقيته الخاصة لدى " مليكة الجباري " من خلال قدرته على نقلنا إلى الشعر خارج اللغة ...أو بتعبير آخر تنقلنا الشاعرة من سواد الأوراق وبياضها إلى الحياة ... وهذا لا تستطيع تحقيقه إلا " اللغة العليا ..) . 


تحمل الواجهة الخلفية للغلاف مداخلة للمفكر والأديب المغربي ( محمد محمد البقاش ) صاحب ( النظرية الممدرية / في الفكر والأدب والفلسفة ) ، جاء فيها : ( على صهوة الجموح ركاب شاعري للأبحار في عالم الصورة الشعرية لمبدعة يتخاصم فيها الواقع والخيال .

الصورة الشعرية للمبدعة ( مليكة الجباري " تمتح من مشاعر جياشة فترشف رحيق الكلمات بمرشف يتجاوز لذة المتعة إلى قارئها . ترسم المبدعة في ديوانها من بين ما ترسم أحلاما مسروقة ، وفجرا مغتالا ، وأكفا مغتصبة بالحيرة ، ولا هيا على الرصيف فيستدير بها الزمان لإعادة طفولتها وهي تقص علينا قصة زمن فزيائي أبي إلا أن يطلب يد الشعر للزواج منه .
تتشظى الشاعرة بين لهفة البقاء وجموح العطاء وكأنها كوكب البكوك ( يمكن العودة للتعرف على الكلمة في كتاب ( النظرية اللممدرية / للكاتب ) . تتأبط نصوصا وهي مهرولة نحو محراب الإبداع حتى تأمن عليها من المطارد ، المتسلل خلسة . يغوص ظلها في لجي فيظل ظليلا ولا دليلا على ظله من الشمس . ينشر ظلالا يربت على أكتافها القصيد . تلك هي الومضة الشعرية التي تنتج من تيار ليس مصدره المحاكاة لأساليب تعبيرية من غير الذات المبدعة ، لا تومض الومضة المتميزة إلا من مصدر متميز وما أكثر التميز في المبدعين الذين يرفضون التألق إلا من داخل ذواتهم  . ) .

========== الاحتمالات المتحركة أو ديناميكية نصوص ديوان ( على صهوة الجموح ) من داخل التجربة الشعرية للشاعرة ( مليكة الجباري ) ==================================


نوضح للقارئ والمهتم خطوات دراستنا النقدية الذرائعية  المستقطة ( أي استقطاع أقوى المداخل في العمل الأدبي ؛ من مداخل النظرية الذائعية العديدة والمتعددة ) ، أول هام سنغوص في التجربة الشعرية للشاعرة من خلال نصوص ديوانها ( على صهوة الجموح ) ، مدخلنا الأول ( الاحتمالات المتحركة أو ديناميكية النصوص ) ،  ، ثم سننتقل لمدخل ( مقاييس الدقة في الإبداع الشعري ) . ونوضح لكل قارئ و متتبع أننا ونحن نغوص في هذين المدخلين ، لم نغفل كل المداخل الأخرى ، والتي سجلنا حولها ملاحظاتنا النقدية ، فهي زاد وأدوات غوص تساعدنا على استخراج مخبوءات التجربة الشعرية في نصوص الديوان . كما أننا لم نغفل ملاحاظتنا لكل دواوين الشاعرة ، وسجلنا لكل ديوان مفاتيحه النقدية لقراءة التجربة الشعرية بشكل متكامل .ولم نغفل كذلك الاطلاع على التجارب الشعرية في المغرب والمعاصرة للشاعرة خاصة التجارب النسائية .


نقصد بالاحتمالات المتحركة : ( ينطلق الناقد المتبصر من مجريات النصوص الداخلية مع ملاحقة الأفكار المتصلة فيما بينها بالتحليل ، وجمع الأفكار واللهات خلف الدلالات والرموز والأفكار المتعاقبة والمكملة لبعضها ، فيسلك سلوك صياد اللؤلؤ ، كلما غاص عميقا كان صيده وفيرا ودسما ، لذلك يساير الأفكار المتدرجة ، والتي لا تفضي للتناقض ...) .


================== العنوان / على صهوة الجموح / =======================


يتشكل كل مؤلف( فتح الألف ) من معادلة هامة جدا ، معادلة تشبه كفتا ميزان في حالة التساوي الذي لاتميل فيه كفة على أخرى ،  أولها العنوان ، وآخرها النص البصري، فيحمل دلالات مكثفة لمضامين النصوص الموجودة مضمونا وشكلا ، وهو وجه نص مصغر على صفحة الغلاف ، حيث يصلح أن يكون عنوانا لكل نص من النصوص البصرية  ، لهذا يعد العنوان  في ديوان الشاعرة مليكة الجباري حاملا لنظام سيميائي ،  ودلالات أخرى رمزية تغري الدارس بتتبع دلالاتها بغية الوصول لاستجلاء المفاهيم النصية المخبوءة داخل الفضاء والحيز النصي . العنوان هو عتبة لا يمكن تخطيها ولا تجاهلها ، إن أراد الدارس التماس العلمية في التحليل واللغة في التفسير والتأويل ، يقول الناقد ( ليوهوك ) : ( العنوان مجموع العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرج على رأس كل نص لتحدده وتدل على محتواه العام ) .


_ الغلاف : 


تتكون صورة الغلاف من وحدتين هامتين : وحدة أمامية حاملة لوظائف الغلاف ، ووحدة خلفية لها دورها الذي لا يقل أهمية عن دور الوحدة الأولى ، وكلاهما يحتاجهما المتلقي والناقد والكاتب . فالتنقيب في كل المكونات يجعل كل الأطراف تشارك تشاركا فعالا ، لأنه يدفع الكل للبحث في الدلالات السطحية والعميقة والخفية والرمزية ..وهو منطلق بداية غوصنا في نصوص ديوان ( على صهوة الجموح ) .


_ صهوة : 

ورد في معجم المعاني الجامع ، الصهوة موضع السرج من ظهر الفرس ، أو البرج يتخذ فوق رابية ، كما أن الصهوة مكان متطامن من الأرض ، وهي كذلك منبع الماء في جبل  ، وما ورد في الشعر العربي : 

إلى صهوة تتلو مجالا /// صفا دلصته طحمة السيل أخلق 


وفي بيت آخر :


كأنها خرف واف سنابكها /// فطأطأت بؤرا في صهوة جدد


وفي نفس السياق نورد بيتا آخر : 


ولا أكون كمن ألقى رحاته /// على الحمار وخلى صهوة الفرس 


_ الجموح : 


أما كلمة ( الجموح ) فنورد شرحها من ( معجم الرائد ) وهي كالآتي : 

جمح الفرس : تمرد على صاحبه وغلبه وذهب يجري ، وجمحت المرأة من زوجها : خرجت من بيته إلى أهلها غاضبة ، ومنها كذلك جمحت الصحراء به ضيعته من بعدها . نقدم أمثلة أخرى من الشعر العربي . 
يقول الشاعر : 

الجهل بعد الأربعين قبيح ///فزع الفؤاد وإن ثناه جموح 


و بيت أخر في نفس السياق : 


ولكني ضبارمة جموح /// على الأقران مجترئ خبوس 


_ الذات الشاعرة في التجربة الشعرية من خلال العنوان  : 


حضور الذات الشاعرة في التجربة الشعرية هو حضور يستخدم لغة لها تراثها الطويل عبر مد العصور ( الصهوة والجموح / وصورة الحصانين المتداخلين / غلاف الديوان ) ، والمنوط بكل تجربة حفظ هذا التراث ، ليصبح من عوامل الثبات  في الحضارة . ومن هذا المنطلق نسجل للشاعرة في تجربتها رغبتين ، الرغبة في التجديد والتحديث وتغير حياة الجماعة من خلال  ( الجموح )  ، والرغبة في التباث والمحافظة على الأخلاق والأعراف ( الصهوة )  فأصبحت الرغبتان تطور ضمن السياق العام للأدب العربي الحديث ، ويتمثل في تحول موقف الأديب بصفة عامة من طرف الثبات والمحافظة إلى طرف التغيير . فالإبداع يقوم أساسا على الخصوصية الذاتية وهي المرتكز الأهم في خلق مضامين جديدة ومبتكرة ، خاصة وأن اللغة العربية عرفت تطورا صوتيا ودلاليا وتركيبيا ، فحداثة اللغة هي أداة تكون بقدر ما تقدمه لأبنائها من مادة خام مطواعة يمكن تشكيلها بمختلف الأشكال الجمالية في كل تجربة أدبية أو شعرية  ، لغة في استعداد دوما  لتساعد كل مبدع فنان على التجديد والابتكار . فيصبح الإبداع مشروعا حضاريا كبيرا . نقدم قصيدة ترصد الذات الشاعرة في تجربتها الشعرية ، التي تركب صهوة الجموح . ويتضح حضور الذات الشاعرة في في قصيدتها المعنونة ( امرأة أنا ) بشكل جلي .


تقول الشاعرة في قصيدتها المعنونة ب ( امرأة أنا ) :


نافذة البيت لحظات تنتشي 

بعبق الذكريات
تزخر بالحزن بالآهات
تتوسد حيرتي 
عمق القصيدة والأبيات 
من أنا من أنت يا امرأة ؟؟؟
بين ريشة الرسام 
وحكي الكلمات 
قصتك تفاحة نضجت 
ألهبت إقدام الفرسان 
وألهمت كتاب المعلقات
وشمتك عصافير الأساطير 
كاهنة 
ساحرة 
عاشقة 
عصفت بتاريخ السلاطين والمملكات
في قلبي أنا 
طفلة 
أم 
أخت 
حبيبة وزغرودة الأوطان 
نبض يلهم أجمل الكائنات 
وستار صبر يلتهم الشرارات 
تمتصين الغضب عطرا 
هدية لأفنانك والزهرات 

_ تركيب العناصر المكونة للعنوان ( على صهوة الجموح ) :


لما تعرفنا على شرح الكلمتين ( صهوة الجموح )  تأكد لنا بالملموس رمزية اللوحة التشكيلية في الدفة الأولى للديوان ، ودفعتنا لطرح العديد من الأسئلة تساعدنا تغرينا بالغوص في التجربة الشعرية للشاعرة ، فهل الديوان تجربة شعرية في حالة ( جموح ) ؟ ألم يدع الفنانون أروح اللوحات للحصان في جموع ؟ فهل ستكون القصائد جموح جمالي لا يقل جموح الحصان في اللوحات التشكيلية ؟ ... لا شك أن الخيل كانت ولا زالت مصدر إلهام للفنانين والمبدعين في مختلف دول العالم ، فمنهم من أظهر جمالها في تناسق أجسادها ، وقوة عضلاتها خصوصا الخيل العربية ، ومنهم من سجل لحظات فوزها وحضورها المنافس في ميادين السباق ، أو في السلم والحرب ، وهناك من قدمها من جانب جمالي ، من خلال الرأس والعينان أو تتجمل به من إضافات ( السرج ) ... ونسجل للعديد اجادتهم  اقتناص حلالات الجموك والهدوء والعلاقة بينهما وبين فارسها . ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ، لوحات الفنان العراقي ( علي المعمار ) واقتناص ريشته لملامح الجمال في الجموح عند الخيل . ونذكر كذلك الفنان التشكيلي المغربي ( الحسن الخيري ) .

عنوان الديوان ( على صهوة الجموح )  يحيلنا على مجموعة قيم ذات البعد الكوني ، المترتبط بالواقع ورفضه أو الجموح عنه رغبة في التغير .

===================== تجربة الجموح المتمرد في الديوان ==========================


مما لا شك فيه أن نزعة التمرد والجموح على الواقع السائد والمألوف شعريا واجتماعيا وسياسيا والرغبة بالاختلاف عن التجارب السابقة السائدة أهم علامات الحداثة في الشعر العربي الحديث  عموما ، وفي التجربة الشعرية عند ( مليكة الجباري ) خصوصا . خصوصية شعرية عند الشاعرة في نصوص ديوانها خصبة ومتنوعة إلى حد كبير بفضائها وعطائها ، حيث أصبحت التجربة الشعرية أداة كشف وتحرية لكل ما في داخلها وما حولها أو خارجها أي الدخلي النفسي والخارجي الموضوعي ، هي رغبة جادة في المجابهة والتمرد والجموح لتجربة شعرية نسوية تطمح لحياة خاصة مشوبة بالتمرد والانفعال الوجداني ، يقول ( ريمون جبران ) : ( إن ما يجعل الحياة في النهاية شيئا مستحبا ، هو الخصوصية بين الحياة في معناها العميق ، وبين الحياة من حيث هي خالية من المعنى تظل متروكة تماما بلا مصالحة ..) ، التمرد محرض خاص كي يكون كل شاعر إشكاليا من طراز خاص في تجربته الشعرية .


تقول الشاعرة في قصيتها ( متمردة هي ) : 


قالت : 

استوطني الصمت 
كبلت جسدي خيوط العنكبوت 
تمرغت الحروف على بحوري 
كتبت الغجرية اسمي 
على جدار الموج 

قالت : 

ثوري على أسواري ثوري 
سماؤك نور وشمسك أغواري 
لا ترحمي القيود في دوائري 
مزقي ستار الألوان على أقنعة الفكر 
ارسمي الشغب 
كسري غيمة الحيرة 
التائهة في موج سمائي 
ما أتعبها غير صبر مروري 
أنت من وشم عنوان طريقي 
أحاسيس ثملت على رف انتظاري 
سكبت لهفة التأمل 
مطرا ...
بل عطرا 

تمرد في تجربة شعرية تدرك من خلاله الشاعرة النظرة التقليدية للمرأة في مختلف المجتمعات العربية ، ( كبلت جسدي خيوط العنكبوت / تمزقت الحروف على بحوري ) ، نظرة تضع المرأة في دونية ، فهي أنقص عقلا ، وأقل كفاءة ، ومكانها في البيت ، ودورها الرئيس هو الانجاب وتربية الأولاد ، أو بالأحرى العناية بهم ...قد لا تكون هذه نظرة الجميع فردا فردا ، ولكنها نظرة رائجة . تمرد طموحه تغير النظرة الدونية للمرأة ( ثوري على أسواري ثوري / لا ترحمي القيود  في دوائري / مزقي ستار الألوان على الفكر / أرسمي الشغب / كسري غيمة الحيرة ) . وضع العربية عموما شغل مجموعة من الأدباء والمفكرين والحقوقين والباحثين بمختلف أيديولوجياتهم السياسية والفكرية ، منذ زمن قاسم أمين إلى يومنا هذا ، وضع أصبحت المرأة تعيه وتطمح لتغييره . 


في فم الفرحة وشذرات أفكاري 

ضجت الصرخة في أحشاء السماء 
أتعبها سؤالي 
أهديني سكونا 
يخرس الجنون في وشمك 
على أروقة وجودي 
كبلي الغباء 
في عيون التائهين بين السطور 
السؤال أصبح جوابا 
يسكنه إصراري 
كف السماء لك سقف
رسمها لك مدادي 
فاعلني العصيان ومخاض الخوف 
حقيقة إنه قراري 

في زحمة الحياة اليومية يولد المبدع متفردا بتجربته الإبداعية التي تستطيع أن تساهم أو تقدم الحلول لمشكلات عالم اليوم ،  ومنها الوضع التي تعيشه المرأة العربية ( فأعلني العصيان ومخاض الخوف / حقيقة إنه قراري ) . كما أن التجربة الشعرية  الإبداعية عند الشاعرة تفتح آفاقا جيدة لسد الثغرات التي تفتح سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ( الواقع السياسي والمجتمعي في المغرب بعد الاستقلال )  ، كما تتغور التجربة في صميم المشكلات التي تعاني منها البشرية عموما لإيجاد طرق الخلاص والنجاة ، وترقى إلى اقتراح سبل جديدة تنقذ الحضارة الإنسانية من الانحدار نحو التردي والانحطاط . وكل تجربة إبداعية رصينة  تتميز بالخصائص التالية : 


1 _ الذكاء : تمة حد أدنى معين من الذكاء وهو ضروري لغرض الانهماك في الفعاليات المبدعة ، ونشير إن أن الذكاء العالي لوحده لا يضمن الإبداع .

2 _  التفتح والانطلاق : أي أن المبدع في تجربته يقابل الحياة وهو منفتح في انتباهه وفي عقله ومشاعره للتجربة الحية وللواقع في داخل النفس وخارجها .
3 _ نبذ الأمور السطحية : أي المبدع في تجربته لديه القدرة على تحري الأمور المعقدة ، فيمتلك بذلك الثقة في النفس والمثابرة .
4 _ القابلية على النفاذ إلى أعماق المسائل المبحوثة : أي القدرة على رؤية ما يتجاوز ما هو واضح ، أي الاهتمام بالمعاني والمتضمنات وبالتمثلات الرمزية للأشياء .
5 _ عدم التطابق مع الآخرين : أي أنهم ينظرون إلى الحياة منظار أوسع فلا يلتزمون بالجزئيات والأمور التطبيقية الشائعة .
6 _ المبدع أكثر ولعا بالادراك الذهني : أي أكثر مقاومة للانغلاق ، وأكثر ميلا للبحث عن طرق جديدة في التفكير .
7 _ الطلاقة : أي أن المبدع يمتاز بالطلاقة الذهنية واللغوية وإنتاج أكبر عدد من الأفكار وفي الكلمات والتداعي اللفظي والمجازي .

===========   جموح الصمت في ديوان ( على صهوة الجموح ) =======================


تقول الشاعرة في قصيدتها ( بوح الصمت ) 


دعني أعاتب فيك 

الصمت الحزين 
يامن كنت النبض ولغة السنين 
فالبعد أصبح فيك وطنا جنينا ، 
اسمك أمسى نورا 
كنت أجادله كل حين 
وما تبقى منه غير رسم ووشم 
لن يستكين ...
أجنحة اللهفة حلقت 
فأتعبها الأنين 
أراهن على البقاء في وجودك 
وأنت في عمق 
الزمان أسير 
سأسحب عشقي 
ما له من مصير 
وتبقى سمائي 
تتلحف غربة الحنين 

لقد عجز علماء اللغة على وضع معنى جامع مانع للفظة ( الصمت ) ، لدرجة أنهم قدموا دلالات تصل حد الاختلاف التام . حول دلالة الصمت تختلف الكثير من الآراء ووجهات النظر ، ففي كتب الفلسفة المصرية القديمة والإغريقية نجد أن الصمت يتخذ بعدا مقدسا ، فيصير مصفاة النفس ونافذة للتأمل ووسيلة لحوار الأنا مع ذاتها ، وهو الاتجاه نفسه الذي ذهب إليه المتصوفون الذين اعتبروه مقاما روحيا يطهر النفس . أما فلاسفة الجمال فيرون أن الصمت هو أرقى صور الجمال لأنه يشعر النفس بالهدوء والطمأنينة ويزكي رغبتها في العيش والاقبال على الحياة . وكمثال نقدم  الفراغ في اللوحة التشكيلية والبياض في ورقة ديوان واللحظة الصامتة في العمل الموسيقي ...تضفي على العمل الإبداعي جمالية خاصة . من خلال قراءتنا للديون الأول والثاني نجد كلمة الصمت تكررت أكثر من عشرين مرة ، هو صمت حامل لقيمته في جموحه الذي لا يصل حد الهروب من الواقع  . ( الصمت الحزين / وتبقى سمائي تتلحف غربة الحنين / .في الثقافة المجتمعية المغربية الصمت متعدد الدلالات والتأويلات والسياقات ، فهناك من يراه فضيلة أخلاقية ، وهناك آراء عكس هذه الأخيرة وخاصة في الأمثلة الشعبية .


قصيدة أخرى معنونة ( صهيل الصمت ) ، تقول الشاعرة : 


لا تعاكسني 

جذور الصمت تتلوى 
على همسك 
قرص الشمس يغمده 
وهج السفر إليك 
خاطبت دورة الحياة 
في عمرك 
لا أنفي شظايا الغربة 
الباقية في أعماقك 
أسامر القمر فيك 
يهديني فتيل الهمس 
سلاما على أبوابك 
يسحبني 
لمحراب الجمال عنوانك 
أقدم قدسية الكلام 
ترتيلات تمزق خطاياك 
اعتراها الشوق ...سكنت القصيد 
حنينا رغما عن عنادك 
تماهت في حروفك 
كل السطور 
استوت برياح أمواجك 
استشرت دهرا 
صلب قصائدي فأعلنت التمرد 

جموح الصمت في التجربة الشعرية عند الشاعرة ليست هروبا أو ضعفا ، ولكنها مواجهة حقيقية ترتكز على وظائف متعددة  ( جدور الصمت تتلوى / صلب قصائدي أعلنت التمرد )  منها الوظيفة التعبيرية التي تتعلق بالأدوات التي ستساعد الشاعرة على اختراق حواجز المنع المنصوبة حولها حولها كامرأة ، متخدة في ذلك استراتجية خاصة من خلال التلميح والضمني وغيرهما .

الصمت والتمرد في التجارب الشعرية  النسائية في المغرب لا  يمكن فصله عن التجارب الشعرية الرجالية ، على اعتبار أن كلاهما مرهونان بالواقع المجتمعي ، خاصة أنهما لم يتخليا عن نبرات الصمت المتمرد والاحتجاجات  ونقدم على سبيل المثال لا الحصر الشاعرة وفاء العمراني ومليكة العاصمي وثريا ماجدولين وعائشة البصري وحبيبة الصوفي وحكيمة الشرقاوي وغيرهن .

وفي نفس السياق نقدم قصيدة أخرى من ديوان الشاعرة ( مليكة الجباري ) ( في قلب العاصفة ) / قصيدة ( بين زفرات أنثى ) 


عانق الليل عشقي 

فوشى بي لك شوقي 
بين خطو النسيم 
أسكنه لهفة السنين 
وسحبت عمري وكل أنفاسي 
لوعتي في سماك 
كانت دقات أجراس 
روحي بين روحك هلال 
ولغة حب 
تتبعها شكوى المآسي 
فلا تمرح على ضفة أطلالي 
فأنا نخلة 
وظل ليس كالظلال ...

وجاء في قصيدة ( تنهيدة عتاب ) ما يلي : 


تسحبني لأغواره 

فأراقص تموجها 
لألحن الصمت داخلي 
أيها العتاب ...
من زمن أسقط الأقنعة 
ارحل ...
عبر قطرات المطر 
زجاج النوافذ تشتكي دموعك 
تتلعثم كلماتي استحياء من همساتك 
يسرقني ضوء القمر 
من بعيد 
هاربة من دموعك 
ارتجي قلبا سعيدا 
أهيم أنا في ليله 
أسكن هدوءه 
يتعب مني السهر 
سألغي جفاف الفرح 
وأحث خطى البوح 
لن أستكين على جدان الصمت 
أمهلني مساءلتك الربيعية 
لأسقط الثواني 
حليا ألبسها جيدي .

الصمت لا يعني سكون الزفرات والتنهدات أو الانغلاق بل على العكس هو الانفتاح على أسرار حياة الشاعرة ومخبآت الحياة ، والزفرات هي أروع ما في الإنسان من طاقات روحية  ، هي الوحي الهابط إلى عمق الذات بها يتم التخيف من ضغط الزمن الرديء . يتخلل الصمت في  التجربة الشعرية عند الشاعرة ( زفرات ) ترتبط ارتباطا كبيرا بواقع المرأة المغربية التي تعاني التهميش والدونية والتخلف نتيجة أعراف وتقاليد لا علاقة لها بالقوانين ، ولا بالشريعة الإسلامية ، فالمرأة متهمة باستمرار حتى تثبت براءتها ، وهي الضعيفة باستمرار حتى تثبت قوتها ، وهي البليدة حتى تثبت ذكاءها  وهي الكائن الإنساني حتى تثبت إنسانيتها ، وهي العورة التي ينبغي سترها حتى لا يرى منها أي شيء ...هي وضعية تعيشها المرأة عموما سواء كانت متعلمة ، أو حاصلة على أعلى الشهادات أو مناضلة في جمعية أو حزب أو نقابة ، لان المرأة والدونية متلازمان في الذهنية المغربة والعربية .


وفي قصيدة أخرى عنوانها ( زفرات مسلوبة ) ، تقول الشاعرة :


رقصة الموج على ثغرك 

زفرات عشق مقيدة 
بمرارة الهجر والأسرار ، 
ابتسمي يا امرأة 
فمن قبل 
عرفت سر عبور العصافير 
وقرأت أسرار هدير الغدير 
ونسجت أشعار لحن جريح 
تلمست بأهدابها دفء الشمس 
وسكنت ألوان كل أقواس قزح 
كسرت قيود الليل العسير 
فاشف ندوب الماضي 
برحيق بسمات الياسمين 
كوني عطرا في سكون الفجر ...
واكتبي أغنيات حالمات لقبك 
الموهوب بالرحيل 
......

=========  جموح الغربة والاغتراب   في التجربة الشعرية =================


شعر الغربة المكانية صاحب معظم الشعراء في بعض مواقفهم ، وهو ما يطلق عليه ( أدب الغرباء ) ، ( على رصيف الغربة / نست كتابة العنوان / تاه الاسم ) ، هي غربة عند الشاعرة  ( غربة سياسية وثقافية ) ، والغربة حالة نفسية وخاصة إذا شعرت الشاعرة بأنها غريبة في مجتمعها ، أي العلاقة الغير ودية خاصة وأنها غير قادرة على تحقيق رسالتها الصحيحة في مجتمعها ، وهي موقف يعبر عن الاستنكار والرفض سواء صمتا أو منطوقا . يقول أبو حيان التوحيدي : ( الغريب إذا قال لم يسمعوا له وإذا رأه لم يدوروا حوله ، الغريب من إذا أقبل لم يوسع له ، وإذا أعرض لم يسأل عنه ...) . الغربة في تجربة الشاعرة الشعرية ذاتية تنحو نحو ترسيخ أفكارها كامرأة داخل مجتمع ( كوني عطرا في سكون الفجر / واكتبي أغنيات حالمات لقبك / الموهوب بالرحيل ) ، هي محنة المثقف الأزلية منذ ظهور وعي الإنسان ونشوء عصر الكتابة حتى عصرنا هذا ...الغربة تقاطع بين آراء المثقف / الشاعر وبين واقعه الذي يتسع بمفهومه ليأخذ أشكالا عديدة داخل النصوص وفي الحياة أيضا .


قصيدة ( رصيف الغربة ) 


على رصيف الغربة 

نسيت كتابة العنوان 
تاه الاسم 
بين الزمان والمكان ، 
انسل ماضيك وسقط الكلام 
لملمت اغفاءة روحك 
وطاردت الخلود 
أناجي النجوم فيك كل مساء 
تنفلت الحقيقة 
تعلن أنك بين الأرض والسماء 

مهمة الشعر هي الكشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها  ( على رصيف الغربة / نسيت كتابة العنوان / تاه الاسم  )  يخرجها من حالة اللاشعور المبهم الغامض إلى وضح الحقيقة الواضحة . تمتزج فيها التجربة الذاتية الفردية بالرؤية الإنسانية ، وكلما كانت الدوافع الاستشرافية قلقة ، دفعت بالعملية الإبداعية خطوات ، وفتحت آفاقا أخرى للمعرفة والفكر ، فكلاهما يبحثان عن سبل الوصول إلى الحق . هذه استجابة إبداعية ورؤية فكرية لما يطرأ على عالمنا من تغيرات وتحولات ، والشاعر هو أكثر إحساسا واستجابة لهذه المعطيات .


تقول الشاعرة في قصيدة بعنوان ( من بين عيون الغربال ) 


لوحت لغربال الوقت 

أدركت ثقوبه الواسعة 
فتعالت أصوات الغياب 
بين دوائرها 
وبين ثنايها 
الصوت والصمت 
المعلن 
أمطرت صبابتي على الأيام 
ضجت جائعة 
تستلذ كطفل بسؤال زئبقي 
لم يؤخر ولم يقدم 
موعدا للغربة في وطني 

الغربة احساس للشعور بالانقطاع ، وهي تثير في النفس هواجس القلق والخوف ( فتعالت أصوات الغياب ) ، لكنه شعور عام في تجارب شعرية مختلفة عبر التاريخ ، فالشاعرة ترى الواقع بمنظارها الخاص ، هي رؤية الجموح والتمرد الصامت والمعبر عنه رغبة في كسر القيود والتطلع إلى التحرر من قيم الزيف وأقنعته ( لوحت لغربال الوقت / أدركت ثقوبه )  . من خلال الغربة يحقق الشاعرة أحلامها ، بوعي يسعى إلى بناء وعيه ببنية شعرية دالة برؤيتها عن الذات والعالم .


أما قصيدة ( حروف محتلة ) فورد ما يلي : 


رمى الصمت المشاكس 

على ثغر جداري بسمة 
يثقل وهم الثواني 
لبسمته ثار فتغرب إلهامي 
أماطل الصبر ومعه اللظى 
ولعبة الزمن تلهيني 
أناشد صفاء السماء 
والليل بسحره يطويني 
ألا مهلا يا فجر 
فصمتك يغريني 
قبلك بحت للسهر 
والأفق بنوره غالبني 
شغب الفصول فيك 
هدير بحر أتعبني 
وأنا كالوليد في المهد يشبهني 
أعاند النجم في غياب عيونك 
والصمت يأسرني 

الاغتراب هو بحث عن الحقيقة في ذات الشاعرة وواقعها ومحيطها المجتمعي ، فإذا كان العلم يحتكر الحقيقة ويقدمها دقيقة مضبوطة عن الموجودات الماثلة أمام الأعين ، فإنه عجز على عجز على إدراك حقيقة الوجود وهي الأهم وليس حقيقة الموجودات . فالوجود ليس مقتصرا على الحضور فقط ، بل كذلك الغياب / الاغتراب أيضا . ومن هنا انفتح الباب واسعا أمام الأدب مساهما في البحث عن الحقيقة ، ولم يبق دوره مقتصرا على التذوق والاستمتاع فقط ، وحقيقته أصبحت تنير طريق العلوم الإنسانية .


============ مقاييس نقد الشعر / التجربة الشعرية / مليكة الجباري =============


*  مقاييس نقد المعنى : 


المقصود بالمعنى الأفكار التي وردت في نصوص الشاعرة في ديوانها معبرة عن تجربتها الشعرية . والمعنى هو من أهم العناصر التي نقدها في الشعر ، لأنه لا يخلو من أفكار قيمة . وقيمة المعنى تكون قوية التأثير على النفس متى اتسمت بالقوة ، ومتى ما حققت المقاييس المطلوبة .


_ مقياس الصحة والخطأ : 


التزمت الشاعرة بذكر الحقائق في تجربتها الشعرية ، سواء كانت ذاتية أو نفسية أو تاريخية أو لغوية أو علمية ، خاصة حين يتعلق الأمر بالمرأة الشاعرة التي تعيش في مجتمع ذكوري ، وهي كذلك حقائق تاريخية منها : الهجرة السرية / قوارب الموت  ، ذكرتها الشاعرة بجرأة كبيرة لا تخرجها عن حيز الثقة عند المتلقي . وكنموذج نقدم قصيدة ( أطياب باهتة ) .


أطياف فوق الرصيف 

طفل وطفلة 
وابتسامة محذوفة 
عيون كسرها الحنان 
أسماء بدون عنوان 
مساحة الرصيف تشمل المكان 
ضحكة لها صوت الهوان 
تخبرني عن الوطن الذي كان 
وصورة تحكي ظلم الإنسان 
أطياف طفل وطفلة 
على الرصيف ليس لها 
بيت ولا سقف ولا عنوان ..
أنشودة عانقت الأحزان 
سكنت سطور وثنايا الأزمان 
رتل الليل غياب الأمان 
وشهق الموج احتجاجا على 
خيانة الشطآن 
أهدى البحر عمقه وطنا 
ستر خيبة أرواح 
مات النبض فيها 
ما نعته إلا الأكفان .

_ مقياس الجدة والابتكار : 


لا يطلب من كل شاعر رصين أن يقدم معان شعرية جديدة ، لم يسبقه لها أحد ، لكن المطلوب في كل النصوص الرصينة المعاني الشعرية التي تجد لها مكانة عند الناقد ، . والشاعرة في تجربتها الشعرية فاجأتنا بمعان راقية مصنوعة بأسوبها الخاص الذي به تتميز . ليتأمل القارئ الفطن القصيدة التالية من جانب المعاني المصنوعة في نص ( لوني لك ومنك ) : 


أحسب عمري 

وفي برجك أسكن ظلي 
لوجودك أبقى 
ويبوح سري 
صمتي بركان نار 
لن يحتل صدري 
سأسافر في عيونك 
وتبقى سفير همسي 
عميق أنت بوجودك 
ولونك الذي يشبه لوني .

_ مقياس العمق والسطحية : 


المعاني العميقة في كل تجربة شعرية هي التي تذهب بالمتلقي بعيدا من خلال دلالات سيميائية  رمزية ومعنوية عالية التأثير ، تترك في ذهن المتلقي معان وخواطر لا حصر لها . والمعاني العميقة المخبوءة مرتبطة بقوة الشاعر وموهبته ، وبها يتميز عن باقي الشعراء 


*  مقاييس نقد العاطفة : 


نقصد بالعاطفة الحالة النفسية والوجدانية التي تدفع الميل إلى الشيء أو النفور منه ، وما يتبع ذلك من كره أو حب أو سرور وحزن وغضب ، والعاطفة هي نقطة انطلاق ، فإذا لم تتحرك لا يكون هناك إبداع .


_ مقياس الصدق والكذب : 


كل الدوافع التي دفعت كتابة نصوصها دوافع حقيقية ، وقد بيناها في مدخل الاحتمالات المتحركة ، فالشاعرة امرأة تعيش نفس الأوضاع التي تعيشها المرأة المغربية والعربية عموما ، هي حقائق لا زيف فيها . مما جعل العاطفة صادقة ، وهذا ساهم في بناء التجربة الشعرية عند الشاعرة . تقول الشاعرة في قصيدة ( موجة بلا وطن ) : 


لا تعاتب الزمن 

فيك السحاب يعانق السماء 
وللوصال استجديت غيوم المساء 
ركن السؤال كان لغياب روحك كالإهداء 
ترنيمات هلالية حضرتها 
بجمال وبهاء 
لكن روحك واقصت أمثال 
النجوم بسخاء 
واختالت بين مواويل الغروب 
في الخفاء 
لهج موجك غربة غريب .

_ مقياس القوة والضعف : 


مقياس القوة في كل تجربة شعرية ، حين يسمو التأثير في نفس المتلقي ، فإن هز النص الشعري وجدانه ، كان المبيان العاطفي قويا وأخاذا وساحرا ، وإن لم يترك أثرا في النفس كان مبيان عاطفته ضعيفا  . ونشير أن هذا المقياس يمكن أن تتحكم في أمزجة القراء وطباعهم . هناك من يتأثر بالمدح أو بالغزل ، وهناك من يتأثر بالرثاء أو غيره  تقول الشاعرة : ( روحي بين روحك هلال / ولغة حب / تتعبها شكوى المآسي / فلا تمرح على ضفة أطلالي / أنا نخلة / وظل ليس كالظلال /) .


*  مقاييس نقد الخيال : 


الخيال هو الموهبة والملكة الفنية التي تصنع الصورة الشعرية والأدبية عموما ، وتختلف أهميتها باختلاف كل جنس أدبي .


_ صحة الخيال : 


صحة الخيال ترتبط بالذوق الأدبي ، فالخيال نوعان : الصورة الخيالية البسيطة ، وقد مال الشعر العربي إلى هذا النوع من صور الخيال لحب الشعراء للفكرة وحرصهم على الابتعاد عن الاغراق في الخيال أو المبالغة فيه . والصورة الخالية المركبة وهي مجموعة صور مشاهد تتضمنها كل صورة واحدة ، فنجد الحركة والحيوية في النص ونجد تعدد الألوان والمعاني . 

ديوان الشاعرة ( على صهوة الجموح ) تضمن الصنفين من الصور الخيالية ( البسيط والمركب ) وهي عملية ليست سهلة خاصة وأن الكتابة مهنة شاقة ، لا تتأتي لأي إنسان ممارستها ، فهي عملية مخاض طويلة ، تلعب فيها المعاناة ، والتفاعل الخارجي مع العالم الخارجي دورا كبيرا ، ويأتي الإحساس المرتبط بالفكر ليجسد هذه التأثيرات في الشعر .

وكنموذج نقدم قصيدة ( أدمنتك ) : 


قالت :

أدمنتك ...تاه الكلام 
أدمنتك ...استكانت الأحلام 
أدمنتك ....ثار عشقي 
على ذل الامتهان 
أدمنتك ...فمن يبحث عنك 
وعني 
في رسوم الأوطان ؟؟؟
أدمنتك فهل أنت حلم 
أو ظل عاشق 
وحطام إنسان 
أدمنتك ...فانتحر الكلام 
على منصة الغفران .

صحة صدق الخيال حتى في لحظة تجسيد التأثيرات الخارجية في كلمات ( تاه الكلام / انتحر الكلام ) ، تنهض وتظهر قوة التجسيد ، أو ما يمكن تسميته ب ( الإبداع / تميز التجربة الشعرية ) ، فالكلمات مجسدة بمجرد تفاعل بين الشاعرة ومحيطها ، نماذج لصور خيال ديناميكي لا جامد ، مبتعدة عن النقل الحرفي للواقع ، لكن من خلاله تنهض ملكة الخيال . 

الجزء الثالث سنخصصه لدراسة ( درجة الانزياح والعمق نحو الخيال والرمز ) بشكل مفصل إن شاء الله .

_____________________          خاتمة       ___________________________________


النصوص الشعرية التي تضمنتها التجربة في في ديوان ( على صهوة الجموح ) ، يمكن حصرها  في سياقين  تواصين ، أولها  : موقف ثقافي ، وآخر شعري ، عبر قناة اتصال تتمثل في الشاعرة . الموقف الأول ( الثقافي ) وهو فاعل حقيقي ، والموقف الثاني ( الشعري / الأدبي ) فاعل على وجه الاستقبال ، وفاعلية الشاعرة تتمثل في التواطؤ مع الموقفين لانجاز التحقق الفعلي لحياة النصوص ، ومن خلالها تحاول الشاعرة اكتشاف نفسها ، ليس بوصفها نسخة لمن سبقوها أو عاصروها من الشاعرات والشعراء ، أو صدى للثقافة ، بل إنها مركز كل عملية إبداعية . مما جعل النصوص تتميز بديناميكية الحركة الصانعة لتعدد المنعاني والدلالات . والسياق الثقافي ليس مجرد ألفاظ ساكنة واستاتيكية بل متحركة نحو لا نهائية المعاني ، لأنها تتصل بثقافات أخرى .

مما لا شك في أن الشاعرة اتبعت في تجربتنا الشعرية بنية القصيدة المعاصرة التي توجب الحداثة ، متوخية تعزيز تأسيس وعي تجربتها من خلال نصوص يبرز فيها الإنسان داخل كيان الشاعرة . نصوص شعرية تحوي حالتن ، واحدة ظاهرة للقارئ والمتلقي وأخرى باطنية غير واضحة ، لما تحمله من دلالات مضمرة ، وهي التي تتوخاها الشاعرة دون أن تصرح بها ، والوصول إلى ذلك في التجربة الشعرية عند الشاعرة  كان هو الأهم في صاحبنا في دراستنا النقدية الذرائعية المستقطعة .

    ملاحظة : الجزء الثالت من قراءتنا النقدية لتجربة مليكة الجباري الشعرية ، سيكون موضوعها ديوان ( رؤى آجلة ) بالمداخل التالية :

_ درجة الانزياح والعمق نحو الغيال والرمز .
_ المدخل اللساني 
_ التكوين الجمالي والبلاغي 
_ المدخل الاستنباطي 




================== الهوامش ===========================


1 _ الرؤية الجمالية لدى جورج لوكاتش  / الباحث رمضان بسطاوسي محمد / قسم الفلسفة بكلية الآداب ( جامعة القاهرة ) 

2 _ كتاب ( النظرية اللممدرية في الفكر والأدب والفلسفة ) المؤلف ( محمد محمد القاش ) 
3 _ كتاب ( مليكة الجباري : عنقاء اللوكوس ( الكتابة ، الوجود ، التمرد ) 
4 _ الذرائعية في التطبيق ( في تحليل النص العربي ) / تأليف ( عبدالرزاق عودة الغالي ) 
5 _ ديوان ( مليكة الجباري ) ( على صهوة الجموح ) 
6 _ معجم المعاني الجامع 
7 _ معجم الرائد 
8 _ في بنية الشعر العربي المعاصر ، محمد لطفي يونس 

10 _ آفاق أدبية العدد 10

11 _ أحمد مطلوب : معجم النقد العربي القديم 
12 _ ابن قتيبة / الشعر والشعراء 
13 _ ابن رشيق / العمدة 
14 _ محمد فكري الخرار ( سيميوطيقا الاتصال الأدبي ) 
15 _ مجد الربيعي / كتابات مسمارية على حذران مغربية 
16 _ نقد الشعر / أبو الفرج قدامة بن جعفر 
_ 17 : ياونس ، هانس روبيرت : جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي ، ترجمة رشيد بنحدو 
18 _ يوسف أحمد / بين الخطاب والنص ، مجلة تجليات الحداثة ، جامعة وهران ، عدد 1 ، 1992
19_ المرعي فؤاد : النقد الأدبي الحديث 
20  _ كليطو عبدالفتاح / الأدب والغرابة ( دراسات بنيوية في الأدب العربي )

________________   عبدالرحمان الصوفي / المغرب _______________________________________

بقلم الناقد الصوفي الصافي

دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة لتجربة الشاعرة ( مليكة الجباري ) من خلال ديوانها ( في قلب العاصفة )  
عنوان الدراسة الذرائعية المستقطعة ( سلطة فعل الكتابة في التجربة الشعرية للشاعرة ( مليكة الجباري )/ الجزء الأول .
ملاحظة : قراءة التجربة الشعرية للشاعرة ( مليكة الجباري ) ستتواصل من خلال دراسة كل دواوينها . ستجمع كل الدراسات وستنشر في كتاب ورقي إن شاء الله .


     =====================  تقديم ========================

بسم الله الرحمن الرحيم 

يجب أن تتوفر العديد من الشروط في الناقد الأدبي ، وهي سلامة الذوق . الذكاء والخبرة ، المتمثلة في معرفة الناقد بالأدب بشكل كامل . دقة الإحساس ، أي انفعالات الأدب في الناقد وأثرها ، التعاطف ، أي بمعنى المشاركة الوجدانية . الثقافة الخاصة والعامة والفردية أي الذاتية ، والصدق والجدية والإخلاص والصبر بالمواصلة وحب صيد الأفكار المخبوءة بأي شكل من الأشكال .
الناقد الذرائعي ( النظرية الذرائعة لمنظرها عبدالرزاق عودة الغالبي ) ، تقف موقفا خاصا أمام كل عمل فني أدبي ، موقف يؤكد على مسؤولية الناقد الجسيمة ، على أعتبار أن القصيدة أو التجربة المراد دراستها على حد كبير من الصعوبة والخطورة ، لأنه ليس ثمة من من يساعد الناقد على أن يخطو هذه الخطوة الأولى والضرورية ، والمطلوب قراءته لما بين يديه ، أي القصيدة أو التجربة الشعرية ، كما لو كانت هي قراءته الأولى على الإطلاق ، لأنه سيكون المسؤول الوحيد عن قراءته . من حيث أن كل ناقد بل كل قارئ من حواليه ستكون له قراءته المستقلة ، ونشير أنه من الأفضل للناقد الذرائعي أن يقرأ ما بين يديه مرات كثيرة معمقا معرفة صاحبا وقشرتها النصية أو مدها البصري ( المدخل البصري ) ، بل مطلوب من الناقد الذرائعي معرفة جملة الظروف التي تحيط بالنص أو التجربة عموما حتى يسهل عليه التقمص ( المدخل التقمصي ) ، وعلى الناقد الذرائعي أن لا يتناسى أن كل تجربة شعرية هي أعمق وأخصب . وعلى الناقد أن يسأل نفسه ، ما الذي دفعه إلى اختياره ؟ ما الحجة ؟ وما وسائل غوصه في أعماق النصوص ؟ ...النظرية الذرائعية لم تترك الباب مفتوحا أمام هواجس الناقدوأهواءه وتساؤلاته  ، بل زودته ب ( المدخل الرقمي الساند ) الحكم الوسيط والمقنع للناقد والشاعر والمتلقي . يقول عبدالرزاق عودة الغالبي : " ليتسنى للناقد إسناد تحليله على جدار نقدي علمي قوي ، عليه أن يختبر تحليله بجمع مجموع الدلالات الحسية ، والأعمدة الرمزية وتحليلها ، ثم حسابها رقميا ، ليثبت رجاحة الدلالات وموازنتها ، مع بعضها البعض وتحديد درجة الميل لكل واحدة منها ، بذلك يكون قد أسند آراءه النقدية رقميا وحسابيا بأحكام رقمية بحثة لا تقبل الشك ، وتزرع اليقين لدى كل متلق أو ناقد ..."

======== المدخل البصري لديوان الشاعرة " مليكة الجباري " " في قلب العاصفة " ===============

ديوان الشاعرة " في قلب العاصفة " يقع في مائة صفة ، تضم دفته الأولى لوحة تشكيلية رباعية الأبعاد ، أما دفته الثانية صورة الشاعرة وسيرتها الذاتية . لقد قدم للديوان الناقد الأدبي " محمد يوب ، ومما جاء في تقديمه : " إذا كان الشعر يتتبع تفاصيل الواقع وفسيفسائه ، فإن الناقد الأدبي يتتبع واقع القصيدة ، وتفاصيل الجمل الشعرية وهي تتواشج فيما بينها ، من أجل خلق متعة فنية ترقى إلى أفق انتظار المتلقي ودائقته ، وبما أن القصيدة في عمومها عبارة عن جسد يشعر بما يشعر به الإنسان ، لها أحاسيس ومشاعر ، فإنها تزداد حساسية عندما تتشاكل وتتمازج مع ذات الشاعر ، محدثة روحا واحدة ، وهذا ما نراه في ديوان " في قلب العاصفة " حيث أن الشاعرة والجمل الشعرية روحان حلا في جسد القصيدة ..." 

يضم الديون ثمان وثلاثين قصيدة تختلف من حيث الطول والقصر ، تحمل اسطر النصوص مختلف وجل علامات الترقيم ، كما أن بعض القصائد ذكرت الشاعرة تاريخها  ، منها قصيدة " قيودي 1984"  و قصيدة " صرخة حروف 1985 " و قصيدة " إنسانيتي تئن 1986 " و قصيدة " الفكر الأرجواني 1988 " وقصيدة " أمل 1991 " وقصيدة " يا امرأة 1992 " وقصائد أخرى لم تذكر الشاعرة تاريخها ، منها قصيدة " في قلب العاصفة " و قصيدة " ثورة امرأة " وقصيدة " أيها الظلم " وقصائد أخرى طبعا . وكل القصائد من صنف الشعر النثري .
تقول الشاعرة في إهداء الديوان : " ذاك القابض على الحروف ، أخبرك ...على شفاه السطور في قلب العاصفة تعلمت كيف أسرد الفرح كيف أرسم الحزن ...كيف ألبس القصيدة لأربك جفون الحلم الغامض وأنا على مشارف الطريق إلى الحياة  نكاية بالحزن ليتعرى أرذال من يقتل الحب فينا .
لن ألزم بحر العشق بإغراقي ، سأسبح إليه لإشعال فتيل الضوء أثناء ولادة كل قصيدة ... في قلب العاصفة جهزت قوافل دفئ الكلمات ، وعقدت هدنة لتكبيل ضجيج شتلات الأنثى ، فأصبح ثغر الصوت يضيق الخناق على كل لحن نشاز يسكن الحلم عندما تنطق أرواحنا هكذا نقوض البناء المشروخ في عقولنا ... فما أحوجنا لهدم خلاق يعيد ترتيبنا . ( قصائد تمتد أنفاسها من ( 1982 ) .

============= السيرة الذاتية للشاعرة " مليكة الجباري " ============================

جاء في الكتاب النقدي المعنون ب ( مليكة الجباري : عنقاء اللوكوس " الكتابة ، الوجود ، التمرد ) للكاتب الإعلامي والناقد والأديب "  مجدالدين سعودي " ما يلي : 

" مليكة الجباري حاصلة على الإجازة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة محمدبن عبدالله بفاس ...أستاذة وجمعوية ، رئيسة جمعية السلم للتنمية والثقافة بمدينة العرائش ..حقوقية كتبت منذ الثمانينات في عدة ملحقات ثقافية ( المثاق الوطني ، العلم ...) اهتمت بمسرح الطفل وشاركت في لجنة التحكيم المسرحية في عدة ملتقيات ثقافية عديدة خارج الوطن وداخله وحازت على جوائز تقديرية ...
تقول مليكة الجباري عن نفسها : ( ولدت بالمشرق ، من أم شرقية وأب شمالي من أصول مولاي عبدالسلام بن مشيش ، درست في وجدة وبوعرفة ، أحببت الجبال والصحراء وعشت طفولتي متنقلة بين مدرسة ومدرسة بسبب عمل الأب كضابط في الجيش بكل من تازة ووجدة وبوعرفة ... درست الثانوي بالقصر الكبير والجامعة بفاس ، مارست المسرح والعمل الجمعوي والحقوقي والرياضي ...) 

_ اصداراتها الشعرية : 
( في قلب العاصفة   _  على صهوة الجموح   _  شذرات مجنحة _ رؤى آجلة  _ العشق والهجران " ديوان مشترك بالعربية " ) 

====== البؤرة التابثة في نصوص ديوان في " في قلب العاصفة " ( سلطة فعل الكتابة ) ==============

من صفات النصوص الرصينة المتكاملة الشروط النصية البنائية الجمالية ، أحتوائه على إستاتيكية وديناميكية التنصيص في الأفكار والأيديلوجيات الإنسانية وحتى في الشكل البصري ، فتلمس ذلك ، وهي محطة البؤرة التابثة في النصوص ، أيديلوجية الشاعر أو الكاتب الأديب واستراتجيته الفكرية ونظرته نحو مجتمعه ، وتلك رسالة إنسانية يتميز بها كل الأدباء والشعراء ، فتشكل تلك النقطة مرتكزا تابثا ، وبؤرة لا يمكن تغييرها أو التلاعب فيها نقديا  . على  الناقد المتمكن أن يثبت تلك اللحظة ومحطتها ويقف عندها في كل تجربة أدبية ، وعليه كذلك محاكاتها وإبرازها بشكل يستحق ذلك ، ومنها سينطلق نحو التنوع في مخبوءات النصوص لكل تجربة شعرية أو أدبية ، مبرزا دلالاتها السيميائية والرمزية ...

سنركز على " سلطة فعل الكتابة " كبؤرة تابثة في نصوص التجربة الشعرية للشاعرة " مليكة الجباري " من خلال دراستنا الذرائعية المستقطة لديوان " في قلب العاصفة " ، مركزين على دراسة التجربة الشعرية للشاعرة في ديوانها الأول ( في قلب العاصفة )  ، وسنواصل دراسة تجربتها الشعرية في كل دواوينها إن شاء الله ، مركزين  استقطاع لمداخل النظرية العديدة والمتعددة . دراستنا هذه هي الجزء الأول ، والجزء الثاني . وكإشارة مهمة قرأنا كل دواوينها مرات كثيرة ، وسجلنا ملاحظاتنا التي تخص كل ديوان ، وكذلك المفاتيح النقدية ، كما أننا لم نغفل عودتنا للشعر المغربي خلال أربعين سنة ، رغبة منا في تمييز تجربة الشاعرة ( مليكة الجباري ) عن كل التجارب الشعرية الأخرى .

             
================= ======   لحظة " سلطة  فعل الكتابة " ===========================

تعبر الكتابة عن كل تسجيل مرئي لكافة لغات الكون المختلفة ، حيث تمكن من حفظ وإرسال الأفكار عبر المسافات الشاسعة جدا . ونشير إلى أن الكتابة تختلف عن اللغة ، حيث أن هذه الأخيرة نظام  معقد في الدماغ يسمح بإنتاج وتفسير الألفاظ ، أما الكتابة فهي طريقة تنطوي على جعل الكلام ظاهرا ، ورغم ذلك يصعب التمييز بينهما ، لكن مع  وظائف الكتابة يتوضح الأمر وينجلي  ، فوظائف الكتابة كثيرة جدا ، منها الانتشار الواسع للأخبار المختلفة والفنون والإبدعات ...في جميع أنحاء بقاع الأرض ، كما أن الكتابة وظيفتها الحفاظ على اللغة في كل زمان ومكان . ولحظات فعل الكتابة هما : لحظة ما قبل فعل  الكتابة ولحظة فعل الكتابة .

تتكون  كل تجربة شعرية من خلال  النص الحي الذي ينمو شفهيا ، متحركا زمانيا ومكانيا ليتمكن من تأليف صوت جماعي ، إن التجربة الشعرية بدايتها هي بداية النص عند ولادته والذي لا يبدأ مكتوبا ، بل ينتهي عند الكتابة . والكتابة بهذا المعنى المحدد لحظة اكتمال النص الحي ، سواء دون على ورق أو لم يدون . الكتابة هي اكتمال الشكل وانفصاله عن قائله . مع قابيلته للانتقال بتمامه على ألسنة المتلقين أو ألسنة الرواة . فسلطة فعل الكتابة قد يبدو " بسيطا" لكن كل لفظ له أعماق وأبعاد تناقض أي حكم بالبساطة ، وهكذا يقف مفهوم البساطة إزاء مفهوم التعقيد أو الغموض وهي من سمات الشعر الحديث . فالغموض راجع إلى المدلول لا إلى الدال في حد ذاته ، ونؤكد على الغموض يتبدد بمفعول القراءة ، ولا سيما بتعدد القراءات ، فيترك محله لمعان سامية ليست في معاني الكلام في مستواه الإخباري المباشر . والغموض في تجربة الشاعرة لا يحطم المنطق في مقولاته ، ولا اللغة في قواعدها ، ولا تقاليد النظم فيما عرف منها . غموض لا يعطل كل السنن المتعارف عليها بين الشاعرة والمتلقي .

لنتأمل قصيدة من ديوان " في قلب العاصفة للشاعرة " مليكة الجباري " ، القصيدة معنونة ب " امرأة " ، تقول : 

لا تسألني من أنا ؟؟
كنت وما أصبحت أنا ، 
أكتب حرفي على الوسادة ، 
أغرس الرياحين وشما ، 
باسمك عادة ، 
وتسألني من أنا ؟؟
أنا على الشرفة ستار ، 
على قلاعك أزهار ، 
على ورقك مداد ، 
على شاطئك رمال ، 
وتسألني من أنا ؟؟.
قلبي لك نبض 
يهوى السيادة ، 
يرحل البعد عمقا في ضفافك 
فأنتمي لترتيلاتك ، وكأنها عبادة ، 
وتسألني من أنا ؟؟.
يصرخ البوح جنونا ، 
فذاك قوس بنبال ، 
وعويل الحرف لا يتقن الرماية  ،
فمن يرسم الهمس لوحة ، 
لعلمه : الشوق لا يحتاج كتابة ، 
فصبرا على التائه بين النبال ، 
القوس بين كفيه لا يحتاج وصاية .

سلطة فعل الكتابة الكتابة هي اكتمال للمعنى والشكل   ( أكتب حرفي على وسادة )  . هذا لا ينفي عن النص المكتمل الانفتاح ، وقابليته لقراءات متنوعة ، ولتأويلات ، ولا اختلاف فيتحقق حياته النصية . لكن النص المفتوح غير النص الحي ، بالمعنى الذي حددناه . النصوص المفتوحة يصطلح بديلا لاصطلاح النص المفتوح الذي هو نص مكتمل ، لكنه يحتمل قراءات متعددة ، أو يسمح للقارئ أن يختار فيه موقع محاور ، وأن يبصر سياق العمل استنادا إليها ، فيسهم القارئ بشكل شخصي ذهني أي لا يتدخل في مادة النص ، وتدخله في بنائه محدود جدا ، وأيا كان التنوع في القراءة والتأويل فإنه لا يلزم أي قارئ آخر ، قد يشكل طورا جديدا من أطوار النص ، لكن النص الأصلي يبقى المرجع ، فحتى لو اعتبرنا النص المفتوح المكتمل مجموعة قراءاته ، فإن هذه القراءات تتدخل في الدلالة والا تتدخل في الدال ، النصوص الحية هي دوما متطورة ومتنامية ( لا تسألني من أنا ؟؟ )  على صعيدي الدال والدلالة معا ، واكتمال النص هو اكتمال الدال ، ومن ثم قابليته للاستمرار والانتقال بتمامه ، واكتمال النص الحي هنا يوصل النص الجمعي إلى سلطة فعل الكتابة . ( ويصرخ البوح جنونا / وعويل الحرف لا يتقن الرماية / فمن يرسم الهمس لوحة / القوس بين كفيه لا يحتاج وصاية ) . يقول الناقد المغربي ( سعيد فرحاوي ) : " ...لا تكتب إلا ليكون النص صادقا يعبرها وهي تتنفسه ، تستعير حروف كتاباتها من جوفها ( الشاعرة مليكة الجباري ) الذي يعشق الشمس وهي تخيط الطريق ..." .

تقول الشاعرة في قصيدة أخرى عنوانها " أنين الصمت " 

ما أصعب أن تتكلم 
     وتنسى 
أن الذي أمامك نسي الكلام 
وأتلف الأحلام 
وكسر الأقلام 
وأهداني صمتا 
بدون عنوان 
فهل أجعل كل صمت 
     كلاما ...

الكتابة لها قوة السلطة ( ما أصعب أن تتكلم )  بمختلف معانيها ، ففعل الكتابة " مكتوب " مرادف " للمقدر " ، " والمكتوب ما منه هروب " ، الكتابة بدأت في الحجر ليبقى المكتوب . فالتجربة الشعرية الحديثة عند الشاعرة " مليكة الجباري " تعود بالشعر العربي إلى سالف عهده التليد من حيث تحرير القصيدة من النمطية العروضية التابثة ، إلى إيقاع اللغة وما تحمله من تشكيل مرتبط بالأفكار وإيقاعها ، إضافة إلى إيقاع الصور وانسيابها داخل القصيدة في نمو متنوع . ولكن مرتبطة دوما ب " بسلطة فعل الكتابة " ( فهل أجعل كل صمت ... كلاما ) . قال أحدهم لمن تكتبين ؟ وتجيب الشاعرة ( مليكة الجباري ) : " أكتب لجيل قادم من ثورة التكنولوجيا ...جيل قد لا يرحم أفكاري وقد لا يقبل .. أو يقبل خطابي ... أكتب له ولا أنسى أنه عقل وفكر ونبض له مقومات أخرى يدفعني هذا لتغيير نمطية الصورة الواحدة في كل كتابة ، فأختال بين الأزمنة أستحضر التاريخ أوظف مقاربات أرهق الخطوط العريضة التي شكلتها بين المسافات ...أتملص ما أمكن عن عبادة منهج آخر رغم الإعجاب به .. أتفق ومقولة أدونيس في إشارته للحداثة أنها منظور كوني والقصيدة جزء من هذا المنظور .. نجتهد قد نصيب وقد نخطئ لكن نصيبنا من الاجتهاد نستمد شرعيته من رؤيتنا للقضايا والأمور العالقة بيننا كإنسانة متفاعلة ، فاعلة جمعوية وحقوقية كممارسة للعملية التربوية ولا أنسى أني أنثى قابضة على جمرة النبض تعشق جمال كل شيء في الكون ) .

نتابع  ( سلطة فعل الكتابة ) عند  الشاعرة في قصيدتها المعنونة ب " قيودي " 1984

     زمن القيود قلت رحل ،
   فوجدت زماني أقسى القيود .
   كبلتني نشوة التغريد ،
   ونسيت أن للتغريد صيادا،
   فاحملني ياصاحب القيود ، 
   لأكون التلاشي فيك .
  احملني لأتهادى فيك دون تقسيم ، 
  كوريقات استعارت عيون الندى ...
   أنا سأمكث في حقول الفراشات ،
  دون انشطار في زمن الغياب .
  أتحصن في نجوم ضريرة ...
عمرك يقترب من تضاريس عمري .
 هذا الحلم أينع في مملكة ، 
منحوتة بين كفيك ...
زمن القيود قلت رحل ، 
لكن الزمن فيك أجمل القيود 
بسطت لي شوارع بكروم ،
 كومة الحب في عنبها سلمتني لك ، 
  لا انفلات من الغرق فيك .
من كوة الضوء في عينيك ؛
أتابع روايتي ..
  أتابع الدهشة فيك .
  سأكسرها على المداد 
  سأكتب بها أشعاري 
  ونصائح لصغاري ...

التجربة الشعرية المجيدة هي التي تنجح في إنتاج وإبداع علاقات متجاوبة تتبين كل عناصرها ، فترقى القصيدة حينها إلى مستوى الإبداع ، في حين يسقط كثير من الشعراء المحدثين ، لأنهم لم يفهموا من العملية الشعرية غير ظاهرها وشكلياتها ، فيجيئ شعرهم رصا لأفكار ذهنية في جمل متعاقبة لا يربط بينها رابط ، ولو لعبنا بتغيرها وترتيبها لما تغيرت حالتها ، والقضية ترجع إلى الشاعر نفسه ، فهناك الشاعر المجيد الذي سبر الشعر وعرفه حق المعرفة ، والمدعي الذي دخل إلى  مملكة الشعر  متطفلا عليها ، والأمر كما قال ابن رشيق في العمدة :" إن عمل الشعر في الحادق به أشد من نقل الصخر ، وإن الشعر كالبحر ؛ أهون ما يكون عن العالم . وإن أتعب أصحابه قلبا من عرفه من حق معرفته " . تجربة شعرية متصاعدة دوما من ترسيخ سلطة فعل الكتابة للتميز بتجربتها الشعرية ، ( سأكسرها على المداد / سأكتب بها أشعاري / ونصائح لصغاري ) .

ولنتأمل معا قصيدة أخرى من نفس التجربة الشعرية " معنونة ب " صرخة حروف " 1985

احترق القلب ، طال الانتظار ، 
تململ الجفن وقدم الاعتذار ،
        لألف تهاوت ،
       للام تساوت ،
      بحاء تنادت ،
لتعجب برسم الباء .
لاستفهام لون الضاد ، 
لكلمات صرخت بعدها : 
      لا للسان الأحمر ،
     لا للون الأسمر ، 
ولا لسائح في مواطن الكلمات ...
             إدانتك 
        لسانك أرضنا 
        لقاتل طفلنا 
لا تساوم اللون الأسمر ، 
لا تظلم الكتاب الأكبر ، 
ولا ترسم الشوارع باللون الأحمر .
بالكلمة بالقلم فجر الشمس والقمر .
وارسم لوحة الحب والأمل ، 
وارسم  لوحة الحب والأمل ، 
واهد شمعة لمن عشق 
حب الأرض والسماء .

تجربة شعرية( سلطة فعل الكتابة ) ( للألف تهاوت / للام تساوت / بحاء تنادت / لتحجب برسم الباء / لاستفهام لون الضاد / لكلمات صرخت بعدها ) ، عمل إبداعي معقد وهو من سمات الشعر الحديث ، يحتاج إنتاجه إلى وقت للمراجعة والقراءة . وجهد التأمل والفهم يتطلبان القراءة الصامتة والفردية ، على اعتبار أن القصيدة عملية فنية معقدة تتخذ مسارا متناقضا لحركية العصر وسرعته ، وكأنها محاولة انقاد الإنسان المعاصر وانتشاله من دوامة المتاهات النفسية المرهقة . والتجربة الشعرية عند الشاعرة " مليكة جباري " تساير الإنسان العربي وما يمر به من نقلات حضارية جريئة ، ويتمثل أحد مظاهرها في انتقال طريقه في التفكير من التجزيئ إلى الكلية . تجربة شعرية تنقلنا شعر الحالة المتكاملة تتطلب فهم القارئ والمتلقي العريض لها . كما أن التجربة الشعرية عند شاعرتنا أدركت أن الإيقاع شرط أساسي في الشعر العربي خاصة . فلجأت إلى الإيقاع اللغوي إضافة إلى صور إيقاع أخرى التي تحدثها الأفكار والصور والنغمات وهي قيمة أساسية . وإيقاع اللغة عندها مرتبط باللغة العربية ذات الإيقاع الموسيقي الرفيع والشامل ، لأن الإعراب أحد سمات اللغة العربية الأساسية ، وله فيها أهمية عضوية ، إذ بدونه تتعطل اللغة . ووظيفة الإعراب على أواخر الكلمات ، تتحدد فيه المعاني ، فالإعراب مرتبط ارتباطا كاملا بالمعنى ، وداخله يثم ربط الفكر بالإيقاع الفني للكلمات ، فيحصل عندئذ ضربان من الإيقاع في كل كلمة ، أحدهما ذهني والآخر فني ، وهذا يزيد من وقع الكلمات على نفسية المتلقي ويسكن في ذهنه ووجدانه . ( بالكلمة بالقلم فجر الشمس والقمر / وارسم لوحة الحب والأمل ) .

وننتقل معا لنتأمل قصيدة أخرى من داخل التجربةالشعرية  ل " مليكة الجباري " القصيدة معنونة ب " إنسانيتي تئن " 1986

دعيني أكبر مع أحلامي 
اجعليني أكتب مع أحلامي ؛ 
         فأنا الغضب .
أنا الورقة التي احترقت بمدادك ، 
أنا السنبلة تنتظر حبات مطر .
            لا تعاتبوني :
فالامتهان أسقطني 
من زمن الحقيقة ، 
وأسكنني أكذوبة 
بين المطرقة والسندان .
     اجعليني أصرخ 
من خيبة تلد كل يوم سوادا ،
بالجفاء لوجودي 
تصنع الأحداث 
        والمقابر .
الأوتاد : 
اكسروها بالغناء .
أطرقوا أبواب الأصفياء ...
تمهلوا ...
لا تسكنوني قصرا في الفضاء .
إنسانيتي تئن من الاستعلاء 
قد أصبحت عملة لا تليق إلا بالأقوياء ...

سلطة فعل الكتابة في التجربة الشعرية للشاعرة " مليكة الجباري " ، لا تخرج عن الأدب عموما والذي هو عملية إبداع جمالي ، وهو كذلك تذوق جمالي للمتلقي ، وهدفه طبعا ليس نفعيا بل جماليا ، إذ تسعى التجربة إلى إحداث انفعال في النفس ، ولتحقيق هذا الهدف أحكمت بناء اللغة والصورة الشعرية والإيقاع ، من داخل سلطة فعل الكتابة . للغة في التجربة الشعرية وسلطة فعل الكتابة رموز تثير في الصورة في الذهن . والصورة يتلقاها الإنسان من الخارج ، أو يكونها من الجمع بين أشتات من عناصر خارجية ، تتألف من خلالها الكلمات في تركيبة جمالية ذات طاقة انفعالية .( اجعليني أكتب مع أحلامي ) وبذلك تكون اللغة في قصائد الديوان وسيلة للإيحاء وليست أداة لنقل معان محددة . ونشير إلى أن هنا يكمن الفرق بين المعنى العقلي للكلمات والمعنى التخيلي لها . اللغة الشعرية إدن رمز للعالم كما يتصوره الشاعر ، وكذلك رمز لعالم الشاعرة النفسي ( إنسانيتي تئن من الاستعلاء ) . ونؤكد على أنه على هذا الأساس يفهم الشعر ، وإلا أخلطنا بين الشعر وما ليس بشعر . لغة الشعر في تجربة الشاعرة  " مليكة الجباري " لغة مجازية انفعالية ، وقد قال "  ابن سينا " : " كانت العرب تقول الشعر لوجهين : إحداهما ليؤثر في النفس أمرا من الأمور تعد به ، نحو فعل الانفعال ، والثاني للتعجب فقط ، فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه " . فأخذت الصورة في التجربة الشعرية دورا رئيسيا ، فصارت توضح المعنى وتؤكده في الذهن . حالة شعرية تنبع من أعماقها كل المعاني الموحاة من الشاعرة والمتخيلة من القارئ ، لما في الصور داخل التجربة من دفق شعوري فياض .

ولنستعد معا للغوص في تجربة "  مليكة الجباري " /   من خلال قصيدة أخرى من قصائد الشاعرة  تحمل عنوان " في قلب العاصفة " 

لماذا تربني على الصمت ؟ 
اللغة المراوغة ملتبسة بالحب ، 
كانت الولادة قصيدة ...
هذه الشهقة على أطرافها ...
لا تعلم البكاء ...
لا تعلم البصراخ  ،
هي فقط تعلمني رسم الحلم .
حلمي على أبراج عشتار وفينوس ، 
على قلعة من قلاع أفروديت ؛ 
لألتهم الض ء ...
وألهتم أحجية العشق ...
سأتخلص من فخاخ الحزن ، 
لأني أنا ورائحة عطري 
نعزف لذاكرة الحب وحدنا ، 
ليستفيق مفتونا بي وبالفراشات ، 
يدور ويدور ...في جوف لحظاته ، 
                هي لي ...
لعلي أمنح قلبي جنونا 
وجنون قلب العاصفة 
عشرون سنة مضت وأنا أكتب ...
وأمزق شراشيف المعاني .
أكتب وأرسل للرياح شهقاتي ...
عشرون سنة لا يهجرني هذا الدفء .
        شقي هذا الحب ...
سأهز صبابة نخلة ، 
سأنتظر رطبا تحت ظلاله .
إني أنا التي تحمل سخرية للحياة .
الولادة قصيدة في قلب العاصفة .

سلطة فعل الكتابة في التجربة الشعرية عند " مليكة الجباري " مرتبط الصلة بالشعر الحديث ، ومواقفه الحياتية التي هي كثيرة ومختلفة (لماذا تربني على الصمت / اللغة المراوغة ملتبسة بالحب / كانت الولادة قصيدة ) ، فإذا كانت الشاعرة مسؤولة عن قصيدتها ، فلابد لسلطة فعل الكتابة أن ينحو منحى مزدوجا ، للقصيدة أولا ولأنفسنا في آن واحد ، فيتكون خلال وعينا حضور سلطة فعل الكتابة المعرفي ، وهو حضور تجريبي ، نعرفه من خلاله أنفسنا بقدر معرفتنا للقصيدة ، ونبين المعرفة التجريبية في التجربة الشعرية الذي يمكن أن يتواجد لحظة القراءة  . الشاعرة كونت  لنفسها اتساع نطاق لا يناسب زمن الشاعر الحياتي فقط ، بقدر ما يناسب قوة الشاعرة التي لها مقاييسها الخاصة في سلطة  فعل الكتابة وداخل تجربتها الشعرية غير محدودة الزمان  وتنفتح انفتاحا عميقا نحو المستقبل . تطابق يكون ويجمع  العناصر الشعرية المكونة للقصيدة دورها العضوي ، لا يمكن  الاستغناء  عنه ، منها الشكل والوضوع والمضمون والإيقاع والنبرة ، وكذلك ما نسميه بالأسلوب ، والمتمثل في ظلاله وأضوائه وأعماقه ومساحاته . تجربة شعرية تحوي كل هذه العناصر ، بوصفها تركيبة عضوية متماسكة ، يعايشها القارئ من خلال تجربة القصيدة . ( عشرون سنة وأنا أكتب .../ وأمزق شراشيف المعاني / أكتب وأرسل للرياح شهقاتي ) 

اعتمدت الشاعرة ذكر الأسطورة، لتقوي سلطة فعل الكتابة ، كما اعتمدها الشاعر الحديث لتصوير حالاته الشعرية ، والهدف من استخدام الأسطورة هو استثارة المخزون العاطفي والنفسي ، وللأسطورة وقع خاص في وجدان القارئ ، ليدفع به إلى الانفعال بعالم القصيدة ، ونجحت الشاعرة في أداء وظيفة الأسطورة حين جعلتها مفهومة لدى المتلقي ، ومتجاوب مدلولها مع حقيقة مشاعره . يقول حازم القرطاجني في منهاجه : ( أحسن الأشياء التي تعرف ويتأثر لها ...هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها ، أو التألم منها ، أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم ، كالذكريات للهعود الحميدة المنصرفة التي توجد النفوس تلتذ بتخيلها وذكرها ، وتتألم من تقضيها وانصرامها ) ، ويدخل في قوله هذا استخدام  الأسطورة ، فكلما كانت وثيقة في نفوس المتلقين صارت أقرب إلى استثارة مكنون نفسية المتلقي . أما إذا كانت الأسطورة غريبة عليهم أو مناقضة لمعتقدهم فهذا من دواعي النفور منها ومن القصيدة ككل . تمسكت الشاعرة في تجربتها على إبداع شعر أصيل يعتمد على الموروث الأصيل محاولة تفجيره في ضمير القارئ . ( إني أنا التي تحمل سخرية الحياة / الولادة قصيدة في قلب العاصفة ) .

تقول الشاعرة في قصيدة أخرى عنوانها ( أتنفس فوق الأوراق ) من نفس الديوان ( في قلب العاصفة )

أتنفس فوق الأوراق ، 
على أسوارك تعلو 
كل أشكال الأولوية ؛ 
حمراء خضراء رمادية .
يلهمني الدخول .
أسقط الزمن عبر الثقوب .
للرسائل تغريداتها ...
يحتضنني هذا البعد ، 
يلهب حمرة مغيب الشمس ، 
يلملم بقايا النفس 
التواقة للفجر الجديد ، 
أدرك الأولوية لون واحد .
باب الدخول موصد .
أسوارك تعلو ... تبعثر أوراقي .
يصعد التنفس ليحكي قصته ، 
كانت قصيرة بحلم كبير ، 
نثرت زهرة بنفسج على الطاولة .
فنجان قهوة .. وعلى وجهي سؤال : 
              أكتب حقا ... ؟؟

سلطة فعل الكتابة حاضر دوما في التجربة الشعرية عند الشاعرة ( مليكة الجباري ) ( أتنفس فوق الأوراق / أكتب حقا ...؟؟ ) . تستمد سلطة فعل الكتابة قوتها في التجربة الشعرية عند الشاعرة بكونها من فاعليتها الواعية الصانعة لتفريغ الانفعالات الوجدانية ، الملتزمة بالوضوح المنطقي الذي تشكله اللغة وتتشكل به ، فتنتج اللغة مستويات دلالية مركبة تنم وتتجاوب مع المستوات المعرفية التي ينطوي عليها الوعي الصانع ، فتميل بذلك سلطة فعل الكتابة إلى الوضوح المنطقي أو واحدية المستوى الدلالي ، وكما يقال : ( القصيدة المحدثة ليست زجاجا ناصع الشفافية لا نراه بقدر ما نرى ما يقع وراءه ) .
سلطة فعل الكتابة في تجربة الشاعرة تصبح اللغة فيه  وسيلة يتموقع داخلها الخطاب الشعري ، نظام لغوي يتميز عن بقية الأنظمة اللغوية في تجارب أخرى ، خطاب يتسم بجوانب فنية شعرية مبطنة بنظام دلالي خاص مرتبط بتجربة الشاعرة الشعرية ، ذات النصوص المفتوحة على التعددية  الاحتمالات التي تملؤهم على مستوى دلالي . تجربة شعرية  تسعى من خلالها الشاعرة لتطوير التعامل مع اللفظة المفردة  ، أو العبارة المفردة ، وذلك بنقل آلية تعبيرها من مستوى المعنى إلى مستوى معنى المعنى كما يعبر عن ذلك عبدالقاهر الجرجاني .

=====================  خاتمة ==================================

ونختم دراستنا الذرائعية المستقطعة لتجربة الشاعرة ( مليكة الجباري ) بشهادة من كتاب مجدالدين سعودي (  مقارباب نقدية في دواوينها الأربع / مليكة الجباري : عنقاء اللوكوس ) والشهادة ل ( الشاعر محسن العافي ) : 
( للوهلة الأولى وأنت تقرأ لها ( الشاعرة مليكة الجباري )  تأتيك رسائل قوية غريبة ، تدعوك لمتابعة القراءة ، ذلك ما فسرته حسب قراءتي ، بأنه مساحات ثكلى بالتجاوب العديدة المتنوعة  المتعددة على بعد نظر لم يات عبثا ، لنجد نفسك أمام حالة إبداعية مختلفة ، تعنون تيمتها  ، بما لها من دعائم ، تقوي حضورها ضمن كثير من الأعمال ، التي يصعب التموقع بينها بأعمال لا ترقى إلى التميز والتفرد ، أو بالأحرى بأعمال لا تخاطب اللاشعور الجمعي في زمن كل له فيه غايات وامتدادات . ربما إن حصرنا تجربة الأستاذة : الشاعرة مليكة الجباري بين معقوفتين ، سنكون قد قتطعنا أجزاء مهمة من رسائل قوية ، ترصد تجاعيد الحزن والبؤس ، وترصد بهجة الألوان في المجتمعات الحديثة ، بمسلاط ضوئي عالي الدقة ، لا ينكر التفاصيل والحيثيات ، لذا أرى أن لكل قارئ متمكن نصيب أوفر ، مما قد يراه أو يشعره ، أو يحس به ، أو يدركه ، أثناء تموقعه في الزمان والمكان  ليجد مبدعتنا قد تناولت عالمه بتفصيل غريب عالي الدقة ، لا يتفصل عن واقع معاش ، ولا ينسى الاستثناءات كمسألة تنتظر منا الانتباه الحذر الشديدين ، ولعل ما يثير الانتباه في تجربة المبدعة ، هو توجيه القارئ بعناية أثناء حضور قصيدها بين يديه ، ليضم إلى رؤاه رؤى أخرى ، أبلغ وأجمل ، مصاغة في قوالب إبداعية ، ذات محصول وافر أكثر شمولية ودقة . وأنا أقرأ لها  قرأت تموقعا بأمل يرغب في معانقتها ثانية ، وهي تتألق بغيرة متنامية ، تعمل المبدعة جاهدة على بعثها في بعض ممن لا غيرة لهم ولا أمل ، غير حركات وسكنات ، لا تؤتي أكلها ، ولم يكن لنا منها غير العبارات ، لا تحيا طويلا وهي لا تقترن بما يلزمنا أثناء التموقع الجاد في الزمان والمكان . وأخيرا تبقى الأستاذة المبدعة الشاعرة : مليكة الجباري ، تلك الشاعرة المبدعة ، التي لا أستطيع بسط كل جوانب تجربتها الإبداعية ، على ورقة ، ارتأيت أن أتناول فيها جوانب مما لا مسته وأنا بين رؤى مختلفة ، في أعمال شتى لمبدعة تشق طريقها ، بحرفية المبدع المكتمل الأدوات . ) 

ملاحظة  : الجزء الثاني من الدراسة الذرائعية سنتابع قراءة التجربة الشعرية لمليكة الجباري من خلال دوانها ( على صهوة الجموح ) .

==================   عبدالرحمن الصوفي
============================== 

===================== الهوامش ============================

1 _كتاب ( مقاربات نقدية في دواوينها الأربع / مليكة الجباري : عنقاء اللوكوس للناقد مجدالدين سعودي 
2 _ كتاب ( الذرائعية في التطبيق ) تأليف عبدالرزاق عودة الغالبي 
3 _ إحسان عباس : تاريخ النقد الأدبي عند العرب 
4  حازم القرطجاني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء 
5 _ أحمد بن جعفر بن شاذان : أدب الوزراء 
6 _ قضايا الشعر الحديث / نازك الملائكة 
7  الأدب العربي / ابراهيم الكيلاني 
8 _ شوقي ضيف / الفن ومذاهبه في الشعر العربي 
9  ديوان / في قلب العاصفة لمليكة الجباري 
10 _ ميشيل فوكو / إرادة المعرفة / عرض محمد حافظ دياب7

بقلم الناقد مجد الدين سعودي

قراءة في الديوان الزجلي ( ضفاير لالة ) للكاتبة المغربية فاطمة المعيزي : عشق الوطن و حرقة السؤال
-------------------------------------------------------------


الفصل الأول
----------------------
برولوغ :
------------
فاطمة المعيزي ، اسم قادم من مملكة الشعر و العمل الجمعوي الى رحاب الزجل ، بدارجة عبدية ، صاقلة فطرتها و موهبتها بهواء البادية النقي و موروثها الثقافي المتنوع و الغني ...
كتبت فأبدعت ، تشتغل بجدية و في صمت ، في محراب كتاباتها الابداعية ، تناضل داخل الاطارات الجمعوية و الثقافية ، حاضرة بقوة في المنتديات و الملتقيات الأدبية ...
---------------------------------------------------------------------
في السيرة الذاتية :
------------------
من مواليد مدينة آسفي المغرب
عضو منشط بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية
رئيسة جمعية لبابة للابداع و التنمية و التواصل
رئيسة رابطة المبدعين العرب فرع مراكش
الكاتبة العامة لرابطة كاتبات المغرب فرع مراكش
عضوة نشيطة بعدة جمعيات ( جمعية أصدقاء الثقافة و الفنون ، الجمعية المغربية للتدريب و الاستشارات .... )
-------------------------------------------------------------------------
في الاصدار :
--------------
صدر للشاعرة المغربية فاطمة المعيزي ديوان زجلي تحت عنوان ( ضفاير لالة ) سنة 2017 ، و هو باكورة اصداراتها الأدبية في 110 صفحة ، في طبعة أنيقة ، جذابة ، تثير شوق القارئ و تحفزه لقراءة الديوان و الذي يضم 26 قصيدة متنوعة التيمات .
------------------------------------------------------------------
في الغلاف :
-------------
يتميز بجماليته و تناسق ألوانه و تعددها : فجاء العنوان بارزا باللون الأزرق ، و في الأسفل جاء ( زجل ) باللون البني ، و أسفله اسم الكاتبة ( فاطمة المعيزي ) باللون الأسود ، و تحتل الغلاف صورة فتاة بضفائر جميلة و جمال متكامل و ابتسامة تشع أملا و عشقا و نظرات حكيمة و تأملية ، و تبقى الصورة طبيعية بإطلالة الفتاة البهية و تواجدها القوي .
و عن الغلاف يقول الأستاذ المهدي نقوس في تقديمه للديوان : ( و اللوحة التي تمثل صورة فتاة مسبلة ضفائرها ، تختلس في خفر و حياء نظرات من شق بوابة شبه مواربة ...    الصفحة 11 ) .
------------------------------------------------------------------
في الاهداء :
-------------
جاء الاهداء على الشكل التالي :
( أهدي ثمرة هذا المجهود لوالدي تغمدهما الله بالرحمة و المغفرة ، و لابنتي ( ملاك و أميمة ) ، و الى كل من شاطرني نزيف هذا الحرف  ).
هو اذن اهداء بوجهين مختلفين لكنهما متكاملين : فالإهداء الأول موجه للعائلة ( الوالدان ، الابنتان ) ، هو اعتراف قوي بالوشائج العائلية و قدسيتها و كذلك البر بالوالدين ، و الاهداء الثاني عميق المغزى و الدلالات لأنه موجه لقارئ يتقاسم مع الزجالة نزيف حرفها .
و يقول الأستاذ المهدي نقوس عن الاهداء : ( الاهداء السخي المعبر عن طقوس و أدبيات الضيافة و الاستقبال المغربي ... ) .
--------------------------------------------------------
في التقديم :
و فيه تعلن الزجالة انحيازها للزجل و اعتباره فنا قائم الذات ، فتقدم لنا استشهادين رائعين و هادفين ، الأول عبارة عن مقتطف من كتاب ( بلوغ الأمل في فن الزجل ) لأبي بكر حجة الحموي يقول فيه : ( و انما سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يتلذذ به و تفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به و يصوت .. ) ، و الثاني مقتطف من المقدمة للعلامة ابن خلدون : ( و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس و أخذ به الجمهور لسلامته و تصريع أجزائه ، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ، و نظموا على طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه اعرابا و استحدثوا فنا سموه بالزجل .. ) .
---------------------------------------------------------------------
في العنوان :
-------------
( ضفاير لالة ) ، يتكون من كلمتين دالتين : ( ضفاير ) و ( لالة ) ، و الكلمتان معا تنتميان لحقل الدلالات للزمن المغربي الجميل و القديم ، زمن الآباء و الأجداد ، زمن القناعة و التضامن و احترام الجار ، زمن الجمال الحقيقي و الطبيعي بدون رتوش أو ماكياج ، حيث كان جمال المرأة في ضفائرها والتي تزيد المرأة جمالا و تألقا و احتراما و تقديرا .
و كلمة ( لالة ) تدل على احترام المرأة و علو مكانتها و صفاء أصلها و أهمية مكانتها الاجتماعية و الاحترام الكامل للأم و الأخت و الزوجة و الجدة و المربية وووو .
ف ( لالة ) هي سيدة المجتمع الحضري و البدوي بدون منازع ، انه تعبير راقي ...
و عن العنوان تقول فاطمة المعيزي : (اختير لهذا الديوان عنوان ضفاير لاله  لأن الضفيرة من جماليات المرأة عامة فما  بالك إن جملت كل أحاسيسها المفرحة منها والمحزنة على شكل حروف ضفرتها بكل حب وكل تلقائية لتجعلها تاجا على رؤوس كلمات شاعرية تعانق الواقع بكل تجلي وتحاكي الماضي مكنة له كل قداسة وكل احترام. ) .
--------------------------------------------------------------------
الفصل الثاني
-------------
ضفائر العشق :
---------------
في جمال المرأة :
----------------
تقول الزجالة فاطمة المعيزي : (ضفاير لالة حروف صيغت ضفيرة بإحساس أنثوي صادق لا يأبى إلا المحافظة على موروث يعتبره هو الأصل وما دون ذلك  يحترم ويقدر ويستعمل أيضا في أدبيات الإبداع  والتواصل لكن دون أن ينفي كينونتنا وحمولتنا التراثية المغربية بكل أطيافها . )
تنظر الزجالة فاطمة المعيزي للمرأة باحترام و قدسية محطمة بذلك دونية الرجل الجاهل لها ، و تجد النموذج الحقيقي في جمالها و طبيعتها و أخلاقها و كينونتها ... و في قصيدة ( ضفاير لالة ) ، تقول :
( سالف لالة
تقول
عاود بركي يبري    الصفحة 19 )
و كذلك :
( خلي ضفايرك
شعاع خليهم جمره
خليهم جمره
خليهم كمره
نابتين حراكص
في خدود كل مرا     الصفحة 20 )
لكن في تقابل و مواجهة مع الآخر الجاهل :
( كالوا غطي راسك
غطيناه
كالوا الهوى حرام
صدقناه
كبرت أنا
و اللي ف كلبي
كبرناه )
-----------------------------------------------
في العشق :
------------
هو بوح جميل ، هو عشق انساني .
بأسى تقول الذات العاشقة و ذلك في قصيدة ( شحال كتواعدني ) :
( شحال ك تكولها و تخلف
تكول جناني عليك تلف
و عودك من خيري علف
و لقف من حوشت ايدي
شحال ك تكولها و تخلف      الصفحة 79 )
و تعترف هذه الذات الشاعرة في قصيدة ( و حق من لاقاني بيك ) قائلة :
( و حق من لاقاني بيك
حتى شفت سعدي ف عينيك
كلت نسرح غطاي عليك
نتوسدك و نبدا الحديث      الصفحة 103 )
و عبر لغة المناجاة :
( يا عرصة الدوالي لمدلية
يا ساكية الروح بك معنية
جودك به انا مغطية
وانا ب كلي نهديني ليك
-----------------------------------------------------
في اللوم و العتاب :
------------------
بدارجة عبدية جميلة ، يكون اللوم عند الذات الشاعرة قويا و مفعما بالمرارة خصوصا في قصيدة ( اللوم ) :
( باراك من اللوم
تشكي و تلالي
و تكول مظلوم
أش اداك لجنان الهوى
من تمرو بقيتي محروم
علاش تخبي و تحوم
وانت ف دواية العشق تعوم      الصفحة 31 )
و بذكاء و أحاسيس الزجالة فاطمة المعيزي ، تربط بين الهجرة و الحمام و ذلك في قصيدة ( لحمام لغريب ) :
( يا لحمام الغريب المزاوك ف العالي
اهجرتي ما حنيتي
و سكنك ف بالي
سامحت ف ليام
و لبست عليك البالي
ابكات عيني
و ضحكت من حالي
أنا على طلالك انطل
طلة و طلة و طلالي      الصفحة 83 )
و بنفس الوتيرة تلتجئ الى القنديل لتبثه لواعج الذات الشاعرة :
( يا القنديل
مال فتيلك ذبيل
ماسح دموع لقهر
ف كل ليل
يا القنديل
مال زيتك هبيل
مال طريقك اعكابي
قاطعاه محاني
قاطع قلبي لعليل
مال زيتك هبيل       الصفحة 91 )
و نفس الشيء نجده في عدة قصائد ( العرصة ... ) .
----------------------------------------------------
ضفائر الوطن :
------------------
يحضر الوطن بقوة عبر المناجاة و الحكم ، فهذا الوطن هو :
( يا بلادي يا ظل المظلة
الكبير
وخان تقلق
ما ندوزك
ما ننسى حوزتك لي
يا مغرب الخير      الصفحة 39 من قصيدة : جويهرات )
و بفرحة عامة تهتف :
( فرح يا المغرب
ما بقيتي في الشهد غريب
تكلع ضيمك من الكليب
و بان غرسك في افريقيا قريب       الصفحة 66 )
الوطن ذاكرة جميلة و فضاء الحنين ، لهذا تسترجع فاطمة المعيزي ذكريات الزمن الجميل عبر قصيدة ( دار الضمانة ) ، اذ تقول :
( ال دار الضمانة صديت
كلت نوصل و نغزل حديث
من قلة شوفتهم مليت
جمعت حاجتي و صليت
شديت الطريق و لغيت      الصفحة 85 )
عبر عملية فلاش باك السينمائية ، تستحضر الزجالة فاطمة المعيزي الماضي ، و ذلك في قصيدة ( تخمامي ) :
( جات لحمية
من ذاك الجبل اتلالي
و البلاد بلاد السيبة
و الحاكم دكالي
ف زين لالة
شهدو الشهود
و نطقو بالعلالي      الصفحة 89 )
الوطن تراث جميل عبر لعيوط ( خربوشة ، ميلودة ،   )
و تخاطب شيخات الزمن الجميل عبر قصيدتها ( رومني ) فتذكر أسماء كبيرة و وازنة في مجال العيطة ( خربوشة ، ميلودة ، زروالة ... ) .
-----------------------------------------------
ضفائر السؤال :
---------------------
حرقة السؤال :
-----------------
ان كل كتابة بدون تساؤلات تبقى ناقصة ، لهذا يحضر السؤال الفلسفي العميق عند فاطمة المعيزي بصيغ مختلفة ، تفرض نفسها على القارئ ، في قصيدة ( لا تسولني )، تقول :
( لا تسولني يا لحبيب
على لعمر آش بقى فيه
بلي باقي هديتو ليك
انكتبو كتاب بمعانيه
و يكون هدية بين يديك       الصفحة 27 )
و تحاول الذات العاشقة الاجابة على التساؤلات السابقة ، لكن :
( كيف يصبر جفاي
على جفاك
كيف تصبر العين
تصوم
ما تشوف فيك      الصفحة 27 كذلك ) .
-------------------------------------
الزمن :
-------
تتغير الأحوال المعاشة ، فيحن المرء الى الزمن الجميل  عكس زمننا هذا .. و هذا ما نجده في قصيدة ( زيمة ) :
( تفرقوا الخوت
تباعت خيمتنا
و البهيمة السمينة
كبرت المدينة
ماتت لميمة
حسرة و تخميمة
ذبال زرعنا
كثرت السقيمة
تشتت المرسم
و الكلمة الحكيمة     الصفحة 36 )
و هو اذن نوستالجيا بطعم الوجع :
( ترحم عل لميمة
ترجى ذاك الزمان
لي دار لجام
من حر الكلام
و لا يضام
ما بغى خصام      الصفحة 37 )
----------------------------------------------
الليل :
-----------------
عند الذات الشاعرة ، هو شفاف لأنه يظهر ما خفي فيه و ما ظهر ، لهذا تقول في قصيدة ( في ضيافة الليل ) :
عربد الليل
ب هموم الناس
اشطح فوك جفنة
كالوا : فضة
كلت : انحاس
عربد الليل
ف زين سماه
خال و نجمة
كلت : جاب بسمة       الصفحة 53 )
لهذا تقارن همومها بهموم الآخرين على الشكل التالي :
( عربد الليل
بهموم الناس
وأنا همي مصدي
يساسي
بين ضلوعي
زامت انفاسي       الصفحة 54 )
 و كذلك :
( عربد الليل بهمومي
و لهموم الناس
ناسي .. قتل حواسي
زاد هواسي .. ما دار قياسي
وانا حالفة يا كلبي
و الحاتل في جنبي
حتى تبقى وردة
اعسل كاطر من شهدة
ك حليب ميمتي بين ضراسي      الصفحة 55 )
------------------------------------------------------------
ضفائر الحكمة و العبرة :
------------------------
تجليات الحكمة و العبر كثيرة في ديوان ( ضفاير لالة ) ، و سنقتطف منه بعض المقاطع الدالة على ذلك :
في قصيدة ( كل يلغي بلغاه ) ، تقول :
( كل يلغي بلغاه
واحد ركب البحر وداه
واحد بعشقو كواه
وواحد ما شاف اللي بغاه
وأنا على عاودي مسرجاه      الصفحة 43 )
و كذلك في قصيدة ( واه  واه ) :
( واه  واه
واه  واه
شحال من شوكة
غارزة فينا
ساكتين
ما نكولوا علاه    الصفحة 45 )
و كذلك في قصيدة ( دوايتي ) :
( ما عرفت
و علاش عيا لقلم ما يزمم
بلا ما يخمم بلا ما يعلم     الصفحة 75 )
-----------------------------------------------------
الفصل الثالث
-------------
مميزات الكتابة عند الزجالة فاطمة المعيزي :
--------------------------------------------
من خلال ديوان ( ضفاير لالة ) ، يلاحظ أن الزجالة فاطمة المعيزي تستمد قوة زجلها من توظيفها للأمثال و الحكم الشعبية و التراث الشعبي بطريقة غير مباشرة و ذكية ، كما تعتمد على لغة دارجة مفهومة عبر استعمال أسلوب ( السهل – الممتنع ) ، لهذا أتت كتاباتها تلغرافية بجمل جد قصيرة و غير منمقة و عبارات مختصرة و مركزة فأكيد أن ( خير الكلام ما قل و دل ) ، كما أن عناوين أشعارها الزجلية دالة و معبرة عن أحاسيسها و تصوراتها ( القبة ، لا تسولني ، اللوم ، لحكام ، كل يلغي بلغاه ، في ضيافة الليل ، لحمام الغريب ، كالوا غطي راسك .... ) . و لهذا تلخص لنا الزجالة فاطمة المعيزي اعتمادها على الموروث الثقافي الشعبي قائلة : (صرخة زجلية تغرف من الموروث الثقافي المغربي في كل أزمنته ،ولربما  تقاسمتها كل النساء مهما . صرخة زجلية تغرف من الموروث الثقافي المغربي في كل أزمنته وتنهل من الثقافة الشعبية الأكثر قربا منا والأكثر فهما والأكثر تعبيرا لخلجاتنا وأشواقنا ورغباتنا ، ولربما  تقاسمتها كل النساء مهما اختلف موقعهم الجغرافي والاجتماعي ومبادئهم . ) .
--------------------------------------------------------------------
خاتمة :
-------
نجحت الزجالة فاطمة المعيزي في ايصال الرسائل المشفرة و الهادفة من خلال ديوانها الزجلي ( ضفاير لالة ) و الذي يعتبر قفزة نوعية في مجال الزجل المغربي الذي بدأ يفرض نفسه كجنس أدبي يلامس القضايا الاجتماعية و الفكرية و السياسية و غيرها للمجتمع المغربي .
و أجمل ما نختتم به هو ما استهلت به الزجالة فاطمة المعيزي ديوانها ( ضفاير لالة ) :
( كلت نصبح و نمسي عليكم
بمخفية عسل
و ما كرهت نخليكم
تربوا حتى النحل
و تحسوا بمحبتي ليكم
لي كد الجبل     الصفحة 17 ) .
--------------------------------------------------------------

مجدالدين سعودي
كاتب و اعلامي و ناقد مغربي