الجمعة، 11 فبراير 2022

حافظ محفوظ

 

مقدمة في تعريف الايقاع



منذ سنوات قليلة، كان الجدال قائما حول مسألة الشعر الموزون والشعر غير الموزون (بين العمودي والحرّ، بين القصيدة الخليلية وقصيدة النثر، بين القصيدة التقليدية والقصيدة الحديثة...). هذا الجدال كان المحرّك الاقدر «على خوائه» للكتابات النقدية.

لم يكن الامر سهلا أعني قبول غلبة هذا النوع من الكتابة الشعرية على الاخر كان يبدو مصيريا محددا لطريقة القول الشعري وللحكم على ما يقال. «لقد» انهم انشبوا الحرائق هنا وهناك طلبا للضوء وإنارة السبل لكنهم أتلفوا المحصول.

الموضوع الاساسي والمتكرّر منذ الثورة الشعرية العربية الاولى كان «الايقاع» الذي يختزل عادة في الوزن الخليلي واذا تجاوز هذا المفهوم فالى مرادفات له تقبع في مداره واليه تنتسبُ.

والحقيقة هي ان الوزن غير الايقاع. ثم روابط بينهما لكنهما يتنافران اكثر مما يتجاذبان والحقيقة أن الايقاع ليس خاصا بالشعر وعلينا ان نناقش الايقاع في النثر فطرح المسألة داخل النصوص النثرية أقرب الى الواقع والمنطق.

والحقيقة ان ا لايقاع ليس خاصا بالنصوص الادبية فقد يوجد في نصّ غير أدبي.

والحقيقة أن الايقاع ظاهرة توجد في الحياة بصفة عامة قبل النصوص. لكن معنى الايقاع بهذا الوجه من وجوه الطرح يضيع ويتلاشى ويفلت من كل تقنين وتقعيد اي من كل نظام.

نعم، الأمر كذلك، لأننا اذا حسرنا النظر في كل ما هو قواعد مضبوطة وسلمنا بضرورة ضبط المفاهيم خرجنا من مبحث الايقاع الى مبحث اخر مختلف تماما من حيث الطرح وآليات التفكير وهذا هو المنزلق الخطير الذي سقط فيه أغلب الذين خاضوا المعارك باسم الدفاع عن قضيّة الاوزان الخليلية أو باسم الخروج عليها.


 


قد يتبادرُ الى الاذهان ان دراسة الايقاع غير ممكنة في غير العروض والأوزان. والواقع ان في كل لغة عروضا واوزانا تختلف باختلاف خصائص الكلام ووحدات القياس والمصطلحات والمفاهيم انطلاقا من الاختلاف في مفهوم الايقاع والنظريات والمختصين فيها.

ولكن ما دمنا في مجال اللغة العربية فلنجمل النظر في امرها ولننظر كيف تعامل اهلها مع مسألة الايقاع.

إن معنى الايقاع انحصر في مفهوم الوزن ومعنى الوزن في أذهان العرب هو بحور الخليل وقواعد الشعر التي ضبطها وما قالوه في القافية وعمود الشعر والتفعيلة وهذا أمر طبيعي، فالمعوّل هنا يبقي على نظرية الخليل.

فالوزن ينتظم الكلام الذي نصطلح عليه بالشعر بقطع النظر عن الشعرية في النص لأن المنظومات التعبيرية لها أوزان وان كانت ضعيفة السمة الشعرية.


 


أما الايقاع فظاهرة في الكلام مهما كان الكلام ومستواه.

كلّما تحدثنا عن الوزن انحصر تفكيرنا في الشعر وحده، أما الايقاع فيهمّ الشعر والنثر والسجع والخطبة والرسالة والتقارير الادارية اليوم والمقال الصحفي وغيرها.

الأمر كذلك وقد نعرّج على ظاهرة الايقاع في غير الشعر طيّ هذه الورقات التي لا تبحث في النظم الوزنية وليس يشغلها شأن البحور الخليلية وقوالبها الصوتية التي يخضع لها البيت الشعري القديم او الأسطر الشعرية في القصيدة الحرّة أو في ضروب اخرى انبثقت من هذا وذاك.

لا يمكن الحديث عن الايقاع ما دمنا واقعين تحت سيطرة مفهوم مهيمن نعني «الوزن الخليلي». يجب أوّلا التبرأ من كل نظام وزني والتنكّر لمقولات سجنت هذه الظاهرة داخل اطر شكلية لا يمكن بحال ان تمسّ جوهر الشعر او تقترب منه.


 


سنقول للمرّة الاخيرة «الوزن لا يصنع الشعر» نعم قد يتخلّل الوزن قصيدة ولكنه لا يصنع شعريتها «الوزن ليس الايقاع» نعم قد يكون أحد عناصره في حالات مخصوصة منه ولكنه لا يمثله تماما.

الايقاعات حرّة

الاوزان مقنّنة مضبوطة

فالوزن بهذا الطرح تطبيق او تحقيق لنماذج ايقاعية جاهزة في الذهن لكن الشعر لا يخلو من ايقاعات حرّة بقطع النظر عن اوزان الخليل.

لن نخوض في تنويعات الأوزان اي نظام العلل وضروب الزحافات وأنواع القوافي المعتمدة فتلك من شأن بحوث اخرى.

ولن نخوض في مسألة النبر في الكلام فليس من السهل دراسة النبر ولم يتوصّل بعد الى وضع قواعد او اليات في هذا الموضوع. وهو امر يخصّ المشافهة اكثر مما يخص الكتابة.

وخلاصة القول ان في تراثنا نظرية في الوزن محكمة البناء منسجمة وليس فيها نظرية في الايقاع.

ماذا نقصد بالايقاع اذن؟

إنّ الظواهر التي تصل المعنى بالمبنى في القصيدة. القصيدة الحقيقية وليس ما يتشبّه بها أو ما يُروّج له كما يروّج لبضاعة استهلاكية لابد للايقاع من كيان صوتي / تركيبي / تعبيري.

للبحث الحديث آراء في مسألة الايقاع ونزعة الى وضع نظريات تدل على دقة المسألة وتوسّع جوانبها مهما تنوّعت زوايا النظر إليها ووعي بأهمية الايقاع في جميع أنواع الكلام وأثره في بناء معانيه وتوجيه الرؤى فيه.


 


نركّز هنا على احدى النظريات التي قاربت الاكتمال وتشكلت ملامحها نقصد نظرية الباحث الشاعر الفرنسي هانري ميشونيك وهنري ميشونيك هو شاعر وناقد فرنسي مولود بباريس سنة 1932 وهو أستاذ الالسنية بجامعة فانسان وقد نشر مجموعة من الكتب الشعرية منها في اعاداتنا 1976 أسطوري كل يوم 1979 نحو العبور 1990.

ونقد الايقاع 1982 . النظم والحياة 1990 / الحداثة، الحداثة 1994 / سياسة الايقاع، سياسة الموضوع 1995 / انشائية الترجمة 1999، وتمجيد الشعر 2001.

ويدرك متابعو أعمال ميشونيك مدى مراهنته على بناء نظرية متكاملة حول مسألة الايقاع مراهنة انطلقت منذ صدور اطروحته «نقد الايقاع» وتواصلت في كتبه الاخرى بنفس الاصرار والطموح.

وقد قامت شهرة ميشونيك على اساس ما حوته كتُبه النقدية من طرح جديد لمسألة الايقاع في الكلام عامة، وبحث مغاير عن تعريفات اشمل له واكثر التصاقا بالفكر الانساني الحديث «المتحرّك».


 



وطبيعي ان يكون كتابه «نقد الايقاع» مرجعا لا غنى للباحث في الادب عامة وفي الشعر خاصة عنه.

الكتابُ يقطع مع سائر الكتب النقدية التي تناولت هذا الموضوع ويرسي أسسا مستحدثة في التعامل معه لا باعتباره مكوّنا من مكوّنات الكلام الموقّع بل باعتباره ظاهرة متأصّلة في الكلام عامة تنبئ عن اصول تكوّنه ومدارات تقبّله وتأويله.

إنه كما يقول مسار نقدي للفكر الانساني


بقلم مفيدة خليل

 اليوم خلع عني الملك» لحافظ محفوظ: 

يجب إعادة التاريخ المكتوب وطرح سؤال هل أنه هو الحقيقة ؟

  

   


هل أن ما وصلنا من التاريخ هو الحقيقة المطلقة؟ 

هل أن ما كتبه المؤرخون عن فترة حكم البايات هو الحقيقة الكاملة؟ 

هل أن ما دوّن عن نضالات بورقيبةواستعادة الحكم من بايات كان يكدسون فقط الثروات امام مزيد تفقير الشعب هو الحقيقة الوحيدة؟ 

هل يمكن طرح السؤال والتشكيك في صدق تلك الوثائق التي كتبت تاريخا واحدا؟ 


هي كوكبة من الاسئلة التي يمكن طرحها بعد تناول رواية «اليوم خلع عني الملك» لحافظ محفوظ الصادرة عن دار مسكلياني.

«تستقل البلاد، تتأسس الجمهورية، يصير بورقيبة زعيما، لكن ليس في نظر الامير الشاذلي بن الامين باي، الذي راسل الامير اخته ليحدثها عن امور كثيرة تهم العائلة وشخصية بورقيبة» كما جاء في تقديم الكتاب الذي تميزت صورة غلافه بتلفاز قديم داخله صورة للحبيب بورقيبة والامين باي وكان الرواية دعوة للدخول الى عوالم التاريخ.

من الخيال الى التاريخي: جولة روائية ممتعة

يبدأ الكاتب كتابه باشارة ان «كل احداث الرواية خيالية وان استعارت بعض الاسماء لشخصيات تاريخية فذلك من قبيل التخييل لا غير» لكن حتى وان كانت الاحداث متخيلة فالحديث عن شخصيات واقعية اثرت في التاريخ التونسي، فهي دعوة غير مباشرة لاعادة قراءة التاريخ.

فالتاريخ المقدم عن فترة حكم البايات واوائل حكم بورقيبة تكاد تكون مصادره شحيحة، ذلك أن أغلب الكتب مجّدت الانتقال من زمن الملكية الى الجمهورية فقط لعل كنز البايات لم يكن الا فزاعة لبعث النقمة في روح الشعب على العائلة المالكة. انا اشكّ في كل ما يقال حول البايات وتاريخهم، والحق اقول اني لا اثق في رجال السياسة، لقد تعلمت ان سلاحهم الاكبر هو الكذب والتزوير والنفاق...احد اساتذتنا اثرى بكتابة كتب عن مسيرة بورقيبة النضالية وعن مميزاته كقائد فذّ وزعيم ورجل سياسة لا مثيل له في العالم، استاذي تصوّر هذا الكنز ولا ادري من اين اتى بمكوناته؟» كما يتساءل شمس الدين البوغانمي الشخصية التي اختارها حافظ محفوظ لتشكك في التاريخ المدوّن.

«اليوم خلع عني الملك» عنوان الرواية، جملة شهيرة قالها محمد الامين الباي الملك آخر البايات التونسيين حين ماتت زوجته «الملكة جنينة»، جملة يستعيرها الكاتب لتكون عنوان لمتنه، في الرواية يمتزج التاريخي بالخيالي، التاريخي هو التواريخ الحقيقية واسماء البايات، مثل الحديث عن المنصف باي ثم احمد الامين الباي الذي نصب ملكا على تونس عام 1943 بعد عزل المنصف باي «اعود الى صيف 1943 اي الى اجبار فرنسا سيدي المنصف باي على امضاء وثيقة تنحيه عن العرش في منفاه بمدينة الاغواط الجزائرية، واعتلاء والدنا الباشا الملك ومحاولته منذ تلك اللحظة اختلاس زمن من وقته يخلو فيه بساعاته»، كذلك اسماء اخرى اثرت في التاريخ التونسي مثل «روبار فينستان» الذي ترجم كلمات الباي لمنداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية، و الزعماء التونسيين مثل علي البلهوان وغيرهم اما الخيالي فيتمثل في صياغة الاحداث واختيار العديد من الاسماء والشخصيات لعالمه الروائي المشبع برائحة التاريخ.

يختار شخصية محورية اولى وزمن روائي حاضر هو شمس الدين الغانمي باحث في التاريخ ويعمل في الوكالة الوطنية للتراث والزمن الحاضر هو العام 2008، اما الزمن الروائي فمرتبط بذاكرة الشخصية الروائية الاخرى التي ستاخذ حيزا من الحكي هي «الشاذلي الامين» ولي عهد الامين باي الذي خطّ العديد من الرسائل لاخته «ليليا» لتكون تلك الرسائل نقطة بحث في الحقائق التاريخية التي دونها التاريخ الرسمي التونسي.

تتدافع الاحداث والشخصيات لاعادة رؤية التاريخ من زاوية اخرى

بين الحاضر والماضي تتراوح الاحداث والحكي، يوفر حافظ محفوظ لقارئه متعة في اكتشاف رسائل يبوح فيها امير بوضعية عائلته ويتحدث عن حقائق ربما لم تدوّن»مرّ ربع قرن من الوهم بسرعة وتركنا مشردين، اخرجونا من قصر قرطاج ورموا بنا في بيت لا يصلح حتى لتربية الابقار في ضاحية منوبة، قالو انه قصر الهاشمي الذي بقينا فيه قرابة السنتين، ثم اخرجونا والقوا بنا في خرابة اخرى في مدينة سكرة سنة 1958 قبل ان يخلى سبيلنا في سنة 1962 بامر من الحبيب بورقيبة» (ص62).

تتدافع الشخصيات والامكنة والاحداث ايضا، مراوحة بين الحاضر والماضي البعيد، رحلة بين الزمن الحقيقي وزمن القص كذلك الامكنة تختلف حسب الشخصية، مكان الكتابة الاول هو «عمارة عدد 12 بنهج مصر، هي الأخرى عمارة تاريخية فهي أول العمارات التي شيدها المهندس دافيد راكاه بهذا الشارع» فمكتب بوكالة احياء التراث فضاحية قرطاج،.

أما الامكنة البعيدة فهي «بيت جنينة» بمنوبة «اليوم تسلكت مفتاح دار جنينة من عند البير الساحلي البناء يدا بيد مثلما اوصيته: قال لي تسكن بالهناء سيدي، منذ أشهر وانا افكر، احس انهم سينزلونني من العرش، او سيقتلونني كما قتلو ولي عهدي، لست خائفا من الموت، الموت حقّ، همي هو حياة الغالية جنينة، بنيت البيت حتى يسترهم وقت الحاجة ويكون ملجئنا عند الشدة» كما دوّن الشادلي الامين على لسان والده الباشا محمد الامين باي، وقصر البار بسيس بقرطاج (بيت الحكمة اليوم) «كل القصور الاخرى ملك العائلة الباشوية، اما هذا القصر فملكنا وحدنا، اشتراه جدكم من اليهودي البار بسيس ب 400الف فرنك سنة 1922، وقد اصبح ملككم بعد ان اعطيت حقوق كل وارث وعندي وصولاتهم» فلم شرّدت العائلة؟ ان كانت تملك ملكية القصر.

تتدافع الحقائق التاريخية على لسان الشخصيات، يحاول الكاتب السؤال عن مصداقية ما دونته المراجع الرسمية، يضع تحت المجهر كيف كان بورقيبة يقلد الباي في لباسه «الحذا الابيض» وطريقة مشيته ورفع يمناه لتحية الجماهير تماما كما كان يفعل الامين الباي، يواصل «الشادلي الامين» البوح بما عاشته عائلته ويتحدث « اولا اقوف جرايات كل افراد العائلة الحسينية في 31ماي 1956، ثانيا قام بمحو شعار المملكة التونسية حاذفا منه كل ما له علاقة بعائلتنا في 21جوان من نفس السنة، ثالثا اصدر امر تحويل كل سلطات الباي اليه شخصيا واجبره على التخلي عن ممتلكاته لفائدة الدولة، تمّ ختم كل هذا بالغاء النظام الملكي وعوّضه بالنظام الجمهوري، بعد ذلك طردونا بشكل وحشي» هكذا يشكو ابن الباي وجعه الى اخته، ليعلق قارئ الرسائل ان يحسب لبورقيبة انهم لم يقم بقتل افراد العائلة المالكة كما فعل كل الملوك في العصور السابقة وحافظ على حياتهم مع تغيير نظام الحكم.

ينتقل الكاتب على لسان شخصيته المختارة بنباهة بين الاحداث التاريخية، يترك لها مساحة كاملة للتعبير ثم يعلق على ما تكتبه، «اليوم خلع عني الملك» نص داخل النص، فالنص الذي نقرأه هو نص تكتبه شخصية شمس الدين الغانمي تعليقا على نص كتبه الشادلي الامين في رسائله، يختلف الاسلوب وطريقة الحكي لشد انتباه القارئ ودفعه لطرح الاسئلة، فهل حقا كان الباي يدعم الفلاقة «تحدث في الرسالة الطويلة عن رحة الى قرية في الشمال الغربي صحبة المدعو سالم البناني، وغاية الرحلة تسليم اموال الى قائد المقاومة المسلحة انذاك في جبال المنطقة» هنا يطرح سؤال ابن الباي يتنقل بنفسه لتقديم الاموال للفلاقة؟ 

في النص يتساءل عن جدوى كتابة الرسائل، هل كتب الشادلي الامين ولي عهد الامين باي رسائله حقيقة بغاية مشاركة اخته ذكريات الماضي؟ ام كتبها لعيد صياغة التاريخ الرسمي خاصة وانه يسند نصه بالكثير من التواريخ والاحداث الحقيقية؟

«اليوم خلع عني الملك» الرواية السؤال، اسلوب يدفع القارئ لاعادة فتح كتب التاريخ والنبش في الذاكرة التونسية عن الحقائق غير المكتوبة، هي رحلة في عالم الخيال لكنه خيال مزين بشوك الاسئلة عن مدى حقيقة تاريخنا المكتوب؟ هل ما دوّن هو الحقيقة المطلقة.

حافظ محفوظ // تونس

 قراءة في قصيدة "مثل عجوز بيتر بيخسّل" تقريبا

                                                                                                     لمنصف الوهايبي




"في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو". 

كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد،  في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع،  رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل.  قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: كأن أدعوك يا مذياع... صنبوري ويا مرآة كرسيّي ويا ألبوم مرآتي ويا سجّاد دولابي ويا دولاب أنت حديقتي " سرّ السنونو" أنت مائدتي ومائدتي هي السجّاد يا كرسيّ أنت منبّهي ومنبّهي ألبوم عائلتي سريري لوحتي صوت المذيعة ضفدعي صحفي سريري الباب نهري جارتي ديكي ... ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.

شبّاكي سلحفاتي نبيذي ببغائي زهرتي قطر الندى الأطفال أسماكي وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء. 

كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى السجّاد ثمّ ملأت كأسي ببغاء واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض السرير لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار الطيور فكدت أعطس مثلها وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بلوحتي وفتحت صنبوري فخشخش ضفدعي.

لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من الألبوم عالية وطقطقة من الصنبور خافتة ونهضت وقفت من برد على الدولاب ثمّ سحبت من الحديقة معطفي ونظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.

أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق منبّهي وسحبت سجّادي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب المرآة مائدة فمائدة موائد كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .

وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي  قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت الدّيك من غضب يدقّ النّهر وهو يصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا تفعل الأسماك عند الديك قل أم هل أصاب الديك مسّ ؟ 

غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أثغو: 

خذي قطر النّدى هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض الببغاء ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة". 


                     حين يصبح الشّاعر العربيّ صرّارا في حقّة من خشب

                                    "هشاشة الجميــــل"

                                   قراءة في قصيدة"مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا"*

                                                 للمنصف الوهايبي


                                                                               ــــــــــــ حافظ محفوظ

يتّسم المنجز الشعري للمنصف الوهايبي  بالتّجريب، وهي سمة لا يعسر على القارئ تتبّعها وتمثّل ملامحها. ومن مظاهر التجريب لديه الاشتغال ضمن مشروع متكامل يظهر على شكل كتاب تتظافر نصوصه لتشكّل وحدة بارزة. هذا النوع من الكتابة يقتضي من الشّاعر التخطيط لما يكتب والبناء الواعي للنّصوص، فهو يصنع قصيدته ويباشرها راسما لها غاية إن صحّت العبارة  ويدخلها مسلّحا ببرنامج قوليّ محدّد يعدّل حدسيّا وجماليا. بهذا تكفّ الكتابة الشعريّة عند المنصف الوهايبي عن أن تكون انفعالا أو استجابة وجدانية لمثير خارجيّ، لكنّ ذلك لا يعني الاستجابة لغرض من الأغراض أي الانصياع لفعل النظم بمعناه المسطّح.

إنّه يكتب عالمه إن شئنا، مسخّرا من اجل ذلك ثقافته وذائقته بعيدا عن مستلزمات المشافهة والإنشاد وهو ما يطلق عليه النّاقد حسن البنّا عزّ الدين  ( الوعي الكتابيّ )الذي يفترض فيما يفترض وجود استراتيجيا كتابيّة واضحة تقطع مع الشفاهيّة المطلقة التي ما تزال تطبع أغلب الشعر التّونسي والعربيّ عموما، وتسجنه داخل إطار الحضور والزّمانيّة فكأنّما هو شعر مكتوب للإلقاء ينتهي تأثيره بمجرّد نزول الشاعر عن المنصّة فإذا قرأته بعد ذلك وهن تأثيره فلا يحتاج منك إلى جهد لبلوغ معانيه فهي على رؤوس ألفاظه، ولا يستدعي تأويلا لتعرية عنصره وعنصره الأسمى صوت منشده وآداؤه.

أمّا نصوص منصف الوهايبي لاسيّما تلك التي كتبها في العشريّة الأخيرة  فإنّها من جنس تلك النّصوص المفتوحة على التّأويل ذات بنى متداخلة ونسيج معقّد تعقيدا يشدّ إلى طرفيه اللّغويّ والدّلالي وتفرض على قارئها اللّطف في النّظر والمغالبة في التحليل والفهم والمجاهدة للوصول إلى الحقيقة فيها. إنها تتطلّب من القارئ أن يكون داخلها لا خارجها وهو الأمر الذي يستدعي قارئا نموذجيّا يعيد صياغة النصّ ويتأوّله تأويلا. يقول الشاعر في مقالة له: " ثمّة دائما شخص آخر هو رفيق غامض يتقدّم فيعلن عن ميلاد قصيدة ثمّ يعقبه آخر فيضخّ فيها دما جديدا."  

وقراءة التأويل تتبرّم من المنهج معتبرة إيّاه عائقا أمام بلوغ حقيقة النصوص. وكثيرا ما صرّح أصحاب هذا الاتّجاه أنّ المنهج النّقديّ مهما اتّسعت مداراته إنّما يجيب عن أسئلته أكثر ممّا يجيب عن أسئلة النّصوص. والقارئ النّموذجيّ في عرف التّأويل هو البديل المثاليّ للكاتب النّموذجيّ. والأثر المفتوح دعوة لمشاركة المؤلّف كتابة أثره.  (L'œuvre ouverte est une invitation à faire l'œuvre avec l'auteur)                

"لأنّ النصّ يمكن أن يحتوي نصّا مضمرا أو نصّا تحتيّا sous-texte يندسّ وينزلق بين الكلمات المرئيّة المقروءة ".  

يقول الدّكتور عدنان الظاهر: " أقرأ شعر المنصف الوهايبي ... فأجد نفسي وجها لوجه مع وأمام الشاعر. قلّة من الشعراء من يملك هذه القدرة على استحضار القارئ وإفراد المكان الذي يستحقّ في نصوصه. لا أبالغ إذا قلت إنّي أجد نفسي على صفحات الديوان بل وفي كلّ سطر، بل وما بين كلمات السطر الواحد. الفراغ الأبيض يملأه القارئ ضيفا كريما مكرّما على الشاعر. يدعوه الشاعر أن يشاركه فيما يقرأ من تصوّرات وأفكار وانفعالات ومشاعر ومن ثمّ في أن يقف منه موقف الدّارس والمحلّل والنّاقد. لا يدع القارئ أن يمرّ على شعره مرّ الكرام. يرغمه على التّفكير وعلى التّساؤل وأن يقاسمه جميع معاناته. وهذا ضرب جديد من الشّعراء." 

من أجل هذا تخيّرنا من مدوّنة الشاعر منصف الوهايبي نصّا له لم يضمّه كتاب من كتبه المنشورة هو قصيدة " مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا " وقد استمعت إليه في أكثر من مكان وقرأته منشورا في جريدة القدس العربيّ. 


النصّ مرتع نصوص:

إنّ أمر هذه القصيدة غريب حقّا، فلو نزعنا عنها لعبة الأسماء التي يغرينا بها الشاعر فإنّنا لا نكاد نعثر منها على شيء غير مذكور في قصائد أخرى بشكل أو بآخر. أعني أنّ جلّ العبارات المكوّنة لهذا النصّ مستدعى من نصوص أخرى وردت في مجاميعه المنشورة أو في قصائد مفردة له اطّلعنا عليها. أتراه يؤكّد قول زهير بن أبي سلمى إذ يقول:

وما أرانا نقول إلاّ معارا             أو معادا من قولنا مكرورا

أم أنّ الأمر يتجاوز ذلك ليصعد بهذا النصّ إلى مكانة أثيرة لدى الشاعر فيكون جماع نصوصه وخلاصة بيانه؟ 

أم أنّ اللعبة لا تقتصر عنده على اللعب بالأسماء كما ورد داخل هذا النصّ بل تتعدّاها إلى اللعب بالنّصوص، لعبا يجبر القارئ لا على تتبّع مقاطع هذا النصّ بالتدقيق والتثبيت فحسب إنّما يجبره على تتبّع القصائد القديمة للشاعر أيضا؟

سنحاول فيما يلي  أن نربط بين هذه القصيدة وأخيّات لها سابقات معتمدين في ذلك على أوجه الشبه بينها  ( لا نريد أن نستعمل ها هنا مصطلحات نقدية تعني ما نذهب إليه مثل مصطلح التناص أو مصطلح التّطريس، فإنّني في الأصل أحاول الاقتراب شخصيّا من هذا النصّ ولا غاية لي من خلال هذا العمل غير المتعة الذاتية و بلوغ أقصى ما يمكنني من فهم. إضافة إلى أنّ التأويل وإن زعم  بعض روّاده، كما زعم أصحاب نظرية التلقّى، ارتكازه على ثوابت يمكن تفصيل القول فيها، يتجرّد من كلّ ما له علاقة بالمنهج لأنّه فعل يعتمد الخبرة القرائيّة والذائقة الفنّية والرّؤية الجماليّة وهي أمور إلى الحريّة أقرب منها إلى القيود.

" فتحت شبّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها".

- الحقّ أقول أنا أتلصّص من نافذتي فإذا أبصرت بجارتي تخرج و الكلبة، ناديت على كلبي وخرجنا مثلهما نتنزّه أو نتسكّع في الطرقات.

" لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده".

- فجارتنا لم تخرج هذا اليوم على عادتها والكلبة لم تنبح في هذا الوقت على عادتها.

- ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين عاما.

" وأبعد في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته".

- طفل صغير يستحثّ حصانه... وكان حصانه الهزّاز من ساج قديم.

- لا شيء غير حصانك الهزّاز يا ابني، عاريا بردان، يقبع بانتظارك، غير حسرتي الأخيرة.

" أمّ وطفلاها، السّوالف مثل أجنحة السّنونو".

- كان جناحه المخضوب مرآة لأمّي.

- أين السّنونو في سماء البئر يهوي ثمّ يهوي .

_ كان جناحه المخضوب بالحنّاء منسدلا ...

- اللّيل أجنحة السّنونو...

"  و نظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما".

- لم تزل عين مطوّقة بزرقتها تشيّعنا.

"وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل " كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها. وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي، قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب...".

- أن يضحك منّي صرّار ذهبيّ أخرجه فتحي النّصري من أحقاق طفولته فيما كان يفكّر في غيلفيك.

        يمكن أن نذكر أمثلة أخرى سواء كانت جملا كاملة أو عبارات أو كلمات مفاتيح أو إحالات على أماكن بعينها أو أشخاص... استدعاها المنصف الوهايبي إلى نصّه هذا، بل قل ركّب منها هذا النصّ تركيبا. فماذا يكمن وراء هذا الفعل الواعي؟ 

هل نضب المعين كما غاض ذاك البئر الذي كان للجارة؟

ما دلالة هذا التّوظيف للقصائد القديمة؟

هل لهذا علاقة بالحقيقة الكامنة داخل النصّ؟ وما هي هذه الحقيقة، حتّى لا نقول ما هو مقصد الشاعر وحتّى لا نقول ما المعنى الذي يريد إيصاله للقارئ؟ 

محاولة لاكتشاف النصّ:

من الجليّ أنّ الشاعر بنى قصيدته على حكاية ونقصد بذلك تواجد بنية سرديّة واضحة يمكن تحديد مقاطعها أو إن شئت مختلف وظائفها. وهي نزعة درج عليها في أغلب كتاباته في السنّين الأخيرة بل ونجد لها آثارا حتّى في كتابه الأوّل "ألواح" ولا نطمح هنا إلى تبيّن العلاقة بين السّرديّ والشعري في تجربة الوهايبي فقد تناول هذه المسألة غيرنا  بكثير من البراعة و بحث في مفهوم توظيف الحكاية وما يتّصل بها من دلالات. حسبنا أن ندرك هذا النصّ في سرديّته كما نفعل حين نريد تلخيص حكاية وتقديم أحداثها بعد القراءة ولكنّنا نرى لغاية تجريد النصّ الأصليّ من لعبة التّسميّة و إعادته إلى أصله كما لو أنّها لم تكن فيه أصلا. على ذلك يكون كما يلي: 


في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو". 

كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد،  في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع،  رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل.  قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.

وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء. 

كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى المائدة ثمّ ملأت كأسي نبيذا واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض الصّحف لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار النّاس فكدت أعطس مثلهم وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بسريري وفتحت مذياعي فخشخش صوت المذيعة.

لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من نافذتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من المنبّه عالية وطقطقة من المذياع خافتة ونهضت وقفت من برد على السجّاد ثمّ سحبت من الدولاب معطفي ونظرت في المرآة لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.

أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق كرسيّي وسحبت مائدتي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب الألبوم صورة فصورة، صوّر كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .

وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي  قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت جارتي من غضب تدقّ الباب وهي تصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا يفعل الأطفال عند جارتي قل أم هل أصاب جارتي مسّ؟ 

غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أنبح: 

خذي زهرتي هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض النّبيذ وسريري يحتاج من زمن إلى امرأة تشبه جارتنا العزيزة. 


المكان: غرفة في الطّابق العلويّ، بعيدة عن الأرض، خلوة يهرب إليها الشاعر كلّما ثقلت عليه الهموم وحزّ روحه الواقع، وهو مكان لا هو بالأرضيّ ولا هو بالسماويّ هو بين هذا وذاك. عاد إلى غرفته بعد أن خلّفها لمدّة لا نعرفها قد تكون طويلة تفوق العشرين سنة( ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين سنة) وقد تكون قصيرة، يوم واحــد أو بضعة أيّام( قرأت خبرا بائتا...)  

الزّمان: بين الظهيرة وساعات الليل.

الأحداث: فتح الشاعر شبّاكه المطلّ على بلكون جارته فلم يرها، تذكّر حديقة جارته القديمة في بيتهم القديم، بيت الطّفولة، تلك الجارة التي كانت تسقيه( تقدّم ماءها للزّهر مثل السامريّة للمسيح). وترعاه وهو يكبر( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ). وتمسّح عليه بيديها ( بأزهار الحواشي). وتهدهده ( الهدهدة للطّفل كي ينام). حين يبكي. 

البئر الذي كان مصدرا للماء ( لعلّه جفّ)

قال: لعلّ شيئا ما تغيّر.

هو لم ير جارته بل رأى نفسه حينما كان طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته. ولم يعد يسمع صياحه القديم لذلك يقرّر أن يبدّل الأسماء ( أسماء الأشياء الحاضرة أمامه) هو يريد أن يغيّر الواقع، يطلق أسماء جديدة على ما يراه ويسمعه فكان أن انتقى تلك الأسماء الجديدة من قاموس طفولته:

الصنبور، الحديقة، ألبوم عائلته، ضفدع، نهر، ديك، سلحفاة، ببّغاء، أسماك...

                عاد إلى طفولته بفضل هذه الأسماء الجديدة فابتهج وشرب نبيذه( استبدل ماء الجارة الذي كان يرويه بالخمرة) "والخمرة هي ماء الحياة في عرف الشعراء، هي بديل لبن فسكر الصّوفي معنويّ ناتج عن الدّهشة والرّغبة في الاتّحاد بالذات الإلهية والخمرة بالنسبة إليه السبيل الوحيد لإظهار الشيء وجلاء الغموض عنه . 

             تلتقي الخمرة والماء في الإمداد بالحياة فالماء في سيله يسقي الطلل ليعيد إليه حياة سلبها منه الزمن إنّه رواء الأرض  الرواء المعادل لحليب الأمّ في فترة الطفولة أمّا الخمرة فهي ما يسقي ذاتية الشاعر بغية الإحساس بمتعة اللحظة على الأصحّ بغية الحياة . لكأنّ الشاعر بلا هذه الخمرة لا يحيا حياته أو لا يوجد في زمنه إنّها حياته وحليبه الذي يرنو ويتطلّع إليه."  

            شرب إذن خمرته ونام كما لو أنّ جارته سقته وهدهدته وحينما استفاق من نومه استفاق من وهمه( لم أدر كيف نمت وكم). فأراد مواصلة تلك اللذّة الرّوحية لذلك فتح ألبوم العائلة وأخذ يقلّب صوره ( ركّز في النصّ على صورته وهو يبتسم حذو أمّه وأخيه) وهي الصّورة التي ذكّرته بأغنية " قد كان عندي بلبل".

          لقد كان الشاعر في الماضي بلبلا في قفص من ذهب وها هو اليوم صرصر في حقّة من خشب. 

        هذه هي إذن حالة الشّاعر كما يقول ( فقد، والله تشبهني وتشبه حالتي). فيكون ضحكه العالي من حالته تلك ضحك كالبكاء. يحتاج من يسكته ويهدهده ليعود إلى النّوم كما في الطّفولة. لابدّ من الجارة وهي رمز العطاء والحبّ والطمأنينة. لذلك طلب حضورها في الحاضر. وسمع طرقا على باب بيته ولكن... لقد كانت الجارة غاضبة هذه المرّة وعوض أن تمنحه ما يحتاجه فقد صاحت به أن كفّ عن البكاء والتبرّم من الواقع وعن الشكوى من الحاضر لألاّ يستيقظ الأطفال النّائمين أي لألاّ تنتقل شكواك إلى بقيّة الأطفال فيستفيقوا من غفوتهم و يبصروا حقيقة الواقع. وتتحوّل دلالة الجارة ممّا كانت عليه في الماضي إلى رمز للسّلطة القامعة التي تسكت صوت الحريّة.

                        كلّما قام في البلاد خطيب      موقظ شعبه يريد خلاصه 

           وإذا عدنا إلى الدّيك في الأسطورة العربيّة وجدنا له دلالات أبرزها الديك الكوني  وديك العرش أو إن شئنا الأنموذج العلويّ الذي عليه سائر ما على الأرض. والدّيك الكوني ديك أسطوريّ أو ملك بحجم الكون رجلاه في تخوم الأرض السفلى وعنقه مثنية تحت العرش وقد أحاط جناحاه بالأفق مشرقا ومغربا. يقول الكسائي في قصص الأنبياء عن هذا الديك " الدّيوك كلّها من هذا الدّيك" ص 66. وعليه يصبح المطلوب من تسميّة الجارة في هذا النصّ بالدّيك تمثيلها للسلطة التي تريد أن يكون الكلّ على شاكلتها أي تابعا لها وإلاّ فإنّها ستسكت صوته.

          ولكنّ الشاعر يواصل الضحك رغم غضب الدّيك( الجارة) ( السلطة) ويتساءل باستغراب واستهزاء " ماذا تفعل الأسماك عند الدّيك؟" أي ماذا يفعل الأطفال عند الجارة وهي الوحيدة دائما؟ كما يقول في بداية النصّ أي ماذا دهى الناس حتّى يناموا ويطمئنّوا لهذا الدّيك أعني لهذه السّلطة؟ 

هل أصاب الدّيك مسّ؟

هل جنّت هذه السّلطة، فتتصوّر أنّ الأطفال (الشعب) نائم عندها؟

             و يواصل الشاعر استهزاءه فيعتذر من الجارة بمدلولها الذي ذكرنا ويهديها زهرته "وهي لسلاسة بنائها ورقّتها وتنوّع ألوانها وظهورها في فصل الرّبيع قد أصبحت في الأعراف رمزا واستعارة ومجازا وصورة للطّراوة والشّباب وصورة للأناقة الأنثويّة" هي كلّ ما يملكه الشاعر (؟؟؟) ويعرض عليها خمرته لعلّها إذا شربت عادت مثله إلى صورتها القديمة التي في خيال الشاعر والتي يحتاج إليها أي يحلم بها من زمن تلك الصّورة المثالية لعالم يسود فيه العدل والحرية والخير. ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة. وجارتنا هنا ليست صاحبة البلكون بل هي صاحبة الحديقة وليست صاحبة الكانيش بل صاحبة الكلب الحارس وليست تلك التي تريد إسكات غنائه بل تلك التي تقدّم له ماءها مثل السّامريّة للمسيح. جاء في إنجيل يوحنّا أنّ المسيح غادر أورشليم منطلقا إلى الجليل وكانت طريقه تمرّ عبر مدينة السّامرة. وكان قد أرسل تلاميذه إليها ليبتاعوا طعاما، وفي غيابهم توقّف عند بئر يبدو أنّها كانت تخصّ يعقوبا، أحد أجداد الشعب اليهودي. فصادف هناك امرأة سامريّة وطلب منها أن تعطيه بعض الماء ليشرب، فتحيّرت المرأة، كيف أنّه وهو اليهوديّ، يطلب أن يشرب من سامريّة، ذلك أنّ الشعبين كانا يتبادلان ضغينة دينيّة وقوميّة منعتهما من إقامة أية علاقة بينهما فأجابها المسيح:

" لو كنت تعرفين مبادئي لما حكمت عليّ بحسب القاعدة الشائعة بين اليهود ولما كابدت في ذاتك أيّ تردّد في أن تطلبيها منّي ولكنت فتحت أمامك نبعا آخر للماء الحيّ الذي يطفىء عطشك إذا غرفت منه، فهو الماء الذي ينبجس منه نهر يقود إلى الحياة الأبديّة  ".

            يطلب الشاعر وهو النبيّ أن يتعرّف الآخر الممثّل هنا بالسلطة مبادئه قبل أن يحكم عليه بحسب ما يشاع أي دون علم بالحقيقة التي يحملها داخله. إنّه يطلب من الآخر أن يسمعه ويتواصل معه تواصلا يؤدّي إلى التّساقي فالشاعر يؤمن أنّه قادر على أن يفتح أمام الآخر نبعا للماء الحيّ الذي يطفىء عطشه إذا ما أعدم كبرياءه و فتح بابا للحوار الحرّ. 

     يهوذا خان المسيح، فصلب.  ولكنّ كلماته الدّاعية إلى الحبّ بقيت في الأرض ولم تمحها سلطة بيلاطس. كذلك الشعر الجيّد الصّادق، يبقى في النّاس ...

نقرأ في قصيدة يوميات برجوازي صغير للمنصف الوهايبي:

"يا صديقي ما الذي نفعله في زمن 

تحكمه أجهزة القمع وسيف الخونه

ما الذي نفعله في زمن

مارسوا فيه دروب القتل والزّيف

وغسل الأدمغه

غير أن نكتب شعرا

فيه شيء من خيوط الأمل

ربّما يقرأ شعري عامل في منجم

يفتح في الصّخر طريقا

ربّما يهتف في أصحابه كان رفيقا." 

على شاكلة السيموزيز :

         يمكن أن نواصل قراءتنا لهذا النصّ بتحديد الثغرات الموجودة فيه أو بالبحث عن مستويات أخرى للتأويل ( التأويل المضاعف ) على حدّ عبارة أمبرتو إيكو في كتابه الأثر المفتوح . كأن نتّجه إلى الألوان المستعملة داخل النصّ فنلاحظ طغيان الأزرق فقد ذكر في ثلاثة مواضع، بينما لم يذكر الأحمر إلاّ في موضع واحد( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ ) وكذلك الأصفر ( سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي ) في حين غاب اللّون الأسود (  وهذه الألوان هي الألوان الأساسيةالأربعة).

" منذ رأيتها في الأزرق الصّوفي"

" لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما"

"وصرصري في حقّة زرقاء من خشب" 

              نلاحظ في هذه الاستعمالات أنّ الشاعر جعل اللّون الأزرق فيما يحيط أي في الغلاف والغشاء ففي الموضع الأوّل هو للثّوب الذي يحيط بالجسد، جسد الجارة ( ولما كانت الجارة كما ذهبنا إلى ذلك صورة للسّلطة ) فنفهم أنّ السّلطة مغلّفة بالزرقة. وفي الموضع الثاني هو للموجودات التي تحيط بالعين أي كلّ ما يمكن أن تبصره وهو الواقع الماثل أمام العين. أمّا في الموضع الثالث فهو للحقّة التي يعيش داخلها الصرصر أي الشاعر وهي عالمه كاملا . 

         ولمّا كان الأزرق دلالة على التعفّن والفساد ( هذه الأرض زرقاء كبرتقالة) أي متعفّنة وفاسدة . فإنّ الفساد والتعفّن سيطال بالتّالي السّلطة والواقع والعالم، وهي قمّة التشاؤم والسوداوية التي عليها الشاعر. ولعلّ اللّون الأسود الغائب هو لون دواخل الشاعر.

          أمّا إذا ما وجّهنا النّظر إلى العناصر الأولى للحياة وهي الماء والهواء والتّراب والنّار فسنلاحظ حضورا مكثّفا للماء يأتي بعد ذلك التّراب والهواء في حين تغيب النّار كما غاب اللون الأسود في الألوان. فلا نكاد نعثر على ما يحيل إليه إلاّ في دلالة الحمّى التي في قول الشاعر" وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني" ويحيل هذا القول على قصيدة للمتنبّى هي قصيدة الحمّى ومنها:

       وزائرتي كأنّ بها حيـــاء        فليس تزور إلاّ في المنــام

       فرشت لها المطارف والحشايا         فعافتها ونامت في عظـامي 

          فالنّار إذن تسكن دواخل الشّاعر كما سكنها اللّون الأسود. ومن دلالات النّار العذاب والحرقة والحيرة والخوف وضع ما شئت من الدلالات فهي كثيرة ولا ريب.

          أمّا في خصوص لعبة التّسمية التي انبنى عليها النصّ، بل لعلّى لا أجانب الصّواب إذا قلت ركّب حوله نصّ هو في الحقيقة شذرات من نصوص أخرى للشاعر فإنّنا يمكن أن نقسّمها إلى ثلاثة أقسام:

1) تغيير أسماء  الأشياء الموجودة داخل الغرفة تغييرا بينيّا فيأخذ هذا الشيء اسم الشيء الآخر (  الصّحف/ السرير، المائدة/السجّاد، السجّاد/الدّولاب، المرآة/الكرسيّ....) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى. 

2) إطلاق أسماء حيوانات على الأشياء ( شبّاكي سلحفاتي، الأطفال أسماكي، نبيذي ببّغائي، صوت المذيعة ضفدعي) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشّعراء. 

ففي القسم الأوّل يقول الشاعر ( أبدّل هذه الأسماء) أمّا في القسم الثاني فيقول ( أبدّل أسمائي).

ويقول في القسم الأوّل ( ألعب لعبتي ) أمّا في القسم الثاني فيقول ( ألعب لعبة الشعراء ).

       فما دلالة ذلك؟ 

3) تغيير جملة كاملة هي طالع أنشودة حفظناها في طفولتنا ( قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب) ب: ( قد كان عندي صرصر في حقّة من خشب)  هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشاعر قلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي. 

         هل تغيّر اللعب في هذا القسم إلى جدّ وإذا كان الأمر كذلك فهل نفهم أنّ اللعبة التي انخرط فيها الشاعر وهو في وحيد في غرفته قد قادته من تسميّة الأشياء حوله إلى تسمية ذاته فلم يجد اسما يطلقه على نفسه إلاّ الصّرصر أو هو صَرَّارُ اللّيل أي الجدجد وهو حشرة كالجراد يصوّت في الليل وهو أكبر من الجندب وبعض العرب يسميّه الصّدى.  

فهل الشاعر هنا مجرّد صدى وهو الصوت الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها أي أنّه لا يفعل إلاّ ترديد ما يقوله الآخرون وما يشعرون به فيكون بذلك لسان قومه وها هنا مماثلة جوهريّة، الشاعر باعتباره صورة مصغّرة لمجتمعه. 

    أم يكون الصّدى بمعنى العطش. تقول العرب صَدِيَ الرّجل فهو صَدٍ وصادٍ والمرأة صَدْيَا.  

     فإذا كان الشاعر عطشان فإنّه يطلب الرِّوى، أي يطلب الماء كما فعل المسيح مع السّامرية. فهو إذ يطلب الماء يطلب الحياة. 

    أمام ما سبق إذن، يمكن أن نجيب عن السؤال الذي طرحناه في البداية، فنقول إنّ اللعبة لا تقتصر عند الشاعر على اللعب بالأسماء من أجل اللعب بل تتعدّاه إلى اللعب بالنّصوص أي أنّه يعود إلى نصوصه القديمة كما عاد إلى حياته القديمة، إلى أمّه وأخيه وجارته وأناشيده وغرفته وغيرها..

      فكما عاد إلى كلّ ذلك ليأخذ منه ما به يواجه واقعه المرّ، عاد إلى قصائده القديمة ومن لحمها شكّل جسد قصيدته الجديدة.

     فماذا نطلب من شاعر يبوح لك بأنّه مجرّد صرصر في حقّة سوداء لا يرى شيئا ممّا حوله إلاّ أن يغوص عميقا في ذاكرته يبحث فيها عن قطرات من الضوء والأمل؟؟؟

     وحال شاعرنا هي حال أغلب الشعراء العرب المقيمين في أوطانهم. فهل علينا أن نطرد الشعراء العرب من أوطانهم ليعودوا إلى طبيعتهم بلابل مغرّدة للحبّ والأمل والحريّة أم نتركهم، فيظلّوا صراصير في حقق زرقاء من خشب؟



منصف وهيبي //تونس

 ذكرى الشهيد شكري بلعيد/ ذكرى فيسبوكية

شكري بلعيد شاعراً… «أشعار نقشتها الريح»

11 - ديسمبر - 2014

لم ألتقِ شكري سوى مرّات قليلة جدّا، أقدمها في التسعينات في ملتقى «مدنين» الشعري، وكنت في رحلة إلى الجنوب مع الراحل الكبير عبد الوهاب البياتي. وآخرها مصادفةً في مطعم البوليرو في تونس في يونيو/حزيران 2012، قبيل استشهاده بحوالي ثلاثة أشهر؛ إذْ قمت حالما لمحته جالسا إلى بعض أصدقائه؛ وسلّمت عليه وبادلته ـ وهذا طبعي مع الذين أحبّهم ـ بعض كلمات المزاح عن حكّام تونس الجدد.

قلت له إنّي أفكّر في إعادة صياغة نصّ، عن «ليلى» أو «مندورا» التي هجرتْ عالم السيرك؛ لتدخل قصر الامبراطور الروماني جستنيان، حاقدة على الجوع ؛ وقد ذاقت مرارته. فقامت بتجويع شعبها الذي تجمهر أمام شرفتها؛ يسأل الخبز، وحشرته في ساحة عامة؛ ليأكل للمرة الأولى والاخيرة في حياته ما لذّ وطاب، ثم أمرت الجنود فأرْدوا الجياع بعد شبع بسهامهم في مجزرة جماعيّة.

في البداية التزم الصمت، بل نظر إليّ باستغراب؛ حتى إذا أدرك أنّني كنت أمزح، ضحك. كنت أتابع نضاله، وأفرح وأنا أراه يكتسب صفة المناضل العقلاني الواقعي، ويتحرّر من سطوة الإيديولوجيا، فقد تربّينا ـ وإن التحقت بالجامعة قبله بزمن طويل (1968) ـ في وسط يساريّ دغمائيّ «منغلق إيديولوجيّا» على نفسه، إذْ بهرتنا ونحن شباب، أحداث مايو/ايار 1968.

كان شكري، في الأشهر القليلة التي سبقت رحيله، جزءا من المعارضة العقلانيّة التي تقدّر المكاسب التي تحقّقت منذ بناء دولة الاستقلال، وتعمل على حمايتها وتطويرها، وتأخذ بالاعتبار قيمة التبادل الرمزي أو البعد الثقافي النوعي في ديناميّة الاستقطاب العالمي. كنت أقول صار لزاما علينا الآن أكثر من أيّ وقت، أن نتقبّل فتوحات الحداثة، حتى ونحن نسبح في مياه ثقافتنا، من أجل أن لا يبتلعنا الليل مثل الأساطير.

قلت عندما التقيت بزوجته بسمة في حاجب العيون، هي ورفاقها من حزب»الوطد»؛ عزاؤنا أنّ الحياة التي سلبوه وهو في عزّ كهولته، هي ـ على جلالها ـ فترة قصيرة. ربّما ليس فيها تلك الأعماق السحيقة التي يسترهبها الشعراء، ولا تلك الأبعاد الفسيحة التي يضلّ فيها الفلاسفة، كما قلت مرّة عن محمود درويش. ومع ذلك فقد وهبـَها لنا جميعا، بل وهبنا تونس «المنقسمة» على نفسها الآن؛ وعلينا أن نرأب جميعا صدوعها. هو الذي لم يفقد صوته في فوضى الأصوات، الذي يلمح الأبد في ثنايا الزّمن، الذي ينادي في كتابه الشعري «أشعار نقشتها الريح»؛ على قتلته واحدا واحدا، الذي يهبط سلّم الذّاكرة وئيدا، إلى حيث يرى آثار طلقاتهم في المنزه السادس؛ وجسده في أحضان زوجته، في صبيحة أربعاء باردة،؛ على حين يهبط الضّوء وئيدا ثمّ يعتم. ولكن يكفينا قليل من الضّوء القادم من ضريحه؛ لنرى فيه وجوهنا شاحبة كالبراءة، بريئة كالنّدم!

كتبت ثمّة شجرة خضراء رماديّة مثل عمود الإشارات؛ مثل تلك التي رأيتها في رام الله منذ بضع سنين، هناك في مقبرة الجلاّز. لابدّ أنّ طيور الدّوري في تونس، لاذت بها قبل هبوط اللّيل. ولقد سمعت هذه الشّجرة تغنّي عند أوّل خيط من الشّمس، وكان الكرز يحمرّ في عسله الأخضر!

شدّتني في هذه المخطوطة ـ وقد أطلعني عليه الكاتب والجامعي شكري المبخوت، وطلب رأيي فيها؛ ولا أدري لِمَ لَمْ تنشر إلى حدّ الآن ـ أكثر من قصيدة، بلغتها الطازجة، وبلاغة اليوميّ فيها والمعيش، وبعدها عن التهويمات الاستعاريّة التي تفسد الشعر، وتجعل منه مجرّد أزهار بلاستيكيّة. قصائد استكشافيّة تروم أو تسبر أفقا، وتضيق وتتسع بحسب الموضوع الذي تعالجه، لكأنّني وأنا أقرأ هذه القصائد، أنظر إلى صورتي في المرآة وأتملاّها وهي تنظر إليّ ولا تراني.. مزيج من شفيف العين وعتمتها.

هذه المجموعة التي كنّا ننتظر أن تصدر في ذكراه العامَ الماضي، تحتاج إلى وقفة غير هذه. أمّا وقد ائتمنني صديقي عليها، فأنا لا أملك سوى أن أخصّكم بقصيدة منها؛ (كتبها 20-2-89) على أن أعود إليها قارئا حالما تصدر؛ فأشير إلى المواضع القليلة التي أعملت فيها قلمي، وهي هَناتٌ عروضيّة بسيطة. رحم الله شكري. كان أكبر من الموت، كما يقول هو نفسه في هذه القصيدة: «قليلا من الوقت/ حتّى أرتّب وحديَ أسطورتي المقبلهْ».


دفتر الغريب


قليلا من الوقتِ

حتّى أرتّب مملكتي

فأنا متعب

وبـي شغف لجنون المساءِ

قليلا من الوقت

ها أنذا أستعدّ لأن تفتحي الباب

أو تدخلي كغزال الصّحارى

على وحدتي المهلكه

قليلا من الوقت

حتّى يمدّ دمي راحتيه

ويجمع عمر النساءِ

قليلا من الوقت

يا وردة سرقت فرحي

واختفت في تفاصيلها الخائفهْ

سوف أنشدها في العذاب

وأنشدها في حضور الغياب

وأنشدها في مسيرة عمْر الخراب

وأهجو جنوني على حافة الوقت

يا وردة ذابلهْ

قليلا من الوقت

كي أغسل الروح من لحظة خائنهْ

قليلا من الوقت

كي أزرع الموت في دهشتي

وأسمّي دمي ملكا

من جديد

وأذرو إلى الريح

امرأة هالكهْ

قليلا من الوقت

حتّى أرتّب مملكتي

ها هنا جسد للخريف

هناك قرنفلة مائلهْ

وهنا نهدها ينحني

ويغادر دمع النّزيف

على شفة حالكهْ

قليلا من الوقت

حتّى أرتّب وحديَ أسطورتي المقبلهْ




منصف وهيبي // تونس

 آفيرو (البرتغال) ذات خريف


في تـلـك الأيّام الأولى من سبتمبر

والشّمس هنالك لم تبرح برج العذراءْ

كان لسان البحر ينام كنهرٍ طفلٍ

في لثّـة آفيرو

وقوارب موليسيروس الفينيقيّـة ُ

رابضة في المينـاء

لم يستيقـظ أحـد من نزلاء الفندق،

في ذاك الأحد الدّافئ من مطر اللّيل سوايْ

وأنا أدفع في لـطف بابا دوّارا

وكانّي أتسلّـل من بين أصابع أمّي

نحو لداتـي

في باحة حارتـنا

لا أحدٌ عـنـد لسان البحر يراني

لا شيءَ لِيصغي لهسيس خطـاي

حتّى بلح البحر المـكسـور فـقـد ردمــتـه أقدام البحّـارة والمصطـافيـنْ

وقوارب موليسيـروس هنـالـك ما زالت

تتـرجّح في الفجر المبلول بيـوتا من مــاء

ثمّ كـأني أسمع أصـواتا طازَجـة تحـملها رائحة الملح،

كأنّي ألمح كهّـانا في زيّ ملائكـةٍ سودٍ،

يرسمهـم قـلم فحـميٌّ،

وظلالا بـيضا في قمـصان دون عباءات،

تـقفـز راجفة فوق رصيف الحاجزِ

نحو قوارب موليسيـروس قوارب أولاء الفينيقيّـيـن

(إنكليز الأزمنة الأولى)

ومضوا فـجرا

في أكواريـل الضّحكــات،

يديـرون صواريـهم ناحية الرّيح

أمـراء فـنيقـيّة في جلابـيـبهم

يـقطعـون صـنوبر بـيـبلوس

ذا خـشب لمراكـب ترشيش،

ذا للصّواري

وذا لـتوابيـتـنا

جفّ زيت الصّنوبر في الجلد،

(لكـنّ رائحة منـه، سوداء

كانت تضيء لنا وسط جبس الضّـباب)

قطـرات الـمطــر

لم تكــن غير أصواتـهـم

وهي تبـحث عن كلمــات أرقّ مــن المــاءِ،

حتــّى إذا لاحت الشّمــس ثــانية

أخذت تتسرّب في باطن الأرض

لائذة بالــحجــرْ

مطــر يتســاقـط

ثـمّ يرمّـم أجراس بــلّــوره بالغــبــار،

ويخــلطها بالــتّراب

لأقـولـنَّ عـن الأمطار إذنْ

ما قلت عـن الأشجــار قديــما

هي أيضا بــيوت، ولكنّها لسوانا

ولكنّ أحجــارها تتـنضّد إذ تـتــساقط

منــحـلـّـة في خيوط الهواء

سأقول: إذن هي مثل الشّجــرْ

فضلـة البحر منذورة لذوات الجناحين،

أرض لمــن يملــكون السّمـــاء

وأقول المــطر

لم يكــن غــير معمــار هذا الفــضاء

سـفينة تــرشــيش

رأس غــزال في مــقـدّم الـسّـفـينه

وذيــلها يـعـلو كـجـيد الـبجـعه

مـرتــفعــا إلـى الــسّــمــاء

وفـي يــدي عـــصا طــويــلة

بــهــا أجـــسّ نــبــض المـــاء


٭ ٭ ٭


قــلــت أســتـدرج الــبنــت وقــت الرّحــيــل

إلــى ســطــح تــرشـــيـــش،

حــيــن تُــفـكّ حـــبالُ المراســـي

بـنعـلــين مــن فــضّـــة،

وأســـاور مــن ذهـــب

ـ قــبــل ان يــطــفئ الــبحــر زرقــته الــبارده ـ

وغـــطــاء عــلى الرّأس فــي هــيـئة الباز

قــلـت: طــفــولــة آلـــهة هــشّـــة هــذه الــبــنت

تــخرج من رئــة الــبحــرِ‍‍‍‍

أمــســكــها مــن ذراعـــيــن يـكـــسوهــمــا زغــب الــبـنّ

قــلــت: أفــكّ فــراء الــثّـعــالب عنها،

أحــلّ ضـفائر مــن خرز ومحــار،

وأعــتــصر الــضّــوء فــي ضربـة الــرّيـــشــة الواحــده

بـــعــد حــيــن تـجيء

بـــعـــد حــيـن تــكــون الــحــراشــف أجــنــحــة،

بــعـــد حـــيــن يــكــون الــمثــلّـــث دائــرة ً

تــتــفــتّــح شــيــئا فــشــيــئا لـــه

وهــو يــســـقــط مــن نــفـــسه

وســـفـــينــة حـــانـــون ذي تــتــقــدّم

فـــي زبــدٍ وطــحــالــبَ يــجــتـرّهــا الــبــحــرُ،

مـــرفــوعــة فــي صــيــاح الــنّــوارس،

يــخــفــرهــا ســمـك طــائــر بـين مــاءيـن

حــتّــى الــتّــخــوم


٭ ٭ ٭


فـي أوّل فـجـر بـعـد الطّـوفـان

وطـأت قـدمـاي الـمـاء

لـم يـبـق مـن الـطـّوفان سـوى ذاكـرة المـلح الأعمـى

طـعـم طـفولـتـنا

لـم يـبـق سـوى ذكـرى الـعـشـبة

بـنت الـنّـسـيان الـبيـضاء

العـشـبه

فـي كـلّ مــكان تـنـبـت،

فـي الـرّمـل الـنّاعـمِ،

بـين شـقـوق الـصّـخـر عـظام الأرض الـصّلـبه

عـند حـواشـي الـطّرق المـأهـولةِ،

تـغـرز ساقـا

أو تـنـصـب فـخـّا للـرّيـح،

وتـصـغـي لـقوائم حـملان تـرعى

الـعـشـبه

بـنـت النّـسـيان الـبيـضاء

تـتـمـدّد فـي مـمـشى مـهـجور

فـي مـنزلـنا الـصّـيفـِي

أو تـبـزغ فـي حـاشية الـماء

تـتـسـلـّـق قـبر أخـي الـضّـائع بـيـن قـبـور

فـي لـشبونـة،

فـي مـنزل» فـرناندو باسّوا»

حــيث «أمالـيا» تـسـتـيـقظ فـي «الـفادو»

واللّـيل يـكاد يـجـنّح

فـي أذنـي كـلب أخـضـر بالـباب

يـتـتـبّـع رائـحة الـظـلّ،

ويـنـظـر فـي عـيـنـيه

حـيـث نـبـاتـيّـون إلـى مـائدة اللّـيل

نـبـيذ أخـضـر يـرشـح فـي الأكـواب

كـرز يـحـمـرّ بطـيـئا فـي سـكّـره الأخـضر،

أصـداف مـحـار فـي قـرمزهـا الـكـحـلي

حـيـث فـتاة ريـو دو جـانـيرو

فـي زيـنتـها الـغجـريّـة: عـقد من كرز خـشـبيٍّ، قـرط أزرقُ

فـي الأنـف، وقـرط أسـودُ فـي الـسّرّةِ،

تـستظهـر ضـحكـتـها

حـيـث الـعـشـبة مـن نافـذتي

فـي أفــق مــن أعــشاب

بـفم أخــضــر، تـجـتـرّ الأرض علـى مـهل وتـدور

كـنّا نـحـن جـمـيعا

الأخـضر والأحــمر

والأزرق والأســود

والـعاشـب واللاّحـم

أطــفالك أيّـتـها العــشــبة

يــا صــانــعة اليــخــضــور

حــديــــث نّــهــر»الدورو» البرتغال

لا تــستـغــرب أن آخــذ والـنّــهـر بأطــراف حــديــث ما

أن تــصـطـفـق الأبــواب بلا صــوت،

ويــهــلّ عــلــيـنا زوّار غــربــاء

أن تــقــفــز نــحــوي أســماك بــحــراشـف أو أجنحةٍ

أســماك كان يلاعبها «سعدي يوسف»

أسماكٌ كــانت تــبلـغ أعــتاب بــيوت البصرةِ

أن يــضــحــك مـنّي صـرّار ذهــبيّ أخـرجه «فتحي النصري»

مـن أحـقـاق طـفولــتـه

أن تــرقص حــولي فـاخـتة بــجــناحـيها المـقــصوفــيـن،

وتــسألــني عـكّازا كــي تــقــطــع نــهر الدّورو

أن يــنــضو حــلزون مــعــطــفه المــطريَّ، ويــنزل أدراج المـاء

أن يـتـوافى «أحمد عبد المعطي حجازي» وقـطاه الـنّـهر معا فـي شَرَكٍ

كـان يـجـاذبـه، يــسأل إن كـان لـه أن يـسـتهـدي

بالـنّـجم الفـيـنـيقيّ إلى مــصر

أن يــأتي «شوقي بزيعٌ» فــي هــيـئة أوزوس الـصّـيّادِ،

ويــلقــي جـذعا فــي الــنّــهر

ثـمّ يــجــذّف دون يــديـن

ويــقــول: مـلاحـة يـوم لا غــيـرْ

كـي أبــلــغ صُــورَ، وأرفــع للنّـار وللرّيــح عــموديـن

أعــرف لا ثــعــبانٌ فــيــها يــحرس زيــتــونة عــشــتارت، لا نــسرْ

صُـورُ المشــطورة بــيـن جزيرتــها والـشّـاطئ،

صُــورُ الـطّافــية الآن عــلى الــبــحرْ

أن يـفـتح «علي أحمد سعيد» بابا فـي شـجـر المرْ

يـخرج منه أدونيسُ ويخرج فـيـنـيـقـيّـون بـقـطّ وحـشيّ أو فـهد أو ثـور أحـدب،

أن يأتي مـعـهم، عـبر موانئهم مـتعاقبة طـول الـسّاحل «محمد علي شمس الذين»

يـنحت سـلّـمه فـي الـصّـخـر

أن يـأتـي «محمود درويش» بجـداريّـته

أن يصعـد نـحو سـماء تـحـلج قـطنا

وجبال عـطور تـترجّح فـي الرّيح

أن يـتـعـب هـذا الـجــسر

هـذا الـجاثي فـوق الـدّورو مـنذ سـنـيـن

أن يـرفع ركـبـته الـيمنى حـينا أو ركبـته الـيسرى

أن تجيء الـحـياة

هـكذا فـجأة

تــنـحــني فـوقـنا

وتــقــبّـل مـا بـين أعـيـننا

ثـمّ تـتركــنا وحـدنا للحـياة

هـذي أشـياء تـحدث يا أوجينيو دو أندراد

حـين نـكون وحـيدين على مقـعدنا

مـتّـكـئين قـريـبـا مـن نــبـض الــنّهـرْ


مـطــهــر دانــتــي


يــــدُ مـــن فــي الـغــمام؟

أهـي الـشّـمس تــضــبط أوتــاره مرّة،

ثـمّ تــرخــي لهـا مـرّة؟

أم هـي الـرّيـح لائـذة بالـشّـجـر؟

يـد مــن فـي الـغـمـام؟

مـطــر يــتـخــلـّــل نــومـي

وأنـت إلى جـانـبي

وأنـا بـيـديـن مــن الـغـيم،

كـنـت أفــكّ فــراء الــثّــعـالـب عــنـك،

وأمــســح ريــش الــنّـعـامْ

والمـــطــرْ؟

يــتــريّــث أم يــتــعـجّــل

هــذا المـــطــرْ؟


فــي الـقــطـار إلى أفــيـرو


قــلت هـامـسـة:»ســوف نــنــزل قــبل مــحــطّـتـنـا

لا أحــبّ الأخـيـرةَ، أعــرف أنّ لــكـلّ مــحــطّـتـه حــيـث يــنزلُ،

وهــي الأخــيـرة! لـكـنّـها لــو يــفــكّـر لــيــسـت ســوى الــموت

يــســتــقــبــل الـقادمــيــن، ويــحـمل عــنهم حــقائــبـهم

وهـو يــغــمــز للـذّاهــبــبيـن

ثــمّ ضــاحــكـة: لا حـدود هــنا لــجــهــنّـم

ثــمّــة درب صــغــيــر يـؤدّي إلى الــبــيت. كــيف أســمّــيــه؟

ســوف أسـمّــيـه مــطــهــر دانــتـي

مــرايـا مــحــدّبــة أو مــقــعّــرة مـــثـل مــوتـي ومــوتـك،

حــيــث لــنا أن نــرى جــسـديــنـا بهــا

حــيــث نــسـلـخ أشــبــاحنا ونــحــبْ

حــيــث نــنــسى ولو مــرّة مــا تــقــول الــكــتــبْ


هـــو:

ثــمـّــة خــــيــط مــا بــيـن الــعــطــر وهــذا اللامــرئي

ســمّــيــه مــا شــئت! اللّه أو الـمـطــلـق

لا نــبــصــره، وعــلــيــنا أن نــتــشـمّـمــه فــي عــطــر

أو فــي مــجــمــرة ســوداء

: هــي

لا أذكــر مــنه ســوى مــا كــانت تــحــكــيه لــنا أمّي

مــن قــصـص الـجـنّ، لكنّي لـم أسـألـهـا إذ كـانت

تــأتـي مــثــقــلـة بـهـدايــاها إلاّ عــن بـابا نــويــل.

مــن يــتــخــفـّـى فــي لـحــيـــته الــبــيــضاء؟

قــطــرات الــمــطــرْ

لــم تــكــن غــيـر مــاء الــحــجــرْ

يــتــســاقط

فــيــما أنــا واقــفٌ

أرقــب الــصّــحو يــمــطر فــي غــيمه

والــحــديــقـة تــفــتح نــافــذةً،

ثــمّ ثِـــنْــتــيـْن،

ثــمّ ثـلاثَ نــوافــذَ،

ثـــمّ مـئــات الــنّــوافــذْ

غــيــر أنّ الـسّــمـاءْ

مــن مــشــبّـك بــيــتـك

أوســع مــن كـلّ هــذي الــنّــوافـذْ

شــبــكــتْ يـديــها

كــي تــريـح الأرض مــن دورانــها

قــالـت: ســأجـلــسـهــا قــلــيلا

ثــمّ أتــركــها لشـأنــي

الــشّــمــس مــا زالــت هــنــالـك عــند بــرج الـدّلــوِ

لــي مــن صـيــفــها عــســل الــبراري فــيــك،

لــي يــنــبــوعــهــا الــكــحــليُّ،

لــي شــهواتــهــا

ولــسـوف تــعــطــيــني فلا أرضــى

ســأرقــص كلّ لــيلـي.. كــلّــه

وأدور حــــولـــي

أمّــا أنــا

فــكــعــادتــي مــا زلــت مــحــتــفــظا بــعاداتــي

وحــالاتـي عــلى حــالاتــها

لا تــعــجــــبي

إن جــئـتــكم مــتأخّــرا

فــي هـــامــش مــن لـــيــل

هــي عــادة الــشّـــعــراء حــتّــى لا يــكــونــوا وحــدهــم

لـــو بــكّــروا

لا تــعــجــبي

إن جـــئــتــكم عــنــد انــتــهاء الحــفــل


٭ ٭ ٭


بــاب دوّار لـم نــعــرف، حــين دفــعــناه

أكــنّـا نــدخــل أم نــخــرج

بــاب كالــنّـوم يــدور بــنا

فــيما أصــعــد فــي عــطــر الــفـانــيــلـيـا

أو أهــبـط فــي رائـحــة الــفـطـر اللّـبـني،

والــباب يــدور بــنا فــي مــنــعــرجــات اللّــيل،

لــيــقــذفــنا فــجــرا

مــنـــهــوكــيــن عــلى الأعــتــابْ

هــل كــنّــا نــتــقــدّم أم كــان اللّــيل إذن؟

أم كــنّــا هــذا الــبــاب!؟



منصف الوهايبي// تونس


 الحلم مكتوبا :       الحلاّج مثالا


 "الحلم نشاط دماغي غير مُراقب. يقول العلماء إنّ الانسان ينفق ما يقرب من 10% من حياته أحلاما وكوابيس طبعا". 

على أنّه «مراقب» في الكتابة الأدبيّة. من ذلك ما نقف عليه في المخيال الإسلامي، حيث ينهض تعبير الأحلام بوظيفة مهمة في الحياة الدينيّة «الاستخارة». وكان من الطبيعي عند المتصوّفة أن يحلم المريد بمعلّمه بعد موته، وأن يسأله عمّا صنع الله به. وفي حال الحلاّج تشكّل هذه الأحلام موضوعا أدبيّا لا يخلو من غرابة. ولعلّ في هذا القليل الذي أسوقه منها، ما يعزز وجهة نظرنا فيها من حيث هي شطح صوفي أو تعبير، أي تفسير؛ خاصة أنّها ليست بالملتبس المضطرب الذي يصعب تأويله. نقول هذا على الرغم من أنّ الفهم قد لا يكون ضروريا، من منظور صوفيّ خالص؛ فالصوفية وهي المعقودة على الوجدان والذوق والإلهام، تقدّم الانفعال على الفهم. على أنّه ما يسلك حالمان اثنان في طريق واحدة، وحظّ هذا من الوضوح أو الغموض، ليس حظّ ذاك. ولعلّ الجامع بينهما هذه الكتابة «المرحة» التي تطعم العربية بروح جديدة، وتحمل النصّ على دلالات الكشف وسبر المجهول وغبطة السفر، أو الرحلة ومتعة الكتابة، حيث الحلاّج في هذه الأحلام، صورة من بوذا «المغتبط بالأبدية».

 قال الشبلي: «استخرت الله ذات ليلة، صلّيت فيها عند مقام الحلاّج حتّى الفجر؛ فسألته وكان الفجر قد طلع: يا ربّ كان الرجل من عبادك، مؤمنا بك، حكيما شاهدا على وحدانيتك، وواحدا من أوليائك، فلماذا حلّت به هذه النكبة؟ ثمّ غلبني النوم، فرأيت يوم البعث؛ وقد قامت الساعة، وانتصب الميزان؛ فسمعت صوتا يصيح: إنّه عبد من عبادنا، أذنّا له بأن يدرك سرّا من أسرارنا؛ لكنّه ادّعاه لنفسه أمام الناس؛ فأنزلنا به ما رأيت». وقال الشبلي: «رأيت حسينًا بن منصور في المنام بعد قتله. قلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أنزلني وأكرمني. قلت: في أيّ محلّ أنزلك؟ قال: في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدِر. قلت: ما فعلَ بهذا الخلق؟ قال: قد غفر للطائفتين: المشفقين عليّ، والمعادين لي. فأمّا من أشفق عليّ؛ فلأجل أنّه عرفني فأشفق لله؛ عليَّ. وأمّا من عاداني، فلأنّه لم يعرفني؛ فعاداني لله أيضا. فكلّهم معذورون وأصحاب فضائل».

ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته. وكان ذلك بعد تعذيب شنيع؛ في مشهد رسمه كأبلغ ما يكون المستعرب الفرنسي لويس ماسينيون في مصنّفه الشهير «آلام الحلاّج» وكأنّه شاهد عيان ينقل الحدث بكلّ تفاصيله وشوارده. ولا أحبّ هنا أن أعود إلى هذا المشهد، وما أعقبه مثل منع الورّاقين وهم بمثابة الناشرين اليوم؛ من نسخ أعماله، وإجبارهم على حرق كلّ ما بين أيديهم من النسخ الأصلية؛ وإنما إلى ناحية لم أجد من اعتنى بها، على غرابتها، وأعني أحلام مريديه وتلاميذه أو رؤاهم التي كان الحلاّج بطلها أو «المحلوم به». وكان الدافع إلى مثل هذه الأحلام السؤال ما إذا كان المقتول قد قُتل (بأجله) المقدّر أم لا؟ وهو السؤال الذي كان الحسن البصري أوّل من طرحه على ما يبدو؛ في مسألة الأجل والأرزاق، كلّما تعلّق الأمر بقتل مؤمن بيد مؤمن آخر. بيْد أنّه لم يقطع فيه برأي أي هل الضحيّة شهيد أم هل هو مرتدّ؛ وهو الذي لم يمت بأجله في الحالين.


ومأساة الحلاّج أشهر من أن أذكّر بها: صلبه (26 مارس/آذار 922م) وتقطيع أطرافه وحرقه سوى الرأس الذي حفظ في «خزانة الرؤوس» في قصر الخليفة؛ ثمّ طِيفَ به في خراسان لإقناع مريديه بموته.


والأمر هنا أشبه بتعبير الحلم أي تفسيره، فهو لا يتكوّن من صور الحلم وإنّما من سرد الحالم لها، أي أنّ الصور الحلمية التي تمثل قاعدة التعبير أو التفسير ليست صور الحلم «محلوما» ؛ وإنّما تلك التي يرويها إنسان مستيقظ، ويستدعيها من حيث هي حمّالة معنى. والأصوب أن نقول إنّه يتمثّل محتوى الصور المستدعاة في سرده، من حيث هو معنى لا صورة. على أنّه معنى ظاهر مرتهن بمعنى باطن؛ وكلاهما لا يوجد إلاّ بوجود قرينه. لكن من غير أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل، كأن نقرّر أنّ الصورة الغريبة، شأنها شأن الحلم، ليست إلاّ ذريعة من بين ذرائع شتّى يتّخذها الحالم لتجميعات حرّة مرسلة غير مقيّدة. فإذا كان سرد الحلم متمكّنا من الحلم، دون أن يكون هذا ذاك، فإنّ قراءة الصورة متمكنة من الصورة؛ لكن دون أن تكون هذه تلك. وأيّ تراسل مفترض بينهما إنْ هو إلاّ باطل خادع. والأمر في حال الحلم، أو بعبارة أدقّ عند تعبيره أو تفسيره، راجع إلى تباين بين وضع «حلميّ» ووضع «يقظ». ففي اللّحظة التي يتكلّم فيها الحالم، فإنّ العبور من النّوم إلى اليقظة عبور من نمط من الإدراك إلى نمط آخر. والمسألة هنا لا تتعلّق بتعبير مجازيّ وإنما بقانون فينومينولوجيّ (ظاهراتي) فبنى الإدراك الحلميّ تتعارض والإدراك الواعي.

لنقل إذن، إنّه مثلما تتبدّد صور الحلم ومعها «الفضاء» الذي كان يضفي عليها هيئة، حالما يتحوّل الرّسم الجسميّ، وينشرخ استقلاله بذاته، بأوّل خروج من الذّات؛ يضع المستيقظ في وضع تمكّن أو وعي، فإنّ القراءة، إذ تعبر من نصّ إلى نصّ يمكن أن تكون هي أيضا فعل تبديد أو مراوحة بين معنى ينشده المنشئ (الحالم) ومعنى يؤدّيه القارئ؛ فلا تكون لصورة الأوّل البنية نفسها التي لصورة الثّاني. وكثيرا ما تترجّح القراءة، بسبب من ذلك، وتظلّ «مقبوليّة» المعنى معلّقة مقدّرة؛ بل إنّ الصّورة تمّحي في المعنى الذي تُضِيفه القراءة إليها أو تُضْفيه عليها. ذلك أنّ التّفسير يقتصر على وضع «المعنى» في علاقة مباشرة مع صيغة تعبيره، أو مع البنى القوليّة المخيّلة التي تدلّ عليه، وكأنّ الصّورة قول مركّب لا يسلّم فيه بالمعلول إلاّ إذا لزم عنه لذاته علّة. وربّما غفل البعض عن أنّ هذه البنى وقد «تحيّنت»؛ لا يمكن أن تعني ما هي عليه في النصّ، فالمعنى يتحوّل وينتقل من/ إلى أي من حلم إلى تعبيره أو تفسيره، وأنّ ما يعدّ معنى أصليّا يدير عليه الحالم صورته، إنْ هو إلاّ نواة المعنى وليس المعنى الصوفي الذي يغنيه السياق ويبدّله تبديلا. وهو في الحلم المعنى الباطن الماثل في موضوعه وليس المعنى الظاهر، على الرغم من أنّ الاثنين، في ما يتهيّأ لنا من هذه الأحلام التي نحن فيها، قطبان لمعنى واحد يصعب أن ندركه، إلاّ من حيث هو وجهة معنى أو توطئة لمعنى.

والأمر، من وجهة نظر حديثة، أقرب ما يكون إلى «النقد الظاهراتي» أي (الفينومينولوجيّ) الذي يذهب واضعوه إلى أنّ العمل الأدبي ينهض على أفعال قصدية من شأنها أن تفسح للقارئ معايشته عبر تداخل بين تجربة الكتابة وتجربة القراءة. ذلك أنّ هذا العمل عالم خيالي ينبثق من العالم المعيش، ليجسد وعي صاحبه. وهذا الوعي ليس مستقلاّ وإنما هو دائما «وعي شيء ما». على أنّه في الأدب وعي فريد أو هو وعي فرد بعينه. وهو من ثمة على وشيجة بذات كاتبة، لكنّه موصول، على نحو من الأنحاء، بشكل من الوعي العام المهيمن على حقبة تاريخيّة بأكملها. وهذا ما يجعل التّواصل الوجدانيّ الحاصل بين القراءة والعمل المقروء، تواصلا واعيا مدركا لاختلافه، بحكم أنّ النصّ يظلّ مثل صاحبه مختلفا أو غريبا. وربّما كان الحلم قراءة مخصوصة؛ أي عملية إبداعية أو عملية محاكاة تجاري فيها لغة القراءة لغة الكتابة.

والمقصود ها هنا نمط الظاهراتيّة المخصوصة بالقارئ أي ما اصطلح عليه «جماليّة التلقي» التي تعتبر العمل الأدبي إجابة عن أسئلة موضوعة من خلال «أفق التّوقّعات» وحاصلها أنّ تأويل العمل ينبغي أن لا يكون محوره تجربة قارئ خاصّ (مستقل) وإنما تاريخ تلقي العمل في علاقته بالمعايير الجمالية المتغيّرة؛ بما يجترح شتّى التّوقّعات التي تجعل العمل قابلا للقراءة في مختلف الحقب. على أنّ السياق الذي نحن فيه، يمكن أن يحيل أيضا، على ما يسمى «نقد استجابة القارئ» الذي يحلّل الكيفيّة التي ينتج بها القرّاء المعنى، توقّعا وتخمينا. والرّأي الذي نذهب إليه أنّ قرّاء الحلاّج، إنّما هم المتصوّفة أو الشّعراء، الذين ترسّموا طريقته أو تقيّلوا مذهبه مثل الشاعر الهندي عبد القادر البديل (ت 1720):

في نخلستان [بلاد النخيل] حيث الحسّ يثمّن الأشياء

لا يمنحُ الخيالُ الوضيعَ سوى فاكهةٍ فجّة

إنّ قطفَ لوز اليقين، غير ميسور؛ وهو الألذّ

إنّما هو كرامة باركت الحديقة من دم الحسين بن منصور

أو من المعاصرين الذين «وظّفوا» نصّه (صلاح عبد الصبور وأدونيس وعبد الوهّاب البيّاتي). على أنّ هذا مبحث قائم بذاته.


منصف الوهايبي

كاتب وشاعر تونسي

مراد القادري // المغرب الثقةفي

 كلمة بيت الشعر في المغرب في نعي الطفل ريّان

 


شكرًا لك ريان... شكرا للقصيدة التي ضفرتها في بئرك الدفينة


تابعنا في بيت الشعر في المغرب حادثة الطّفل ريان، الذي سقطت طفولتُه الريّانة في قعر الجبّ. خمسة أيام وأنفاسُنا مشدودةٌ إلى أنفاس هذا الطفل، الذي كان الهواءُ يضيقُ على رئتيه، فيما العالم أجمع كان مستعدَّا ليمنحَه كلّ أوكسجين الأرض، علّه يُعينُه في عُـزلته وغربته تلك التي عاشها بعيدًا عن والديه، قريبًا من أكـفّـنا التي كنا نرفعُها، صباح مساء، بالدّعاء ليعودَ إلينا كما عاد يوسف إلى والديه.      

خمسةُ أيام كانت كافية ليعيشَ في قصيدتنا هذا الطفلُ ابنُ الخمسة أعوام، ليعيشَ العُمرَ كلّه، حاضرا ريّانا، بعد أنْ نجح في توحيد العالم، وحشْد الانتباه لحالة طفولتنا في اللحظة التي يدفعُها فضولُ الاكتشاف، وغيابُ مرافق اللعب، نحو غياهبِ المجهول.

إن بيت الشعر في المغرب، إذ ينعي قصيدتنا البكر هاته، التي لم تجد طريقها للإيناع، يتقدم بخالص العزاء و صادق المواساة لوالدي الطفل ريان، شاكرا و مقدّرا الجهود التي بذلتها  أيدي  الإنقاذ المغربية التي هزمت الجبل، واستعادت من جوفه ابننا ريان، ليرقد في حُفرة أخرى حيث يُمكنُ الترحم عليه، وتركُ وردة على قبره، تمدّ عروقَها بالطيب إلى جسده المنهك الصغير. 

 كما نشكرُ في بيت الشعر في المغرب كلَّ من شاركنا الأمل، و تقاسمَ معنا الألم، خلال هذه المحنة التي وحّدت البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وأكّدت، بجلاء، الحاجة المستمرة إلى ما يوقظ المشاعر الدفينة في قعر الإنسان، و يبعثها من جبّ اللامبالاة نحو سطح المعنى والحياة.  

شكرًا لك ريان... شكرا للقصيدة التي ضفرتها في بئرك الدفينة، والتي عبَرت معك النفق نحو وجداننا وذواتنا، فغسلتها بالماء والضوء. 



إنا لله و إنا إليه راجعون....