الثلاثاء، 18 يناير 2022

محمد قجة

 الصديق 

المفكر الدكتور جابر عصفور ...

ورحلته الأخيرة 



قبل عدة ايام ، وتحديدا يوم 31/ 12 / 2021 رحل عنا الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق في مصر لعدة اشهر ، ثم استقال وعاد الى عمله الفكري والأكاديمي عام 2015 .


 1 - تعود معرفتي بالصديق الراحل الى اثنين وعشرين عاما ، حينما كان الامين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر ، وقد وجهت اليه الدعوة ، وذلك لحضور ندوة دولية حول " الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي " التي نظمناها بالتعاون بين جمعية العاديات في حلب وجامعة حلب ومعهد ثربانتس الاسباني .


  2 - وقد لبى الدكتور جابر عصفور الدعوة , ووصل الى حلب ، وقال إنها المرة الاولى الني يزور فيها مدينة حلب ، وقد مكث عدة ايام قمت خلالها بمرافقته الى جولة في حلب القديمة وقلعتها وآثارها ، وقدمت له  هدية مجموعة من الكتب التي تصدرها جمعية العاديات بالتعاون مع جامعة حلب ، ومنها كتاب " عاديات حلب "


3 - وكنت حريصا على زيارته في مصر خلال زياراتي المتكررة ، وكان حريصا على إهدائي الكتب من تأليفه ، او من اصدارات المجلس الأعلى للثقافة في مصر .

وقد تبادلنا الرسائل غير مرة ، وهذه احدى رسائله ، وتعود الى عام 1999 بعد عودته من زيارة حلب  ،


4 -  رسالة من الباحث والمفكر

الدكتور جابر عصفور

الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مصر


( السيد الأستاذ/ محمد قجّـة

تحية الاحترام،


تلقيت بالتقدير رسالتكم الرقيقة، التي أعادت لنا ذكرى لقاءاتنا الطيبة معكم، والأخوة الأصدقاء في سوريا. 

والحق أنني لن أنسى الوقت الجميل الذي قضيته معكم، ولا المعلومات الكثيرة التي أفدتها من خبراتكم الهائلة بالآثار (العاديات) وأضف إلى ذلك كله جولتنا حول منزل المتنبي. 


وثق يا صديقي العزيز أن ذكرياتي عن حلب الشهباء أصبحت مرتبطة بمعرفتك القيمة بها. 

ولذلك اسمح لي أن  أشكرك على دفء مشاعركم، وطيب وفادتكم، راجياً لكم التوفيق الدائم، وآمل أن نلتقي في المناسبات ثقافية عربية أخرى.


ومع طيب تمنياتي لشخصكم الكريم، لكم تحياتي 



     القاهرة 5/9/1999 

محمد قجة

 "الشريف الإدريسي" 



رائد الجغرافية التاريخية والحوار الحضاري 


هذا المقال له حكاية طريفة ، قبل عدة سنوات تلقيت دعوة للمشاركة في مؤتمر علمي في البرتغال حول علم الجغرافية في الجناح الغربي من العالم الإسلامي،  ونظرا لإشكالات التأشيرات والطيران فقد اعتذرت عن السفر ، وارسلت البحث لكي يقرأه احد الأصدقاء من منظمة الزهراوي للثقافة التي نظمت المؤتمر ، ويغطي نشاطها المغرب واسبانيا والبرتغال .


 1 - مدخل تاريخي:

بقي البحر الأبيض المتوسط مركز الحضارات العالمية منذ فجر التاريخ حتى القرن التاسع عشر، فعلى شواطئه، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، قامت حضارات الشعوب منذ الألف الرابع ق.م، وتمازجت تلك الحضارات وتنافست، ونشأ بينها الحوار تارةً والصراع تارةً أخرى. وكان لا بد أن تمتد كل حضارة في اتجاه الأخرى، وهكذا وجدنا الفينيقيين في شمال أفريقيا وشبه جزيرة أيبريا منذ الألف الثاني ق.م، والفرس الأخمينيين في شرق المتوسط وبلاد الإغريق منذ القرن السادس ق.م. ثم جاء الدور للامتداد الإغريقي الواسع منذ القرن  الرابع ق.م، وتلاه الرومان، ليغدو البحر المتوسط حوضاً ملحقاً بالحضارات الأوروبية لعدة قرون.



2 - ومن جديد تدور عجلة التاريخ، ويستردّ شرق المتوسط حيويته مع الحضارة الإسلامية بردائها العربي منذ منتصف القرن السابع، وتستطيع هذه الحضارة أن تنطلق عبر قارات العالم القديم، آسيا وأوروبا وإفريقيا، في زمنٍ قياسيّ مدهش، كما تستطيع أن تستوعب الحضارات السابقة في إطار من المرونة والاعتراف بالآخر، والبحث عن الحكمة أينما وجدت.

وخلال عشرة قرون من عمر الزمان، تسميها أوروبا العصور المظلمة، كانت الحضارة الإسلامية تشرق وضّاءةً حول العالم في مراكز إشعاع كثيرة، مثل دمشق وبغداد وقرطبة ومراكش وأصفهان وبُخارى والقاهرة وإشبيلية وفاس، وعشرات سواها. ومع الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، وآفاق التسامح وقبول الآخر وحركة الترجمات الواسعة، انطلقت حركة التطور في العلوم والبحث على مستويات عليا، ونضجت المدارس الفلسفية والكلامية ومدارس العلوم الإنسانية والعلوم البحتة والتطبيقية. وكان من نتيجة ذلك توالي بروز أعلام الفكر والتأليف العلمي والموسوعي منذ بدايات القرن الثامن، وتوزّع العمل العلمي على سائر ألوان المعرفة، ومنها علم الجغرافية.

*****




3 - علم الجغرافية لدى علماء المسلمين:

قبل أن تصبح الجغرافية علماً له نظرياته وأسسه الفلسفية وتحقيقاته وتعليلاته، وارتباطه بعلوم الرياضيات والفلك والتاريخ والرحلات، كانت الجغرافية تقوم على علم التصوّرات الخيالية البدائية للأرض والكون، وعلى الأساطير المتوارثة التي تحاول تفسير نشأة الكون وتطور الأرض ومسيرة الحياة عليها.


ومع القرن الهجري الثاني تبدأ بعض الإشارات الجغرافية في الكتابات التاريخية، بما ترصده من سرد حوادث ووصف أقاليم. ومن أصحاب هذه الكتابات المبكرة: "وهب بن منبّه" (ت 114ه-732م) و"عروة بن الزبير" (ت 94ه-712م) و"شرحبيل بن سعد" (ت 123هـ) و"الزهري" (ت 124ه-741م).


وفي القرن الذي يليه: "الواقدي" (ت 207هـ) و"المدائني" (ت 225 هـ) و"البلاذري" (ت 279ه). وفي هذا القرن يأتي "اليعقوبي" في كتابه (البلدان) الذي يعتبر فاتحة كتب الجغرافية التاريخية في التراث العربي. ثم تليه أسماء أخرى "كالدينوري" (ت 288ه) و"المروزي" (ت 274ه) و"ابن خرداذبه" (ت 312ه).



ومن المعلوم أنَّ عصر الخليفة "المأمون" شهد النهضة العلمية الجبارة وتأسيس (بيت الحكمة)، وفي هذا العصر وضع العلماء المسلمون صورة الأقاليم الجغرافية بعد اطلاعهم على معارف الإغريق والفرس والهند.

وتتوالى المؤلفات في التاريخ الممزوج بالجغرافية، أو مؤلفات الجغرافية التاريخية، أو الجغرافية المتصلة بعلوم الأنواء وطبقات الأرض والفلك والرحلات. قبل أن نصل إلى الجغرافية الوصفية الكاملة لدى مؤلفين متخصصين في هذا الميدان. وأبرزهم على الإطلاق "الشريف الإدريسي".




4 - ولعل أبرز الكتب التي نلمح فيها معالم الجغرافية التاريخية هي: 

- (صورة الأرض) للخوارزمي (ت 232ه-846م)

- (صورة الأرض) لابن حوقل (ت 356ه-967م)

- (أحسن التقاسيم) للمقدسي (ت 390ه-1000م)

- (مسالك الممالك) للاصطخري (ت 300ه-912م)

- (مروج الذهب) للمسعودي (ت 346ه-957م)


والأمر نفسه نلاحظه في كتابات "إخوان الصفا" و"البيروني" ورحلة "ابن فضلان".


أما في الأندلس، فمن بواكير التأليف في الجغرافية التاريخية والوصفية:

- (المسالك والممالك) للبكري (ت 487ه-1094م)

-  (كتاب الجغرافية في الأقاليم السبعة) لابن سعيد الأندلسي المغربي (ت 674ه-1275م) وهو نفسه صاحب كتابَي (المُغرب في حلى المغرب)، و(المُشرِق في حُلى المشرق).


 وفي القرن الثامن الهجري يأتي "ابن خلدون" في مقدمته وكتابه (العِبَر)، و"لسان الدين بن الخطيب" في جملة أعماله، وبخاصة (الإحاطة في أخبار غرناطة)، و(نفاضة الجراب) وبقية المؤلفات.

*****


 5 - "الإدريسي" الرجل والعصر:

مع نهايات القرن الهجري الخامس، وامتداد القرن السادس، شهد الجناح الغربي للعالم الإسلامي أحداثاً هامة، كان بعضها حاسماً في تقرير المصائر وتغيير مسار الأحداث، فقد سقطت دول ملوك الطوائف في الأندلس، وتولى المرابطون بعد معركة الزلاقة شؤون الأندلس، ولم تدُم دولتهم طويلاً، لتقوم على أنقاضها دولة الموحدين القوية المترامية الأطراف.

ورغم انحسار الدور السياسي لقرطبة، فإنها بقيت مركز العلم والفكر والمعرفة في غرب العالم الإسلامي، ومن أهم رموزها الحضارية في ذلك العصر "ابن رشد" في فلسفته العملية العقلانية، وأثره الحاسم في مسار الفكر البشري، وتأثيره المباشر في عصر النهضة الأوروبية. وعلى الجانب الفكري الآخر شهد القرن السادس الهجري ولادة الشيخ الأكبر "محيي الدين بن عربي" الذي  يمثّل (العرفان) في تاريخ الفكر الإسلامي في مقابل (البرهان) الذي يمثّله "ابن رشد".

كانت جزيرة صقلية قد خرجت من يد المسلمين واستولى عليها النورمان، وفي هذه الجزيرة كانت للإدريسي محطة هامة في حياته العلمية.


ولد أبو  عبد الله بن محمد الحمودي بن عبد الله، الشهير بالإدريسي، في عام 493ه/1100م. وتنتسب أسرته إلى الشرفاء الأدارسة، ويعود أصل عائلته إلى "إدريس الأول" مؤسس الأسرة، والذي هرب من المشرق وأسس إمارةً مستقلة في منطقة الريف عام 172ه/789م. ولا يزال ضريحه المشهور بـ (مولاي إدريس) يتمتع بصيتٍ كبير لدى أبناء المغرب. أما أجداد "الإدريسي" المباشرون فهم "بنو حمود" أمراء مالقة في عصر ملوك الطوائف، وهناك أيضاً عجزوا عن الاحتفاظ طويلاً بسلطانهم فاضطروا للعودة إلى سبتة في القرن الحادي عشر. وهم من سلالة ادارسة فاس الذين ينتهي نسبهم الى الحسن بن علي بن أبي طالب. 


ولكن صلة عائلته لم تنقطع بالأندلس، فانتقل وهو ما يزال صغير السن إلى قرطبة، التي ظلّت مركزاً ثقافياً كبيراً، وفيها نشأ وتلقى العلم في جامعتها، ودرس هناك العلوم والرياضيات واهتم بدراسة التاريخ والجغرافيا، وقد عرف "الإدريسي" قرطبة معرفةً جيدة، لأن الوصف الشامل الذي أفرده لها في كتابه يضمّ كل انطباعات المعرفة المباشرة بهذه المدينة.


6 - وقد بدأ "الإدريسي" أسفاره في سنٍّ مبكرة، فاستطاع أن يزور مناطق قلَّ مَن عرفها في ذلك العصر، وإذا كانت معرفته الواسعة بأسبانيا والمغرب ليست بالأمر المستغرب، فإننا نستشفّ من خلال مطالعة كتابه أنه زار لشبونة وسواحل فرنسا وبعض مدنها الهامة، بل وأوغل حتى الجزر البريطانية بعد أن سبق له زيارة آسيا الصغرى، وهو لمّا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وذلك في عام 510ه/1116م.


وفي عام 1138 عبر البحر بناء على دعوة من الملك النورماندي "روجر الثاني"، قاصداً (بالِرْمُو) عاصمة صقلية، التي جعل هذا العاهلُ منها مركز دراسات لامعاً جداً، حيث كلّفه بتصنيف كتابٍ شامل في مملكته وسائر الأصقاع المعروفة في ذلك العهد، وبوضع خريطةٍ لما عرف من الأقطار في القارات المعروفة. 

وقد ظل "الإدريسي" وثيق الصلة بالملك "روجر" إلى وفاة الأخير في شباط من عام 1154، بعد أن أنجز له كتابه الشهير (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) في سنة 518ه/1123م، وظلّ الكتاب يُنسب إلى أمير البلاد فيقال "كتاب رجار" أو "الكتاب الرجاري"، ولكن "الإدريسي" استمر يعمل في بلاط النورماندييين فألّف كتاب (روضة الأنس ونزهة النفس) الذي اشتهر فيما بعد تحت اسم (كتاب المسالك والممالك) بناء على تكليف من "غليوم الأول" الذي خلف "روجر"، وقد عثر على خلاصات من هذا الكتاب في مكتبة باسطنبول.


ويبدو أن الحنين قد استبد بالإدريسي، فغادر صقلية في أيام شيخوخته، وقفل عائداً إلى مسقط رأسه سبتة كي يتوفى بها عام 560ه/1166م.

*****

7 - "الإدريسي" وعلم الجغرافية:

ليس مصادفةً ولا عبثاً أن يعتبر "الشريف الإدريسي" أعظم الجغرافيين العرب، وقد اعتمد منهجه العلمي على:

- ملاحظاته المباشرة وأسفاره.

- أحاديث الرحالة والتجار والحجاج الذين التقاهم.

- معلومات الجغرافيين السابقين مثل "بطليموس" و"ابن حوقل".

- معلومات الرواد الذين أرسلهم لسبر أغوار البلاد والعودة إليه بما حصّلوا من معلومات ومعارف.

- استخدام لوح الترسيم لتحديد المسافات بين المدن والأقطار.


وقد اعتمد "الإدريسي" نظرية الأقاليم السبعة المألوفة، ولكنه أضاف إليها تقسيماً جديداً، هو جعْل كل إقليمٍ عشرة أجزاء، وبذلك أصبح العالم لديه سبعين جزءاً. وكل جزء من هذه الأجزاء السبعين يرتبط بخارطةٍ يشكل مجموعها خارطة العالم المعروف في عصره. وقد قام المجمع العلمي العراقي بضم هذه الخرائط إلى بعضها وشكّل منها خارطة موحّدة كبرى.


ولا ريب أنَّ الجناح الغربي من البحر المتوسط، بقسميه الأوروبي والأفريقي، كان له النصيب الأوفى من اهتمام "الإدريسي"، لأنه اعتمد في عرضه ووصفه على مشاهداته وملاحظاته وأسفاره، وهذا يفسر دقة المعلومات التي أوردها حول الأندلس وصقلية وبلدان المغرب في شمال أفريقيا، بل حتى المعلومات التي أوردها عن فرنسا وإيطاليا وبحر الشمال وبلاد البلطيق، بينما نجد المعلومات عن أوروبا الشرقية لديه أقلّ دقةً في كتابه الهام الذائع الصيت (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، وقد طبع تحت عنوان آخر في روما عام 1592م، هو (نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق).


8 - وفي حديثه عن الجزء الأول من الإقليم الرابع يقول:

(إن هذا الجزء الأول من الإقليم الرابع مبدأه من المغرب الأقصى حيث البحر المظلم، ومنه يخرج خليج البحر الشمالي ماراً إلى الشرق، وفي هذا الجزء المرسوم بلاد الأندلس المسماة باليونانية أشبانيا، وسميت جزيرة الأندلس جزيرةً لأنها شكلٌ مثلث ويضيق من ناحية المشرق.. ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشرٌ منه على خبرٍ صحيح، لصعوبة عبوره وظلام أنواره، وتعاظم موجه وكثرة أهواله، وبه جزاير كثيرة معمورة مغمورة).


(والأندلس طولها من كنيسة الغرب التي على البحر المظلم إلى الجبل المسمّى بهيكل الزهرة: ألف ومائة ميل. وعرضها من كنيسة شنت ياقوب التي على أنف بحر الأنقليسيين إلى مدينة المرية التي على بحر الشام: ستمائة ميل. وجزيرة الأندلس مقسومة من وسطها في الطول بجبل طويل يسمى البشارات، وفي جنوب هذا الجبل تأتي مدينة طليطلة، وهي مركز لجميع بلاد الأندلس. وكانت في أيام الروم مدينة الملك ومداراً لولاتها، وما خلف الجبل المسمى بالبشارات في جهة الجنوب يسمى أشبانيا، وما خلف الجبل في جهة الشمال يسمى قشتالة. 

ولنبدأ منها بإقليم البحرية، وهو إقليم مبدوء من البحر المظلم، ويمر مع البحر الشامي. وفيه جزيرة طريف والجزيرة الخضراء وجزيرة قادش، ويتلوه إقليم شدونه وفيه إشبيلية وقرمونة، ويتلوه إقليم الشرق بين إشبيلية ولبلة والبحر المظلم... وإقليم البلالطة... وإقليم القصر المنسوب لابن أبي دانس، وفيه بطليوس وماردة... وإقليم بلاطة وفيه شنترين وإشبونة... وإقليم الشارات وفيه طلبيرة وطليطلة ومجريط ووادي الحجارة).


(والجزيرة الخضراء أول مدينة افتتحت من الأندلس في صدر الإسلام، وافتتحها موسى بن نصير من قبل المروانيين، ومعه طارق بن عبد الله بن وَنْمو الزناتي ومعه قبائل البربر، فكانت هذه الجزيرة أول مدينة افتتحت في ذلك الوقت، وبها على باب البحر مسجد يسمى بمسجد الرايات، ويقال إنه هناك اجتمعت رايات القوم للرأي، وكان وصولهم إليها من جبل طارق، وإنما يسمي بجبل طارق لأن طارق بن عبد الله لما جاز بمن معه من البرابر، وتحصّنوا بهذا الجبل، أحسّ في نفسه أن العرب لا تثق به، فأراد أن يزيح ذلك عنه، فأمر بإحراق المراكب التي جاز فيها، فتبرّأ بذلك عمّا اتُّهم به).


(ومن القصر إلى أشبونة مرحلتان، ومدينة أشبونة على شمال النهر المسمى تاجه، وهو نهر طليطلة، وسعته أمامها ستة أميال، ويدخل المد والجزر كثيراً، وأشبونة على نحر البحر المظلم، وعلى ضفّة النهر من جنوبه قبالة مدينة أشبونة حصن المعدن، وسمي بذلك لأنه عند هيجان البحر يقذف بالذهب التبر هناك. ومن مدينة أشبونة كان خروج المغرورين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه، ولهم بمدينة أشبونة بموضع بمقربة الحامة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغرورين إلى آخر الأبد، وذلك أنهم اجتمعوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشؤوا مركباً حمالاً وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر، ثم دخلوا البحرَ في أول طاروس الريح الشرقية).

*****


9 - تحليل وخلاصات:

هذا النص القصير الذي اجتزأناه من (نزهة المشتاق) كان القصد منه عرض مثالٍ نقرأ من خلاله منهج "الشريف الإدريسي" في علم الجغرافية. ويتضح هذا المنهج من خلال الملامح التالية:


١ - إن الجغرافية عند "الإدريسي" أصبحت علماً متكاملاً له أسسُه المنهجية.


٢ - إن هذا العلم يتصف بالدقة في سرد المعلومات، القائمة على الملاحظة الشخصية والتقصّي وتمحيص الروايات، وعدم الأخذ بأية روايةٍ قبل إعمال النظر بها.


٣ - غلبة الجغرافية الوصفية على منهج "الإدريسي" لم تمنعه من سرد حوادث تاريخية تتعلق بالمواقع الجغرافية، مما يجعل نصه مزيجاً من الجغرافية الوصفية والجغرافية التاريخية. ومن أمثلة ذلك في النص الذي عرضناه:

أ) قصة عبور "طارق" وإحراق السفن، ومن المعلوم أن هذه الرواية لم تعد تثبت بالفحص التاريخي العلمي، وليس من المعقول أن المراكب قد أحرقت، وهي أساساً مراكب يوليان حاكم سبتة.

ب) تسمية الأندلس وأشبانيا والبحر المظلم وما يتصل بذلك من تداخل الوصف والتاريخ والدراسات الفلكية.

ج) الإشارة إلى أن الجزيرة الخضراء هي أول ما افتُتح من الأندلس أيام "المروانيين"، وهم الفرع الأموي الذي تم دخول الأندلس على أيامه (الوليد بن عبد الملك).

د) قصة الشبان المغرورين، وهي الإشارة إلى محاولة استكشاف بحر الظلمات.


٤ -  الموضوعية العالية في السرد والوصف، والحيادية في إطلاق الأحكام.


٥ -  ولعل الأمر الهام في فكرة إنجاز الكتاب في بلاط النورمان في صقلية، أنَّ هذا الإنجاز قد تمّ في ظلّ حكمٍ يفترض أن يكون معادياً للمسلمين في الأندلس، ولكن هذا الكتاب وظروف تأليفه في (باليرمو) تلبيةً لطلب "روجر" ملك النورمان، والإشادة التي وردت في مقدمة الكتاب بهذا الملك من قبل الإدريسي، وهذا جزءٌ من تلك المقدّمة:

(فمن بعض معارفه السنيّة أنه لما اتّسعتْ أعمال مملكته، وتزايدت هممُ أهل دولته، وأطاعه البلاد الرومية، ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه، أحبّ أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة، ويقتلها يقيناً وخبرةً، ويعلم حدودها ومسالكها برّاً وبحراً، وفي أيّ إقليم وما يخصّها من البحار والخلجان الكافية بها، مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة).


٦ - إنّ إنجاز هذا الكتاب في صقلية أيام النورمان لَيدلّ على تمكّن الثقافة العربية وسطوتها المعرفية رغم الانحسار السياسي عن الجزيرة وجنوب إيطاليا.


٧ - إن القرن السادس الذي شهد كتاب "الإدريسي"، كانت فيه الحروب الصليبية لا تزال قائمةً على أشدها، ومع ذلك بقي العلماء المسلمون يتعاملون بروحٍ عالية من المرونة والتسامح ومحبة العلم وخدمته، ولو كان ذلك في بلاط حاكمٍ غير مسلم.


٨ -  هذه المرونة تذكرنا بالمواقف الحضارية الكبرى لعلماء مسلمين آخرين، لعل من أبرزهم "ابن رشد" في دعوته إلى الارتكان للعقل البشري في شِقِّه الناطق ونهجه المنطقي المستند على البرهان والنظر والحكمة، وهذا ما جعل "ابن رشد" يدعو إلى التوجّه العلمي والتجربة الطبيعية والربط بين العقل والتجريب، والتأويل الذي يقود إلى الاعتراف بالآخر، وإفساح المجال للتداول والتبديل، وهذا ما جعل منهج "الرشدية" أساساً لعصر النهضة الأوروبية.

٩ - إن "الشريف الإدريسي" بحياته ورحلاته وصلاته الواسعة وكتاباته المختلفة، يمثّل النموذج الأمثل لقبول الآخر والحوار الحضاري والاعتراف بالتباين، واحترام عقائد الآخرين، والتعامل معهم على أساسٍ إنساني قائم على الموضوعية والحيادية.


ومن هنا تأتي أهمية التركيز على "الشريف الإدريسي" مجدداً، ليس كجغرافيٍّ رائدٍ في مجال الوصف والفلك والتاريخ فحسب، وإنّما بما يمثّله من علاقات حضارية في غرب البحر الأبيض المتوسط، ومن معرفةٍ علمية دقيقة بالأقاليم، وبخاصةٍ الأندلس ومنطقة غرب المتوسط.

*****

10 - الصور المرفقة لخرائط الإدريسي ،  والكرة الفضية التي تمثل الكرة الارضية .

****



محمد قجة

  بين المدينة ولهجتها 

هذه المقالة الموجزة عمرها اكثر من عشرين عاما ، وقد كتبتها تعقيبا على مقالة استاذنا الجليل الدكتور عبد الكريم الأشتر  - رحمه الله - 

اطّلعتُ في زاوية "حديث الصباح" لعدد الاثنين  10/5/1999 على الحديث الطريف لأستاذنا الدكتور "عبد الكريم الأشتر"، حول مقاربات الفصحى والعامية وأشكال اللهجات الدارجة، وذلك من خلال قالبٍ قصصي بدأ بأوراق يوزّعها طفل، وتدعو هذه الأوراق فيما تدعو، إلى إصلاح بعض مفردات لغتنا العربية وبعض مصطلحاتها وأمثالها.

وقد استوقفني في هذه الزاوية عدة ملاحظات:

*****


1- يعلم أستاذنا أن اللهجات إنما هي انعكاسٌ لمعطيات اجتماعية وتاريخية وبيئية، وبذلك نجد إطارات عريضة للهجات العربية، كما هو الحال في لهجة المغرب العربي، أو لهجة مصر ووادي النيل، أو لهجة شبه الجزيرة العربية، أو لهجة بلاد الشام، أو لهجة العراق. وهذه اللهجات لكلٍّ منها خطوطها العريضة، تتمكّن من خلال جملةٍ أن تحدد فتقول: هذه لهجة مغاربية، أو مصرية، أو شاميّة (بلاد الشام) أو لهجة شبه الجزيرة.

ثم تأتي الفروق بين المناطق والمدن، فلهجة اليمن غير لهجة نجد، ولهجة فاس غير لهجة مراكش أو تلمسان، ولهجة القاهرة غير لهجة الصعيد، ولهجة دمشق غير لهجة حلب.


2 - ولكلِّ واحدةٍ من هذه اللهجات خصائصها التي تواضعت عليها عبر أجيال من التطوّر الموضوعي، ولكلٍّ منها صفاتها المميزة من رقّة أو خشونة، ترهّلٍ أو شدّة، امتدادٍ أو انقباض. ولكلٍّ منها خصائصها في لفظ بعض الحروف بصورةٍ تفخّمه أو ترقّقه، كما هو شأن حرف (ق) واختلافات نطقه التي يصل بعضها إلى نطقه بلفظ  "همزة" أو "جيم" أو "غين  ؤبذلك يضيع المعنى في كلمة " قلم " فتصبح " ألم " في حالات الترقيق ، و "غلم ".في اللهجة السودانية . وكذلك حرف الجيم. وتعمد بعض اللهجات إلى ترقيق الحروف المفخمة أصلاً مثل الصاد والضاد بحيث يلفظان مثل السين والدال. وكل ذلك لا يتعلق بخشونة الناس أو نعومتهم أو دماثتهم، فالأمر له اعتبارات متشابكةٌ من عوامل التاريخ والتطور والبيئة.


3 - ومن هنا احب أن أتساءل مع أستاذنا العزيز "د.الأشتر" حول بعض الملاحظات التي تشير إلى (الزجر والنتر وضيق الخلق والعجز عن كسب القلوب) في إشارة إلى لهجة حلب!

وفي الواقع فإن هذه العبارات: الزجر والنتر وضيق الخلق والعجز عن كسب القلوب، أمور ترتبط بأحوال نفسيةٍ أو اجتماعية قد نجدها لدى أيّ شعبٍ وفي أية مدينة بغضّ النظر عن اللغة واللهجة. وإذا كانت اللهجات تشهد في مفرداتها وعباراتها انعكاساً لهذه الحالات النفسية أو الاجتماعية، فذلك ليس مرتبطاً بمدينةٍ معينة، وإنما هو حالة نجدُها لدى كل الشعوب وسائر اللغات على مدى الأزمان. 

كما نجد في المدينة نفسها ولدى الشعب نفسه عبارات ومفردات من الهدوء النفسي والدماثة والتودّد لدى شرائح اجتماعية أو ثقافية أو مهنية أخرى. وهذا شكل من أشكال غنى لغتنا العربية بلهجاتها المختلفة.

*****


 4 - وليسمح لي أستاذنا الجليل أن أخالفه الرأي فيما يتصل بحكاية العجز عن كسب القلوب وضيق الخلق لدى سكّان مدينة حلب. فلديّ من كتابات الرحالة والمؤرخين الذين زاروا حلب خلال القرون الخمسة عشر الماضية، الشيءَ الكثير مما يؤكد مرونة الإنسان الحلبي في ميدان العمل التجاري والتعامل مع الآخرين وجَوبه الآفاق وإتقانه اللغات الأخرى. وهذه أمور لا تنسجم مع مقولة (العجز عن كسب الآخرين).

وهذه أمثلة شديدة الإيجاز:


- يقول "دارفيو" قنصل فرنسا في حلب في القرن السابع عشر: (والحلبيون أحسن شعوب الممالك العثمانية طباعاً وأقلّهم شرّاً وآمنهم جانباً وأشدّهم تمسكاً بمكارم الأخلاق).


- ويقول "رامبلز" الرحّالة الإنكليزي في القرن التاسع عشر: (حلب كأنها لندن الصغيرة لمن يقصدها، فإنه يجد فيها الراحة والانشراح، وسكّانها هادئون ومسالمون).


- ويقول "فولني" الفرنسي: (حلب أنظف مدينة في السلطنة العثمانية، وأجملها، وألطفها عشرةً، وأصحّها مناخاً، والحلبيون هم أكثر أهل السلطنة تمدّناً).


- ويقول "جون دافيد" البريطاني: (على عكس ما يحسّه الأجنبي في أية ناحيةٍ من نواحي الإمبراطورية العثمانية، فإنه لا يشعر في حلب بأنه متكدّر أبداً).


أما الرحالة والمؤرخون العرب والمسلمون، فلا يتّسع المجال لسرد بعض أحاديثهم الكثيرة في هذا المجال، من أمثال: "ابن جبير" و"ابن بطوطة" و"ابن بطلان" و"ناصر خسرو" و"المسعودي" و"ابن حوقل".

*****

5 -  وليسمح لي أستاذنا كذلك بالقول: إن هذه الحالة الاجتماعية من التسامح والمرونة وكسب مودّة الناس لا العجز عن كسبها– إنما جاءت نتيجة عوامل تاريخية واقتصادية وجغرافية جعلت من حلب مركز التجارة العالمية منذ الفترة الزنكية حتى الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1207م أنشئت في حلب أول قنصلية تجارية أوروبية تعود إلى جمهورية البندقية ايام الظاهر غازي الأيوبي. وتتالت بعدها القناصل والممثليات سابقة بذلك القاهرة واستنبول ودمشق بعدة قرون حتى غدا عددها 80 قنصلية عام 1675م. وهذا العمل التجاري الضخم خلال أكثر من ألف سنة جعل التركيبة السكانية نشطة في ميدان الكسب التجاري والصناعي بما يلزم لذلك من مهارات وتعلم لغات ومرونة في التعامل مع الآخر.


6 - لهذا ليس غريباً أن نجد مدينة حلب كانت تستقطب فعاليات من شعوب وأديان وأعراق عديدة، انصهروا جميعاً في تاريخها وأصبحوا جزءاً من تراثها. حتى اختارتها منظمة اليونسكو مدينة كوسموبوليتية .  ولهذا ليس غريباً أيضاً أن تجد اليوم أن أكبر الجاليات السورية المهاجرة أو المسافرة للعمل في التجارة أو الصناعة هي من مدينة حلب، موزّعة على مدن الوطن العربي وأوروبا وأمريكا. 

وفي أمثالنا الحلبية مثل يقول: (أعرج حلب وصل للهند) في إشارةٍ واضحة إلى توسّع العمل التجاري.


طبعاً أنا لا أريد أن أقول إن هذا الكلام ينطبق على سكان المدينة جميعاً، ففي كلِّ مدينةٍ كبرى بيئات اجتماعية وفئات تتباين ثقافياً وعلمياً واقتصادياً، شأن كل المدن الكبرى، ولا يجوز التعميم في أية حالة من الحالات.

*****

 

7 - عودةً إلى جفاء اللهجة لو سمحتَ لي، وهذا بلا شكّ مرتبطٌ في حين وجوده ببعض المدن بعوامل مختلفة، أما أن تكون الأنهار سبباً في رقّة اللهجة أو خشونتها، فمعنى ذلك أن لهجات بغداد أو دير الزور أو حماة يجب أن تذوب رقةً لوقوعها على أنهار تاريخية قديمة، وأن لهجة جبال لبنان الصخرية يجب أن تكون بالغة الخشونة! والأمر ليس كذلك في واقع الحال.


مرةً ثانية أقول: ليس هناك تعميم، ففي لهجةِ كلّ مدينةٍ ما يكفي من مواقف الضعف والارتخاء والشدّ والخشونة وترقيق الحروف أو تفخيمها. ففي لهجة لبنان مثلاً تتم إمالة الألف في وسط الكلام عموماً، بينما تتمّ إمالة هذه الألف أحياناً في لهجة حلب، ولا تُمال هذه الألف في لهجة دمشق أو القاهرة، ونجدها تُمال في فاس وتلمسان وتونس. وبالمقابل فإن بعض لهجة لبنان مثلاً تتم إمالة الألف في وسط الكلام عموماً، بينما تتم إمالة هذه الألف أحياناً في لهجة  حلب ولا تُمال هذه الألف في لهجة دمشق أو القاهرة ونجدها تمال في فاس وتلمسان وتونس.


ومقابل ذلك، فإن بعض الحروف ترقّق أو تفخّم، كما هو شأن (الضاد) الذي تلفظه بعض اللهجات قريباً من الدال، أو تخلط بينه وبين الظاء. وحرف السين الذي تضخّمه بعض اللهجات بحيث يلفظ مثل حرف (الصاد)، شأن كلمة (الوسخ) التي تلفظ (الوصخ) في بعض اللهجات العربية

أو كلمة (قال) التي تلفظ بعددٍ مختلف من الصور حسب اللهجات، من غير أن نسمّي هذه اللهجة أو تلك بالترهّل أو الجفاء أو الارتخاء.

*****


8 -  إن بعض العبارات في بعض اللهجات يُنظر إليها بمنظارٍ (فولكلوريّ)، نتيجة التنافس التاريخي بين بعض المدن، كما هو الحال لدى كل الدول والشعوب، ومن هذا المنطلق قد نجد مدينةً تتسقّط بعض العبارات في لهجة مدينةٍ أخرى، أو يتمّ تركيز النكات على مدينةٍ دون سواها، وهذه أمور في مجملها صحّيةٌ وصحيحة وسليمة في نطاق مسارها التاريخي. وهي موجودة لدى كل الشعوب .

وفي هذا الإطار التاريخي، تأتي الأمثال التي هي تعبيرٌ عن رؤيةٍ اجتماعية بلورَتها السنون والأحداث. ومن دراسة هذه الأمثال نعرف مدى القرب، بل التطابق، ليس بين مدينةٍ ومدينةٍ فحسب، بل بين أقطارٍ وأقطار،كما هو شأن دراسة الأمثال في مصر والشام والعراق مثلاً.

*****


9 - أستاذنا الكريم.. لستُ في موقف المدافع ولستُ في موقف المهاجم.. إنني أتحدث بلسانٍ موضوعيٍّ يقتضيه البحث الهادئ والمرونة، وقد كنتَ دائماً أيها الأستاذ الكريم مثالاً للمرونة والدماثة، والمهارة في كسب القلوب والبعد عن الجفاء.

*****


محم قجة

 اعلام راحلون ، من حلب 

وجمعية العاديات  


                        " عبد الكريم الأشتر "

                         1929 / 2011

نص كلمة الأديب محمد قجة   في تأبين صديقه الراحل استاذنا الدكتور عبد الكريم الأشتر  . 


ها أنت تغادرنا في رحلة غيابٍ لا تستثني أحداً.. ولكنه غيابٌ لا يقوى أن يمحو الأثر المضمّخ بالعطر الذي تركتَه، وكما أن الذِكْر للإنسان عُمرٌ ثانٍ، فإن ذكراكَ هي العمر الباقي، ذكرى الأستاذ والمعلم والأديب والناقد والباحث والأكاديمي والمفكر، وقبل ذلك كله ذكرى الإنسان والوطني والقومي وعاشق الأمة وتراثها.

*****


لن يغيب عني مشهد اللقاء الأول بين الأستاذ والتلميذ، حينما كنتَ قادماً لتوّك من القاهرة تحمل شهادة الدكتوراة في الأدب العباسي، وكنتُ طالباً في كلية الآداب في جامعة دمشق، إنه مشهدٌ عمره نصف قرن. وفي الامتحان الشفوي سألتني: هل أنتَ من حلب؟ فأجبتك: من أعماقها. وانفرجتْ أساريرك عن بسمةٍ أضاءت الوجه الوسيم بملامحه الهادئة والمحببة، وكنتُ أعلم أنك من أسرةٍ متجذرة في حلب العريقة، أسرةٍ أنجبت رجال الفكر والأدب، وكانت لها بصماتها في الحياة الاجتماعية لمدينة حلب المحروسة.


ولم تنقطع الصلات بيننا: زياراتٌ وأحاديث هاتفية، وتبادلُ كتبٍ ومتابعاتٌ ثقافية، ومحاضراتٌ كان لنا شرف استضافتك خلالها، في منبر جمعية العاديّات أو في منابر أخرى، وكنتُ دائماً أقف أمامك موقف التلميذ من أستاذه، فلقد بقيتَ دائماً الأستاذ والقدوة وموضع التقدير والإجلال، وكنت أتابع كتاباتك في الدوريّات المختلفة، ولقد شدّني حديثك عن ذكريات العمر التي سفحتها على صفحات (مجلة المعرفة) في حلقات متواصلة، وكانت ذكريات عمرك الشخصي، وذكريات عمر الوطن في الوقت نفسه، الوطن بأحداثه ورجالاته وماضيه وحاضره وآفاق مستقبله.


ولا تزال مكتبتي تعتزّ بكتبك وعليها إهداؤك العزيز إلى قلبي، وبخطّك الجميل وتوقيعك الغالي، كتبٌ فيها سجلُّ فكر وأدب وثقافة وتجربة إنسانية عميقة. وكان آخر اعمالك فبل الرحيل " ايليا أبو ماضي " الذي قمت بجمع ديوانه  وضبطه وشرحه ، ويحمل تاريخ 2008 , وتم طبعه في الكويت ، ولدي نسخة ثمينة منه بإهدائك النبيل .

*****



ولعل أجمل الذكريات التي أحملها وأعتزّ بها، هي مشاركتك في حفل التكريم الذي أقامته لي وزارة الثقافة عام 2008 ، وكانت موافقتك على المشاركة في تلك الندوة تكريماً لي بكل المعاني. وكانت الكلمة المركّزة التي ألقيتَها تاجاً رصّعتني به. وكان مما ورد فيها:

(أوَليس من جميل العرفان أن يقف الأستاذ موقفي من الشهادة لتلميذه في حفل تكريمه؟ ولكن ما الذي يعنيه التكريم: إنه تكريم العمل وحفز الآخرين على الاقتداء بمن يعملون، وعند هذا المعنى يجب التوقّف لما يعني التكريم عنه من سدّ السبل أمام العاملين أو تصفيتهم والإخفاق في السعي إلى الخير العام، وما يصيب أصحابه من اليأس والإحباط والعجز، تتعدّى نتائجها أصحابه إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، ويلتمسون الخير له ولأنفسهم جميعاً. وفي نفسي وأنا أقول هذا الكلام أمثلة لا تحصى من مواجهتهم بالحسد المستور أو الغيرة من النجاح فيما أخفق الحاسد فيه أو قصّر عن بلوغه. انتهزتُ فرصة شهادتي فيك لأقول هذه الكلمة، التي ما أريد منها أن أتمثل بك وقد نجحتَ فيما قصدتَ بحمد الله، ولتبقَ سمحاً ودوداً، وإلى جانبك من أصدقائك العاملين في الحقل الثقافي العام، إخوةٌ يتمنون لك ما تتمناه لنفسك. 

احفظ رسالتك التي تؤديها في جمعية العاديّات، وأوصيك يا "أبا الحسن" -ولي الحق في وصايتك- أن تتسلح بالحب والسماح وكرم النفس، وهي الصفات التي عرفتها فيك).


هذه كلمات "عبد الكريم الأشتر" التي سوف تبقى نبراساً لي وقدوةً ومنارة تأخذ بيدي إلى منابع العلاقات الإنسانية الرفيعة.

*****


وفي مرضك الأخير يا أستاذنا الجليل، كنتُ أعودك وأنت على فراش المرض، في المستشفى الذي يحمل اسم أسرتك الكريمة، وكنت تحدّثني عن القوة الروحية والمعنوية التي يمتلكها الإنسان، والبسمة الرقيقة لا تفارق محيّاك الوديع، وذاكرتك اليقظة تواكب الأمور وتستعرض ما يجري، ويؤنسها ذكر الأصدقاء من تلاميذك الكثر الذين يحفظون ما لَك من يدٍ عليهم لا يطويها الزمان.




وكنا نتهيأ لإقامة حفل التكريم لك، ونسألك عمّن تريد أن يتحدث فيه، ولكن المنيّة عاجلتك فاختطفتك منّا، لتترك فراغاً في ميدان الثقافة والفكر والعمل الوطني والقومي والإنساني، وعشق اللغة العربية، وضرورة العناية بها في كافة مجالات العلم والإعلام والحياة. وبدلاً من حفل التكريم بحضورك، ها نحن نشارك في حفل تأبينك وأنت الغائب الحاضر، ويتقاطر المحبون والأصدقاء ورجالات الدولة ليدلوا بشهاداتهم بحق عميد الثقافة في مدينة حلب.

لن يغيب ذكرك عن أذهاننا، ولن تغيب صورتك عن عيوننا.



الأحد، 16 يناير 2022

جميلة محمد القنوفي

 همس الجود من اهله 

 بالوجود نغم ..ساحر 





تراثيل الكريم.. صلاة 

سارية ...عزف منفرد


منة الغني  للك


ون رجاء 

الحان الرحمة غناء 

 بالغ الغيث و النعم  



يرفع في أملاكه 


دعوة ابراهيم 

نبوءة موسى 

 ترنيمة داوود 

بشارة عيسى 

شفاعة المصطفى 


رسائل محبة وسلام

 على  العالمين  تفيض

تمطر ، تزهر يثمر الأمل  



نملأ كؤوس الحالمين 

يمنا  ، رضا..وتفاؤلا..


تمحو الكرب 

تزيح الاحزان 

تبعد الوهن والأوهام 


تصافح  بالترحاب..

 النجوم 

 تصاحب  الكواكب 

تسابق الجروم 

،دأب  العظماء 

 تعانق  الغيوم 

تجاري الصالحين 

تجالس العلماء....

توحد الشعوب ..


قمر تسامى  وارتقى

حتى صار" انسان"

متسامحا..



جميلة محمد القنوفي 

نثرات مسائية ..

 

ثورية الغريب


 حدِّثني: 


           كيف روَّضتَ الفرح


   حتى صار بحجم السماء؟


 كيف أقنعتَ الحزن أن يستقيل؟

 كيف انصهرا....

الآهُ والأنين؟


كيف تمزَّق الليلُ

          على فجر عشق رصين؟



السبت، 15 يناير 2022

عباس شكور

 دفاعا عن النثر


لا يضير الناثر أن يكتب أمام اسمه ( ناثر ) ولا يضيره أن يكتب عنوانا لنثره ( نص نثري ) وأن يكتب ( مجموعة نثرية أو نصوص نثرية ) على غلاف مجموعته التي يروم طباعتها... كما لا يضير النثر ( كنوع من أنواع الأدب بل هو أقدم نوع عرفه الإنسان )

بل الضرر  هو أن يتخلى النثر عن مكانته التأريخية كوالد  لبقية أنواع  الأدب الأخرى ويلتصق بالشعر وهو حديث عهد بفطام...فعمر الشعر العربي لا يتجاوز الألفي عام بأحسن الأحوال فيما عمر النثر أبعد من ذلك بكثير  حيث نزلت الكتب السماوية منثورة ولم تأت على شعرا و الذي أوجده رجال الدين الإغريق عندما وجدوا أن الكلام المقفّى أقرب للناس تقبّلا من الكلام المرسل ومن ثم تطور موسيقى ليصبح عند العرب عمودا وما سواه يبقى نوعا آخر من الأدب باختلاف مسمياته وابداعاته...

كما لا يُعتد بشاعرية النص النثري فيقال عنه شعرا...والفارق كبير بين الشاعرية والشعر...فالنثر هو كلام مرسل على عواهنه لا تحكمه الضوابط التي تحكم الشعر ...هنا لابد أن نميز بينهما ( بغض النظر عن شاعرية النص النثري أحيانا وبين نظمية الشعر أحيانا فذاك بحث آخر وتصنيف آخر داخل كل نوع أدبي على حدة كما في كتاب طبقات الشعراء مثلا  ) فالهيكلية والبنيوية والالتزام بالعروض أولى ضرورات الشعر ... وتأتي بعدها الغرض والتكثيف واللغة والبيان والصور الشعرية وووو.

ما يقال عن النثر ينسحب كضرورة حتمية على التفعيلة ...فالتفعيلة لم تكن شعرا أبدا بل هي نثر مقنن وممنهج ومقفّى أحيانا..ذاك بأن الكتب السماوية جاءت كلاما منثورا ( مع قدسيتها ) ونفت الشعر عن كلام الله عز وجل بنص القرآن الكريم في آيات محكمات عديدة على الرغم من وجود تفعيلات كثيرة بل وجود أكثر من شطر كامل في الآيات الكريمات مما يثبت بأن التفعيلة ليست شعرا ويثبت بالضرورة أن الشعر هو العمود المكون من شطرين موزونين بدقة ( بغض النظر عن شاعريته فالشرط الأول هنا هو الهيكلية ) ويثبت أيضا بأن النثر ليس شعرا على الرغم من وجود صور شعرية ووجود لغة شاعرية عالية في الآيات القرآنية..

هذا ما جاء في تراثنا ولا دخل لنا بما قاله بودلير لأنه فرنسي ولا يعنينا أن نتقمص الأدب الفرنسي كما يفعل أغلب النقاد اليوم بتقمصهم نظريات النقد الأدبي الغربي ...ولنا معهم وقفة إن شاء الله..

هكذا نجد أن ( الناثر ) اليوم والذي يصر على إطلاق لقب ( الشاعر ) على نفسه هو أشد عداوة للنثر من الشعراء أنفسهم...فهو ينكر نوعا قديما وجميلا من أنواع الادب العربي ( النثر ) وكذلك يستصغر النثر ويراه عيبا أن يسمّى ناثرا فهو كالولد الذي يعق والديه..كما أنه يبقى مرفوضا من قبل الشعراء متشبها بالغراب الذي صبغ لونه أبيضا فتخلت عنه الغربان واستنكرته الطيور الباقية ورفضوه...

قبل أيام نوديَ على أحد الناثرين على المنصة ( ليتفضل الشاعر الفلاني ) وهو ليس بشاعر بل ناثر وكان أن اعترضنا أنا وصديقنا الشاعر السوري الجميل فايز أبو جيش...وقد استنكر الحضور ( رغم أنهم ليسوا شعراء ) أقول استنكر الحضور وأخذوا يتساءلون..هل هذا شعر؟..وإني أناشد الجميع ألا يخربوا ذائقة المتلقّي بإقحام المسميات ببعضها كي يفهم الناس الفارق بين الشعر والنثر

والله من وراء القصد