الخميس، 16 ديسمبر 2021
الصوفي الصافي بصمات نقدية
الصوفي الصافي ......بصمات نقدية
وفاء للصداقة والأخوة التي جمعتني بشاعر ( شعر الدراما الفلسفية ) ( المرحوم عبدالجبار الفياض) الذي عمق فراقه الجراح في صدورنا ... ما أصعب أن تسقط ركائز أساسية ترفع خيمة النقد الأدبي والأدب بأجناسه في الوطن العربي ...رحمة الله عليكم أخي الناقد والأديب ( حسين الباز ) والصحفي والأديب ( حسن السوسي ) وشاعر الدراما الفلسفية ( عبدالجبار الفياض ) وباقي أصدقائنا الذين غادرونا هذه السنة إلى دار البقاء ...إنا لله وإنا إليه راجعون
--------------------------------------------------------------------------
دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة لقصيدة ( نكسة حزيران )
للشاعر " عبد الجبار الفياض "
عنوان الدراسة النقدية الذرائعية المستقطعة : " المدخل الاستنباطي / ( اشهد يا حزيران .... ) / بقلم : عبد الرحمن الصوفي / المغرب
مقدمة :
الشعر صنعة فن لغوي ، وتاريخ الشعر في كل بلدان المعمور هو تاريخ صناعة الكلمة التي عرفت تطورا نتيجة تطورات كبيرة عرفها مختلف العلوم الحقة و الإنسانية .... اللغة حقيقة مرتبطة بوسائل المعرفة ، وعندما تغتني وتتسع هذه الوسائل لابد من ميلاد حقيقة تستخرج وتستنبط من من ظواهر ملموسة يواكبها الفن والأدب نثره و شعره . يقول " أوزيا " : " ...يمكن القول وبكل وضوح بأنه من المستحيل تجاهل ارتباط الشعر بالمجتمع أو تجاهل مشكلة << أنا والآخرون >> أو رفض فكرة تأثير الشعب على المبدع ..." ( 1)
كما أن ارتباط الفلسفة بالشعر يعود لبدايتهما ( الفلسفة نفسها بدأت صياغتها بالشعر ) ، فكانت الفلسفة في إرهاصاتها الأولى ردة فعل على غموض الوجود ورهبته ، فانطلقت في محاولتها الشبه أسطورية للتعامل مع الكون وفك ألغازه في قوالب وصيغ شعرية كما يعتقد " نيتشه " أن القول الفلسفي ، ككل محاولات القول الإنساني ، لن يستطيع الانفصال عن التعبير الشعري.
v مدخل الدراسة النقدية الذرائعية المستقطعة : المد
الاستنباطي :Inference and Empathy Theory
جاء في كتاب " النظرية الذرائعية في التطبيق " : " ... تقوم نظرية الاستنتاج على مجال التقمّص الوجداني ، أي أن الإنسان يلاحظ سلوكه المادي مباشرة ، ويربط سلوكه رمزيًّا بحالته السيكولوجية الداخلية ، أي بمشاعره وعواطفه ، يصبح لسلوكه الإنساني معنىً يصبّ بمفهوم الذات ثم يتصل بالآخرين ويلاحظ سلوكهم ألمادي وعلى أساس تفسيراته السابقة لسلوكه ، يخرج باستنتاجات عن حالة الآخرين السيكولوجية.... " ( 2 ). إن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس ، يقول الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما # جعل اللسان على الفؤاد دليلا
" ... بمعنى آخر، إذا كان سلوكه يعكس هكذا من المشاعر إذا قام شخص آخر بهذا السلوك ، فهو أيضًا يعكس نفس المشاعر التي شعر بها حينما قام بهذا العمل هذا الرأي في التقمّص الوجداني يفترض أن الإنسان لديه معلومات من الدرجة الأولى عن نفسه ، ومن الدرجة الثانية عن الناس الآخرين ، فالإنسان لديه المقدرة على فهم نفسه نسبيًّا ، عن طريق تحليل سلوكه الذاتي ، ومن هذا التحليل يستطيع أن يخرج باستنتاجات عن الآخرين تقوم على هذا الأساس... " ( 3 ) المرجع ( 2 نفسه ) ... بمعنى أن حضور الأدب في نفسية الإنسان يخرجه من عمومية الناس ويدخله في خصوصية التقمّص النفسي ، وهذا ما عاد بنا إلى لحظات تذكرية تقمصية ( حزيران 1981 ) الذي يؤرخ لاحتجاجات اجتماعية شعبية شهدتها مدينة الدار البيضاء وباقي المدن المغربية ... خرجنا في تظاهرتها التي خلفت عددا من الضحايا ، مما جعلها موضوع جدل حقوقي داخلي يؤرخ لمرحلة من مراحل "سنوات الرصاص... " ... " وسقط جراء تلك الأحداث عدد من القتلى والجرحى اشتهروا لاحقا باسم "شهداء الكوميرا"، وهي كنية باللهجة المغربية تطلق على نوع من الخبز الفرنسي بعد أن أطلقها عليهم وزير الداخلية المغربي خلال تلك الفترة الراحل إدريس البصري استهزاء بهم بسبب مطالبهم الاجتماعية ، وهو ما أثار سخط عائلات الضحايا...." ( 4 ).
ونسجل كذلك لحظاتنا التقمصية ونحن بين أسوار الجامعة المغربية ونحن نردد في التظاهرات الطلابية:
اشهد يا حزيران
في يومك العشرين
وطني انار الدرب
و النصر مشتعل
في يقظة الفلاح
في صرخة العامل
في ثورة الجمهور
يا شعبنا البطل
سعيدة يا زروال
دهكون يا رحال
مواكل الابطال
بالوعد تتصل
من مخبر المهدي
من عمر
عن روعة الاوطوروت
و باس من نزلوا
مدينة البيضاء
يا درب من قتلوا
ابناؤك الفقراء
اليوم قد وصلوا
وارتدائي قصيدة ( نكسة حزيران ) للشاعر " عبد الجبار الفياض " هو الطريق الذي سأسلكه في دراستي النقدية الذرائعية ، متتبعا وحدات التحليل الاستنباطي الذرائعي .
1 - حكمة اللغة عند الشاعر " عبد الجبار الفياض " في قصيدة " نكسة حزيران " :
يقول الشاعر والناقد الأدبي الفرنسي" إيف بونفوا "في اللغة العربية : " ... هي مكان طبيعي للشعر ، ولها الطاقة الجمالية تفتح الكتابة العربية على أفق لا نهائي من الموسيقى...." ( 5 ). لم يكن " بونفوا " وحده من استشعر تلك الطاقة اللامتناهية من الإيقاع في اللغة العربية ، بنثرها وشعرها ، فهي ليست مجرد حروف أبجدية أو كلمات مرتبة بل هي روح غامضة تستعصي على الوصف وهي كذلك خصبة التجارب الجمالية البحتة.
لنتأمل حكمة اللغة عند الشاعر في القفلة الأولى من القصيدة ( نحرث البحر !؟ بأسنان المشط !؟ / نقتات دوران الناعور !؟ لسقاية أرض يباب !؟ / خمسون عاما = النكسة العربية :
خمسون عاماً
ونحنُ نحرثُ البحرَ بأسنانِ المشط
وعلى الرّيحِ البَذار. . .
نقتاتُ دورانَ النّاعورِ لسقايةِ أرضٍ يباب . . .
لا سنابلَ
يُخيفُها منجلٌ عجوز. . .
لا بيادرَ
يأكلُ منها منقارُ طيرٍ
تيبّسَ من جوع. . .
خمسون عاماً
ونحنُ نُعيدُ ذبحَ الحُسين . . .
صلبَ المسيح. . .
نُخرجُ الحلاّجَ من قبرِهِ
لنمثّلَ بهِ أيّامَ التّشريق . . .
أينَها مطرقةُ قاضٍ
تدمغُ باطلَ الحبرِ السّريّ ؟
الرّصاصُ أساسُ الحُكم. . .
خمسون عاراً
ونحنُ نضرعُ إلى السّماءِ أنْ تجودَ بما أُنزلَ على قومِ موسى النّبيّ . . .
أنْ تفتحَ أمامَنا الأبوابَ من غيرِ مفتاحٍ يُدار . . .
اللغة حكمة عبقرية شاعر يجمع الكلمة والإيقاع ، دون أن تخرج اللغة عن تخوم المعنى، ودون أن تطغى الصورة على المعنى الفعلي ( نخرج الحلاج من قبره / لنمثل به أيام التشريق ...) .
يقول الناقد الناقد الاستاذ " أكرم ابو الراغب " : " ... جاءت قصيدتك عبارة عن صور إن صح التعبير ـ تنقلنا من دفقة شعورية إلى أخرى تعززها وتشد من بنائيتها ، سمعت من خلالها موسيقا خارجية متمثلة في الفاظك وتراكيبك المتعانقة ، عززها في هذا الانسياب السلس الذي يريح القارئ ، ويجعله منسجما مع القصيدة دون تعثر ، أو عوائق ... إضافة إلى هذه الألفاظ والبنى التي شكلت النسيج الجميل للقصيدة ، وما تحمله تلك الكلمات من دلالات عميقة تجعل من القصيدة بنائية متماسكة ومتلاحمة ، كدفقات شعورية قوية ومتلاحقة عكست عن معاناة حقيقية وتجربة شعورية صادقة . حقيقة لا يستطيع القارئ أن يعطي القصيدة حقها في قراءة عاجلة ، إذ لا بد له من قراءة متأنية معمقة لأن كل كلمة فيها تحكي شيئا ، وتصور حدثا وتروي قصة... " ( 6 ) .
2 - موعظة وعبرة اللغة في قصيدة " نكسة حزيران " :
النكسة وقبلها النكبة عكستا أحداثا كانت أكبر من إمكانية استيعابها ، ومن ثم تأثير اللغة النفسي على الإنسان العربي ، سواء الأجيال التي عايشتهما أو أخرى سمعت عنها وخبرت نتائجها ....لم يسعفنا فى قليله أو كثيره ، أن الإعلام والثقافة والجدل فى بلداننا العربية ومنتدياتنا التي ظلت تردد على مدى نصف قرن تحليل أسباب النكسة وجذور الهزيمة وسبل إنقاذ العالم العربي ... ودروس « النكسة » والعبر منها...لكن الذي يهمنا في دراستنا هو تكنيك الموعظة والعبرة عند الشاعر .
إن لغة الشاعر مصدرها الشعور من خلال علاقة وطيدة تجمع بين الفن والروح ، خاصة وأن الفن عند العربي لا يتنزل من آلهة يعلمنه الشعر ولكنه ينبع من أعماقه وذلك ما ترصده أخي " الناقد الاستاذ ابراهيم ابو شندي " حيث يقول : " ... الخمسون يا صديقي لم تعد خمسون .. بل أضحت سبعون وتزيد .. وأهل البنادق اصبحت لهم ارجل وعواكيز .. الماجدات من اهلنا اشجار تموت .. قصب من حناء الاصابع .. رتق في القلب المواجع .. شغف طفل حلم بالحلوى ولم تأته .. زنابق الورد غدت رؤوس افاع .. أصنام هي الآمال لا تموت .. والفجيعة تغزو كل البيوت .. الجداول أرهقها المسير .. والصعود للينابيع عسير .. خمسون هانت يا صديقي والسبعون تهون ..!! هناك .. في لجة الخوف الحزن جميل .. أكوام من جثث متعفنة .. في السراديب والخنادق .. في الساحات وفوق أعواد المشانق .. في الازقة وتحت الردم .. في الشوارع والمساجد .. تسمع الانين والعويل .. ولكل صوت قصة .. تتشابك الحكايات والتفاصيل .. وهناك عناوين تتصدر المشهد .. تسمى (الهزيمة) .. بل النكسة الكبرى .. !! يعصرني .. يقهرني .. ويثير في الغضب .. ذاك النداء القادم من عصابة تسمى(جامعة العرب) .. الشجب والاستنكار , والبحث عن حقوق في هيئة الامم .. وأي أمم تلك التي تكالبت على بلادكم , وتتكئ على أوجاعكم ؟ . أي نكرة انتم؟ وقد قالها فيكم شاعر العراق المظفر ماذا بعد الهزيمة والنكسة , الا المذلة والخذلان .. وهاأنتم تشربون من كأسه ولن تملوا.. !! .. .. تساوت كل المعاني .. الخوف .. الموت .. الهزيمة .. الخذلان .. ولم يبق سوى صوت واحد .. هو النصر .. ذلك يحدث غربي النهر .. ومن تبقى يعدون السنين , وعصي الجلاد .. وستبقى أمشاطهم تحرث أمواج البحر , لعلهم يجدون الأمان..!! .... هذا النضج في قصيدك يبهرني .. ويحفز في اشياء تلهمني الكلمات.. يعلمني الشوق للمفردات .. لقد أعجزتني علما بما أقول .. ورددت الي حب اللغة والابجدية .. حقا الاستاذ والصديق العزيز عبد الجبار الفياض , لقد اوغلت في عمق المعاني , ورسمت بكلماتك اللوحة المعقدة لأمة ارهقتها الهزائم .. وباتت تقتل بعضها بعضا .. أمعنت في قراءة التفاصيل بجرأة واقتدار .. سطرت اجمل المعاني وهي تنساب كشلال صاف .. اعجبني ذلك البناء الشفيق في تراكيب القصيدة , فجعل منها بنيانا شامخا .. كأنك تحمله فوق هامتك بإحساس ثوري أبي , فتخلده بشرى للأجيال .. بورك نبضك وشموخ قلمك الابي ...." . ( 7 )
خمسون عاراً
ونحنُ نضرعُ إلى السّماءِ أنْ تجودَ بما أُنزلَ على قومِ موسى النّبيّ . . .
أنْ تفتحَ أمامَنا الأبوابَ من غيرِ مفتاحٍ يُدار . . .
خمسون
ونحنُ لم نزلْ
نتعلّمُ آدابَ الدّخولِ إلى الكنيف . . .
نُصغي بانتباهٍ لقارئةِ الفنجان . . .
تفتُنُنا خطوطُ الكّفِ في شمسِ المعارف . . .
خمسون
ندسُّ الكذبَ الملوّنَ في كراريسِ الصّغار
نُقيّدُ خطوَهم في دروبِ البقاء . . .
في عيونِهم
نغتالُ عصافيرَ الصّباح. . .
من غير تبجيلٍ نَدَعهُ
يسفُّ جوعَه
من طباشيرِ سبورةِ زمنهِ الكسيح . . .
يمكن النظر لـ"النكسة" كأحد أبرز مصطلحات التهوين . كما أن مصطلح " النكسة " غطى على حقائق كارثية منها الهزيمة الفعلية للجيوش العربية ، وطرد آلاف الفلسطينيين من أرضهم... يقول " هيكل " : " .... للتعبيرات قوة تأثيرها فى حركة الأحداث ، عندما تقول هزيمة فإن كل شيء قد انتهى ، وعليك أن تقر بما جرى وتستسلم له ، بينما تعبير النكسة يساعد على لملمة الجراح ... ولتأكيد إرادة القتال من جديد ...". ( 8 )
أما البعض الآخر فيرى في مصطلح "النكسة" جريمة لتخدير الشعوب العربية ومحاولة لإخفاء حجم الكارثة التي تمثلت بأكبر هزيمة في تاريخ الحروب الحديثة ، سواء من ناحية حجم الأطراف التي خاضتها أو من ناحية سرعة الحسم أو من ناحية نتائجها الكارثية وآثارها بعيدة المدى على كافة المستويات والأصعدة.
"هوامش على دفتر النكسة" / نزار قباني
لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا/ لا بد أن نخجل من أشعارنا إذا خسرنا الحرب/ لا غرابه لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابه/بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة/ لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة"... كتب الشاعر نزار قباني قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" عقب الهزيمة مباشرة، فانتشرت على نطاق واسع .... ( 9 ) .
3 - عقلانية اللغة في قصيدة " نكسة حزيران " :
يعدّ التقمّص الوجداني إحساس بالتواصل مع الآخرين مع القدرة على معايشة أحاسيسهم الداخلية ، وهي صفات يملكها الناقد الرصين ، فيقارنها استنباطًا بصاحب النص ، فينطلق من نفسه أولًا ، و من ثقافته وتجربته النقدية الأدبية الذاتية ، ويلاحق ما يجده من حالات وإرهاصات يتشابه هو و الأديب فيها ، ويكون أكثر دراية بمقارنة هذا التقمّص في الحالتين ، واستخراج ما لا يستطيع استخراجه الإنسان أو المتلقي العادي.... فينتج عن هذا التقمّص الإنساني استنباطًا لما يجول بخاطر الشاعر و يسجّله ويستنتج ويستنبط الأفكار المخبوءة ما بين السطور.
ظل الشعر و الأدب عموما والفلسفة ممتزجين ومتصلين ببعضهما منذ بداية الفكر الإنساني وحتى العصور الحديثة ، يُستخدَم الشاعر " عبد الجبار الفياض " عقلانية لغته للدلالة على الكتابة الخيالية والجمالية كوعاء للأفكار التي تحتويها ( نأكل سقط متاعهم بلذة إفطار بعد صوم/ نلعق أصابعنا قبل كل وليمة ) ، كما ابتعدت عقلانية لغته عن فلسفة استخدام اللغة العلمية التي تلتزم منهجًا معينًا بهدف الوصول إلى نتائج وبراهين محددة ، أي أن عقلانية لغته ذات تأثير جمالي وتعبيري ( خارطة وجع يومي / تمتد من المحيط إلى الخليج / نبيع الدم العربي بسعر حزم البرسيم في مواسم الحصاد / نطبعه وشم انتصار على جدر المساجد ) ، وهذه العقلانية اللغوية كتب بها " نيتشه " ( هكذا تكلم زرادشت ) ، وكتب بها " هيدغر " الذي يقول : " يجب أن نمارس الفلسفة في شكل قصائد " ( 10 ) المرجع (5) نفسه ) ، فماهية العقلانية اللغوية تجعل من الشعر مؤسسا للوجود ، وماهية البشرية أن تحيا شعرا ، أو كما تقول " هولدرلين " : " ... وما يبقى يؤسسه الشعراء " . ( 11 ) ( المرجع ( 5) نفسه ) .
خمسون
ونحنُ نلهثُ وراءَ عرّابينَ
كنّا لهم طوعَ البنان. . .
نأكلُ سقطَ متاعِهم بلذةِ إفطارٍ بعدَ صوم . . .
نلعقُ أصابعَنا قبلَ كُلِّ وليمة
نكيلُ لهُم الثّناءَ بلا صِواع . . .
خمسون
وغِشاوةُ الجّنس
تحجبُ عنّا شروقَ الشّمس. . .
ماءٌ يُراقُ
كانَ في الوجهِ عزيزاً
لا يُراق. . .
تعلّمْنا فنَّ البَذاءاتِ الملفوفةِ بورقِ
التّواليت. . .
خمسون
خارطةُ وَجعٍ يوميّ
تمتدُّ من المحيطِ إلى الخليج . . .
حربٌ بين فوقِنا وتحتِنا
رَفدْناها سنيناً من غباء . . .
نبيعُ الدّمَ العربيّ بسعرِ حُزمِ البرسيمِ في مواسمِ الحصاد . . .
نطبعُهُ وشمَ انتصارٍ على جُدرِ المساجد . . .
العقلانية اللغوية فلسفة الشاعر خبرها عبر التجربة كعاشق للغته وكشاعر يكتب قصيدته التي تختلف بالضرورة عن قصائد غيره من الشعراء وفي نفس الموضوع " النكسة العربية " كدهشة محركة ومولدة للتفلسف العقلاني اللغوي .
يقول الشاعر" نعمة يوسف" عن قصيدة (النكسة) : " حينما تقرأ للشاعر الجليل الأستاذ عبد الجبار الفياض ، تجده يفيض شعرا وحبا وإإنسانية ..تجد نفسك وأنت أمام ((معلقة شعرية)) أو ((مسلة شاهقة)) دونت ونحتت على جدرانها المتعددة مشحونة بأنواع الألم والوجع والمأساة بلغة تصلح لكل العصور و كأنها كتبت قبل الآف السنين وليس اليوم .. النكسة والخيبات والفشل ... وأنت تقرأ النص وما مكتوب في فحواه حتى تجد نفسك تشاهد صور ورسومات تتحدث عن الملوك والأنبياء ، عن معجزاتهم وخيباتهم ، عن هبوط الديانات مع رسلها ، يكتب لنا مدونات على هذه الجدران ، جدران ملاحم الشاعر الفياض السومري المتميزة ، الشاعر الذي تمتد روحه لكل حضارات العراق السابقة ليومنا هذا ، بكل خسائرها ها ودمارها دونما هناك بصيصا للفرح والسعادة.. إنها روح السومري الشجاع الوطني ...خمسون عاراً ... خمسون ...خمسون .. خمسون ... خمسون عاما من الذل والعهر ! ... هو ليس نصا أو خطابا يعبر عن إحدى النكسات التاريخية وينساب على المسامع بكل الوجع حاملا كل ((الخيبات )) ((والهزائم )) المتعاقبة التي مرت والتي لم تأت بعد .... كأنها رواية مأساوية قصيرة محملة بصور شعرية موجعة مليئة بالفقدان ، قصص تحمل رسائل إنسان وطني يشعر بغربة الوطن بين البلدان وغربته أيضا داخل الوطن ، حكايا بصور شعرية نسجت بين الخيال والذكرى والواقع ... هي ملحمة أو معلقة أو مسلة
بما ورد فيها هو عبارة عن هيجان بحر من اللغة والصورة والإنسانية والمواقف الوطنية الكبرى للشاعر لمعنى النكسة والخذلان في الوطن المفقود ، هي هواجس وحنين رغبات متكسرة في ذلك الأنين والصوت الذي يدنو من خمرة الذكرى للوطن المعافى وليس الكسيح ... ..." ( 12 )
4- التوازن الانفعالي للغة الشاعر في قصيدة " نكسة حزيران"
يتفوّق النقد حين يصبح مهمًّا جدًّا في مراقبة ومواكبة الأدب ، وتوجيهه نحو المسلك الأرقى ، الذي يرتفع به المجتمع فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا ، لذلك تقاس مهارة الناقد وسطوته النقدية بالجانب المخبوء من النصوص الأدبية أكثر من الجانب العيني أو البصري ، وهو ما يشير له جميع فلاسفة النقد . نتقمّص شخصية الشاعر للبحث عن مفاهيم ودلالات التوازن الانفعالي للغة الشاعر الفلسفية والاجتماعية و الإنسانية ... لأن الشعر حالة وجدانية تصيب الشاعر و فيها يختلف عن عموم الناس .
إن التوازن الانفعالي للغة الشاغر في قصيدته كان موجودًا قبل أن يشرع فكره في التفكير من خلال كلمتي : ( خمسون عاما + خمسون ) ( خمسون عاماً / ونحنُ نحرثُ البحرَ بأسنانِ المشط / وعلى الرّيحِ البَذار. . . / نقتاتُ دورانَ النّاعورِ / لسقايةِ أرضٍ يباب . . . / لا سنابلَ / يُخيفُها منجلٌ عجوز. . . / لا بيادرَ / يأكلُ منها منقارُ طيرٍ / تيبّسَ من جوع. . . خمسون عاماً) ، توازن انفعالي للغة الشاعر التي ترصد مصير أمة ، لأن الشعر هو اللغة الأصلية للشعور ، وهو الكلمات الانفعالية المتوازنة للغة تنطلق من مخيلة الإنسان .
خمسون
نحشو جيوبَ الغُرباءِ من جيوبِ أرضٍ
شهدتْ مهبطَ كُلِّ الأنبياء . . .
نأتي بالسّلاحِ موتاً
نجربُهُ لقطفِ أرواحِ الأقربين . . .
نعلّمُ الأخَ كيفَ يفري بطنَ أخيه؟
يحفرُ لهُ جُبّاً
ليدفنَهُ حيّاً ذاتَ يوم. . .
خمسون عاماً
ونحنُ نستبدلُ حروفَ الإنحناءِ بحروفِ الخُبزِ من صناديقِ الأمم . . .
ليسَ لنا من الذّهبِ الأسودِ سوى دخانهِ الأسود . . .
خمسون
وحسابُ اللّصوصِ أرضٌ حرام
مَنْ يحاولُ تقليبَ صفحاتِهِ الحصينةِ
يموت. . .
حقائبُهُ حُبلى
تُلقي حملَها بعيداً في أقبيةٍ
تجهلُها بوصلةُ المكان!
خمسون
يرى «جيل دولوز» أن «الفلسفة بتدقيق كبير هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم» دون الاكتفاء بالتأمل الذي هو حقل يسع كل الناس ، وليس حِكرًا على الفلاسفة لوحدهم . لذلك أعتبر إن الشعر يجعلنا نرى التوازن الانفعالي للغة مألوفا في تجلياته الأولى والمدهشة ، في حين تجعلنا الفلسفة نرى الغريب مألوفًا.
خمسون
نصنعُ سيوفَاً من جريدِ النّخلِ لحربٍ في بقاعٍ خالية . . .
مهزومون حتى في نصفِ رقعةِ شطرنج
تُثقلُ صدورَنا نياشينُ الهروبِ من الحروب . . .
خمسون عاماً
ونحنُ نلعنُ الأميركيَّ الذي مضى الذي حضر
الذي يأتي
ونحنُ لم نشبعْ من شمِّ رائحةِ إبطيْه . . .
هل للتّفاهةِ وجهٌ آخر ؟
خمسون
إن فكر التوازن الانفعالي للغة لا يكون فلسفيًّا دائمًا ، فهو تارة يكون فلسفيًّا، وأخرى شعريًّا، وطريقة التعامل مع اللغة هي سبب الالتباس . ( تصنغ سيوفا من جريد النخل لحرب في بقاع خالية .../ مهزومون حتى في نصف رقعة شطرنج ) . يعتمد التوازن الانفعالي للغة عند الشاعر " عبد الجبار الفياض على الصور والمجازات والاستعارات بكثافة تجعل الفكر يلتحم مع العقلانية اللغوية ، بالرغم أن المطلوب في الشعر أن تفضل العاطفة على العقل ( هل للتفاهة وجه آخر ؟ ) ، وتنفتح على سؤال الشعر الفلسفي.
نشنقُ شفاهَ الرّفضِ على أعمدةِ أمانِ الأمّة
سلامةِ سلطانِ الأمة. . .
ايةُ أمّةٍ تمحو أسمَ الأمّة ؟
نُطعمُ القبورَ لحمَ الزّاحفينَ لكتابةِ جديدِ الأمة . . .
خمسون
ونحنُ نطوفُ بأصنامٍ
أوصلتْنا إلى وحلِ هزيمةٍ
ما بقيَ لنا بعدَها حبلُ غسيل . . .
إلى ذيلِ الرّكبِ
مُصفّدين بأغلالِ خوفٍ
رُكّبَ من خوف. . .
خمسون
نترجمُ نقيقَ الضّفادع
نردّدُ كُلّ صباحٍ صوتَ صفيرِ البُلبل . . .
نقطعُ حناجرَ هُتافٍ لوطنٍ
يتكيءُ على منسأةٍ من عصورٍ
لم يبقَ منها سوى شاهدة. . .
نرقبُ كافورَ كي يذبحَ لنا العيدَ من قفا . . .
خمسون
ونحنُ نسرقُ نحنُ
نشتمُ نحنُ
نصنعُ خناجرَ من ظلامٍ لطعنِ نحنُ
النّاسُ للأمامِ إلآ نحنُ . . .
خمسون عاما
كذبوا علينا
وما زالوا يكذبون. . .
مؤتمراتُ الجّماجمِ الفارغة
تنفضُّ ببياناتٍ فارغة. . .
تُتلى بمفرداتٍ فارغة
إلآ من وعودٍ فارغة. . .
يا للفراغِ المقدّسِ الذي نعيشُهُ بجيوبٍ فارغة !
فمتى الرّجمُ أيّتُها النّطفُ الباقية ؟
لا
لا تخرُجي الآن
فكُلُّ شيءٍ ملوّثٌ إلآ ما رحِمَ ربّي !
قالَها من قبلُ رجلٌ من العراق *
(لا استثني أحداً. . .
ربَما
الإستثناءُ اهترأ. . .
لا بأسَ
أنْ يُعادَ رتقُهُ من جديد
بعدَ أنْ استعادَ سمعَهم الأموات !!
. . . . .
الشاعر في قصيدته يترك الواقعي متحسرا إلى الخيالي ، يحاور الحلم يغازله ويداعبه ويداعبه ، بل يخلقه ويجعل فيه حياة ، ويستأنس به ، ويجعل من كل ما هو صغير الشأن أسطورة في عين الرائي/السامع/القارئ ( يا للفراغ المقدس الذي نعيشه بجيوب فارغة ! / فمتى الرجم أيتها النطف الباقية ؟) الشاعر يؤسس وجودًا آخر أكثر رحابة ، وحياة خيالية ، لكنها حيوية أكثر من حياتنا المعيشة.
إن الشاعر يخلق التوازن الانفعالي للغته ، أي أن لغته تصبح أكثر تواصلية من اللغة العادية الشعرية شريطة أن يتعامل معها القارئ بحرية. إذ تتبدل وظائف الحواس ، ما يجعل الأذن ترى ، والعين تسمع ، والصمت يتكلم ، والكلام يخرس ...
الدراسة من إعداد : عبد الرحمن الصوفي / المغرب
-------------------------------------------------------------------------------------
القصيدة كاملة :
نكسة حزيران ( 5 حزيران 1967 ) / بقلم الشاعر : عبد الجبار الفياض / العراق
خمسون عاماً
ونحنُ نحرثُ البحرَ بأسنانِ المشط
وعلى الرّيحِ البَذار. . .
نقتاتُ دورانَ النّاعورِ لسقايةِ أرضٍ يباب . . .
لا سنابلَ
يُخيفُها منجلٌ عجوز. . .
لا بيادرَ
يأكلُ منها منقارُ طيرٍ
تيبّسَ من جوع. . .
خمسون عاماً
ونحنُ نُعيدُ ذبحَ الحُسين . . .
صلبَ المسيح. . .
نُخرجُ الحلاّجَ من قبرِهِ
لنمثّلَ بهِ أيّامَ التّشريق . . .
أينَها مطرقةُ قاضٍ
تدمغُ باطلَ الحبرِ السّريّ ؟
الرّصاصُ أساسُ الحُكم. . .
خمسون عاراً
ونحنُ نضرعُ إلى السّماءِ أنْ تجودَ بما أُنزلَ على قومِ موسى النّبيّ . . .
أنْ تفتحَ أمامَنا الأبوابَ من غيرِ مفتاحٍ يُدار . . .
خمسون
ونحنُ لم نزلْ
نتعلّمُ آدابَ الدّخولِ إلى الكنيف . . .
نُصغي بانتباهٍ لقارئةِ الفنجان . . .
تفتُنُنا خطوطُ الكّفِ في شمسِ المعارف . . .
خمسون
ندسُّ الكذبَ الملوّنَ في كراريسِ الصّغار
نُقيّدُ خطوَهم في دروبِ البقاء . . .
في عيونِهم
نغتالُ عصافيرَ الصّباح. . .
من غير تبجيلٍ نَدَعهُ
يسفُّ جوعَه
من طباشيرِ سبورةِ زمنهِ الكسيح . . .
خمسون
ونحنُ نلهثُ وراءَ عرّابينَ
كنّا لهم طوعَ البنان. . .
نأكلُ سقطَ متاعِهم بلذةِ إفطارٍ بعدَ صوم . . .
نلعقُ أصابعَنا قبلَ كُلِّ وليمة
نكيلُ لهُم الثّناءَ بلا صِواع . . .
خمسون
وغِشاوةُ الجّنس
تحجبُ عنّا شروقَ الشّمس. . .
ماءٌ يُراقُ
كانَ في الوجهِ عزيزاً
لا يُراق. . .
تعلّمْنا فنَّ البَذاءاتِ الملفوفةِ بورقِ
التّواليت. . .
خمسون
خارطةُ وَجعٍ يوميّ
تمتدُّ من المحيطِ إلى الخليج . . .
حربٌ بين فوقِنا وتحتِنا
رَفدْناها سنيناً من غباء . . .
نبيعُ الدّمَ العربيّ بسعرِ حُزمِ البرسيمِ في مواسمِ الحصاد . . .
نطبعُهُ وشمَ انتصارٍ على جُدرِ المساجد . . .
خمسون
نحشو جيوبَ الغُرباءِ من جيوبِ أرضٍ
شهدتْ مهبطَ كُلِّ الأنبياء . . .
نأتي بالسّلاحِ موتاً
نجربُهُ لقطفِ أرواحِ الأقربين . . .
نعلّمُ الأخَ كيفَ يفري بطنَ أخيه؟
يحفرُ لهُ جُبّاً
ليدفنَهُ حيّاً ذاتَ يوم. . .
خمسون عاماً
ونحنُ نستبدلُ حروفَ الإنحناءِ بحروفِ الخُبزِ من صناديقِ الأمم . . .
ليسَ لنا من الذّهبِ الأسودِ سوى دخانهِ الأسود . . .
خمسون
وحسابُ اللّصوصِ أرضٌ حرام
مَنْ يحاولُ تقليبَ صفحاتِهِ الحصينةِ
يموت. . .
حقائبُهُ حُبلى
تُلقي حملَها بعيداً في أقبيةٍ
تجهلُها بوصلةُ المكان!
خمسون
نصنعُ سيوفَاً من جريدِ النّخلِ لحربٍ في بقاعٍ خالية . . .
مهزومون حتى في نصفِ رقعةِ شطرنج
تُثقلُ صدورَنا نياشينُ الهروبِ من الحروب . . .
خمسون عاماً
ونحنُ نلعنُ الأميركيَّ الذي مضى الذي حضر
الذي يأتي
ونحنُ لم نشبعْ من شمِّ رائحةِ إبطيْه . . .
هل للتّفاهةِ وجهٌ آخر ؟
خمسون
نشنقُ شفاهَ الرّفضِ على أعمدةِ أمانِ الأمّة
سلامةِ سلطانِ الأمة. . .
ايةُ أمّةٍ تمحو أسمَ الأمّة ؟
نُطعمُ القبورَ لحمَ الزّاحفينَ لكتابةِ جديدِ الأمة . . .
خمسون
ونحنُ نطوفُ بأصنامٍ
أوصلتْنا إلى وحلِ هزيمةٍ
ما بقيَ لنا بعدَها حبلُ غسيل . . .
إلى ذيلِ الرّكبِ
مُصفّدين بأغلالِ خوفٍ
رُكّبَ من خوف. . .
خمسون
نترجمُ نقيقَ الضّفادع
نردّدُ كُلّ صباحٍ صوتَ صفيرِ البُلبل . . .
نقطعُ حناجرَ هُتافٍ لوطنٍ
يتكيءُ على منسأةٍ من عصورٍ
لم يبقَ منها سوى شاهدة. . .
نرقبُ كافورَ كي يذبحَ لنا العيدَ من قفا . . .
خمسون
ونحنُ نسرقُ نحنُ
نشتمُ نحنُ
نصنعُ خناجرَ من ظلامٍ لطعنِ نحنُ
النّاسُ للأمامِ إلآ نحنُ. . .
خمسون عاما
كذبوا علينا
وما زالوا يكذبون. . .
مؤتمراتُ الجّماجمِ الفارغة
تنفضُّ ببياناتٍ فارغة. . .
تُتلى بمفرداتٍ فارغة
إلآ من وعودٍ فارغة. . .
يا للفراغِ المقدّسِ الذي نعيشُهُ بجيوبٍ فارغة !
فمتى الرّجمُ أيّتُها النّطفُ الباقية ؟
لا
لا تخرُجي الآن
فكُلُّ شيءٍ ملوّثٌ إلآ ما رحِمَ ربّي !
قالَها من قبلُ رجلٌ من العراق *
(لا استثني أحداً. . .
ربَما
الإستثناءُ اهترأ. . .
لا بأسَ
أنْ يُعادَ رتقُهُ من جديد
بعدَ أنْ استعادَ سمعَهم الأموات !!
. . . . .
عبد الجبّار الفيّاض
5 /حزيران/ 2020
* الكبير النّواب.
------------------------------------------------------------------------
الهوامش :
1 – مجلة الأقلام / عدد 11 / 1980 / الصفحة 18
2 – النظرية الذرائعية في التطبيق / عبدالرزاق عودة الغالبي
3 – المرجع ( 2 ) نفسه
4 – الملحق الثقافي / الاتحاد الاشتراكي / 16 / 3 / 1993
5 – الكرمل / عدد 25 / الصفحة 88
6 – منقول من صفحة الشاعر الفيسبوكية
8 – العلم الثقافي / 23 / 10 / 1988
9 – عالم الفكر / عدد 11 / الصفحة 45
10 – المرجع ( 5) نفسه / الصفحة 12
11 – المرجع ( 5) نفسه / الصحة 18
12 – منقول من صفحة الشاعر الفبسبوكية
نوال السعداوي
إذا كان تعريف المومس أنها المرأة التي تقبل العلاقة الجنسية بالرجل ﻷسباب تجارية ونفعية ، فلابد أن يسري هذا التعريف على أي امرأة تقبل العلاقة الجنسية بالرجل ﻷسباب تجارية ونفعية ، وبهذا لا تختلف العلاقة الزوجية القائمة لمصلحة تجارية ونفعية في جوهرها عن الدعارة ، ربما كان هناك اختلاف في الشكل من حيث توقيع عقد الزواج الشكلي ، و من حيث أن اﻷجر الذي تتلقاه الزوجة يختلف في طريقة دفعه عن اﻷجر الذي تتلقاه المومس ... لكن المضمون واحد من حيث افتقاد العلاقتين للحب الحقيقي والذي بدونه تصبح العلاقتان غير شريفتين ..
نوال السعداوي
توماس بين
إنني لا أؤمن بعقائد اليهود، ولا عقائد كنيسة روما، ولا كنيسة الأرثودكس الشرقية، ولا عقائد المسلمين، ولا البروتستانت!!.. ولا أي مؤسسة دينية!!
فعقلي هو كنيستي، فجميع الكنائس هي عبارة عن بدع بشرية أُنشأت وتأسست لإرهاب البشر واسترقاقهم، ولاحتكار السلطة وتحقيق المكاسب على حساب الانسان!
إنني لا أهدف الى تدمير الدين السائد، إنما أهدف الى منع الفساد الناتج عن سيطرته باسم الدين، فاللاعقلانية التي تُمارس باسم الدين تقوض النظام الاجتماعي وتدمره
إنني أتصدى للخرافة الزائفة، واللاهوت الزائف، فهذه النظم الدينية المزيفة تفقدنا الأخلاق الانسانية!!
إن مدرساً واحداً جيد,أكثر فائدة من مائة كاهن.
- توماس بين
مراجعة: مشير باسيل عون
الله، العلم، البراهين: فجرُ ثورةٍ
صدر في باريس، حديثاً كتابٌ جدليٌّ بيع منه في السوق زهاء مليون نسخة. الأمر نادرٌ في الكتب الصادرة باللغة الفرنسيّة. غير أنّ الكتاب الذي يحمل عنواناً لافتاً: "الله، العلم، البراهين: فجرُ ثورةٍ" (Dieu – La science – Les preuves : L’aube d’une révolution) يستجمع أبلغ النظريّات العلميّة التي تؤيّد فرضيّةَ وجودِ إلهٍ خالقٍ في أصل نشأة الكون.
صاحبا الكتاب ميشال-إيڤ بولّورِه، مهندس المعلوماتيّة ودكتور العلوم بجامعة باريس (دوفين)، وأوليڤييه بوناسي، خرّيج معهد البوليتِكنيك الباريسيّ ومجاز في اللاهوت المسيحيّ من معهد باريس الكاثوليكيّ.
قدّم الكتاب العالمُ الفيزيائيُّ وألمعُ علماء كوسمولوجيا الأحياء الأميركيُّ روبِرت ويلسون (1936-....) الحائز جائزةَ نوبِل عن أبحاثه التي أفضت إلى اكتشاف البيغ بانغ أو الانفجار الكونيّ الأصليّ الأعظم.
ينطوي الكتاب الضخم (حوالى 550 صفحة) على قسمَين رئيسَين: يتناول القسم الأوّل (12 فصلاً) البراهين المرتبطة بالعلم، في حين يعالج القسم الثاني (8 فصول) البراهين المستخرجة من سائر الحقول المعرفيّة والوجوديّة الأخرى. أمّا الفصول، فلا تقترن بعضها ببعض اقتراناً مضمونيّاً يضطرّ القارئ إلى مواصلة القراءة حتّى لا ينقطع الخيط الناظم والصلة الهادية، إذ يكفي المرء أن يقرأ فصلاً ويغوص على معانيه، ومن ثمّ ينتقل إلى فصلٍ آخر من غير أن يفقد الرابط الذي يؤهّله للإدراك السليم. أراده الكاتبان كتاباً قريباً من الإدراك الثقافيّ المتوسّط المستوى حتّى يقرأه جميعُ الناس الراغبين في فهم مسألة وجود الله. لذلك استقرأا كثيراً من الشبّان والشابّات الذين لا ينتسبون إلى أيّ خلفيّة علميّة أو فلسفيّة، وأظهرا حرصهما على تبسيط التناولات والتحليلات، فزيَّنا الحواشي بمعلومات علميّة ضروريّة، وأضافا الملاحق لكي يساعدا القارئ في الاستزادة والتعمّق. واستعانا بحوالى عشرين من أبرز العلماء في الاستشارة والتوجيه والتقويم من أجل تجويد كتابة موادّ الكتاب.
ضرورة القول بأصل إلهيّ
ينطوي الكتاب إذاً على استقصاءاتٍ علميّةٍ وتعريفاتٍ دقيقةٍ تُبيّن خلاصات العلم في شأن مسألة الله الخالق. فالبحث كلّه ليس اجتهاداً لاهوتيّاً أو دينيّاً يستعرض طبيعة الله وصفاته، بل سعيٌ علميٌّ إلى استيضاح نظريّة الخلق الإلهيّ. وليس الكتابُ دفاعاً لاهوتيّاً عن تدبير الحكمة والخلاص في الأديان التوحيديّة وغير التوحيديّة، بل نظرٌ حياديٌّ موضوعيٌّ في طبيعة الكون والاستفسار عن مادّته الأقصى: هل العالم كتلةٌ مادّيّةٌ محضٌ؟ أم إنّه ينطوي على أثر روحيٍّ منبثقٍ من فعل الخلق الإلهيّ الذي يفترضه العلمُ قبل الإيمان الدِّينيّ؟
في هذا السياق، يُكبّ الكاتبان على استيضاح العلاقة الممكنة بين الفيزياء والمِتافيزياء (ما بعد الطبيعة أو ما وراءها أو ما فوقها). أمّا الفرضيّتان الأساسيّتان اللتان يقوم عليهما البحثُ كلُّه، فأعاينهما في قضيّتَين خطيرتَين. ترسم الفرضيّة الأولى أنّ العالم يحتاج إلى مهندسٍ أو خالقٍ أو مصمّمٍ حتّى يستقيم قوامُه، وتنضبط حركتُه، ويتّسق مسارُه، ويكتسب معناه الذي يليق بمقام الكون والإنسان. إذا كان الكون قد بدأ بالانفجار الأعظم (البيغ بانغ)، فإنّ السؤال عن الأصل الأوّل الخالق يضحي مشروعاً، لا بل حتميّاً. أمّا الفرضيّة الثانية، فتعلن أنّ العلم انعطف انعطافاً جليّاً في مستهلّ القرن العشرين، فغدا يميل ميلاً أشدَّ إلى اعتماد مبدأ الهندسة الأصليّة الإبداعيّة الإلهيّة.
ومن ثمّ، يحاول الكاتبان أن يبيّنا أنّ مسألة وجود الله ليست مستحيلة التناول، ولو أنّ الناس مختلفون في معالجتها، منهم من يرفض هذا الوجود، ومنهم من يثبته، وفي كلا الجانبَين نخبةٌ من أهل الذكاء الألمعيّ. فإنّ قضيّة الله ليست معلّقةً على الإطلاق، بل أضحت تؤيّدها علناً ضمّةٌ من الاكتشافات العلميّة الواضحة التي أنجزتها البشريّة في المئة سنة الأخيرة والتي لا يمكن المرء العاقل أن يُنكر وقعها وأثرها ومدلولها. غير أنّ الكتاب لا يفرض حقيقةً نهائيّةً تُكره الجميع على القبول بوجود الله، بل يستعرض الوقائع العلميّة التي يُفترض أنّها تؤيّد هذه النظريّة تأييداً منطقيّاً جليّاً.
يقتصر التناولُ الناشطُ في تحليلات الكاتبَين على تصوّر الله كائناً متسامياً خالقاً، وعقلاً مهندساً مصمِّماً، وروحاً متعالياً مقتدراً. لذلك يمتنع الكاتبان، لا سيّما في القسم العلميّ الأوّل الأكبر، عن تسمية الله وحصره في تقليدٍ لاهوتيٍّ متواترٍ تأثره لنا الأنظوماتُ الدِّينيّة العالميّة، على تنوّع تصوّراتها وبناءاتها ومعتقداتها ومفاهيمها ومقولاتها. يعتني الكاتبان باستجلاء ضرورة العقل الأسمى الروحيّ الفائق الوصف، مهندس الكون الرحيب المعقّد، ومصمّم النظام الضابط الكلَّ، والجامع شتيتَ الأشياء والوقائع والأحداث. بين نظريّة الصدفة والإمكان المحض والتطوّر الداروينيّ العفويّ التلقائيّ الانتظاميّ، ونظريّة الخلق القصديّ والتصميم العمديّ، يختار الكاتبان موقعهما، فيؤيّدان النظريّة الثانيّة ويدعمانها بالأدلّة العلميّة، لا بالاستدلالات العقليّة المجرّدة.
إشكاليّة مقولة البرهان العلميّ
يقينُ الكاتبَين أنّ العلماء اكتشفوا حقائقَ علميّةً لم يكونوا يتوقّعونها أو حتّى يريدونها في حياديّة الموضوعيّة البحثيّة التي اتّسم بها موقفُهم العلميّ. فطرأ على العلم عينه تحوّلٌ جليلٌ أفضى إلى الاعتراف بأحقّيّة نظريّة الخلق الأصليّ والهندسة الناظمة. بيد أنّ المشكلة تنشأ من إدراك مقولة البرهان العلميّ إدراكاً صائباً. ذلك بأنّ الناس يخطئون في مسألة البراهين، فيتوهّمون أنّ البرهان العمليّ على وجود الله برهانٌ قاطعٌ قاهرٌ راسخٌ يضطرّ الجميعَ، من غير استثناء، إلى القبول بخلاصاته والاعتراف بالإيمان سبيلاً وحيداً إلى الحياة. غير أنّ الكاتبَين يذكّران الجميع بأنّ البراهين المطلقة لا تصحّ إلّا في الرياضيّات، إذ إنّ حقائقها ثابتةٌ حتّى لو تبدّلت الأحوالُ أو تغيّر وجهُ العالم، فتوطّنت نخبةٌ من الناس من أصحاب الهندسة الجينيّة المختلفة كواكبَ أخرى.
في وقائع الحياة، ليس من براهين مطلقة، بل نظريّاتٌ تصحّ أو تبطل بحسب طبيعة الأدلّة المسوقة والمعطيات المعرفيّة الممكنة في قرائن البحث الإبّيستِمولوجيّة المتّصلة بأساسيّات المعرفة. ومن ثمّ، فليس من برهانٍ علميٍّ قاطعٍ على وجود الله، بل بالأحرى مجموعةٌ من البراهين التي يستخرجها الكاتبان من حقولٍ معرفيّةٍ شتّى. من خصائص هذه البراهين المتنوّعة المصادر العلميّة أنّها منفصلةٌ بعضها عن بعض ومستقلّةٌ استقلالاً واضحاً، وأنّها تصرّ على وجوب الأصل الإلهيّ الخالق حتّى يستقيم معنى الكون.
المنعطف العلميّ في القرن العشرين
في مُستهلّ الكتاب تصميمٌ يقارن اكتشافات العلوم وخلاصاتها في القرن التاسع عشر بفتوحاتها ونتائجها في القرن العشرين. مالت العلومُ في القرن التاسع عشر إلى إنكار وجود الله والإعراض عن فرضيّة الأصل الخالق. وانبرى العلماء والمفكّرون، من أمثال كوبرنيك وغاليليو ولابلاس وداروين ولامارك وفويرباخ وفرويد ونيتشه، يرفضون مبدأ الوجود الإلهيّ الماورائيّ المِتافيزيائيّ. أمّا في القرن العشرين، فجرى تحوّلٌ خطيرٌ في مسار العلوم أفضى بها إلى إثبات البدء الكونيّ إثباتاً علميّاً. منذ تلك اللحظة، كان من واجب العلماء أن يبيّنوا طبيعة البدء المذهل هذا. فإذا بهم يستعينون بالاكتشافات العلميّة الثوريّة التي أخذت تميل بهم إلى ضرورة القول بالأصل الإلهيّ الخالق. تناصرت على هذه النظريّة علومٌ شتّى، منها الديناميّات الحراريّة، والمِكانيك الكوانتيّة، والنسبيّة الكونيّة، وكوسمولوجيا البيغ بانغ، وبيولوجيا التركيبة العضويّة المعقّدة في الكائن الحيّ، والباليونتولوجيا (علم الإحاثة) والأركيولوجيا (علم الآثار القديمة)، وعلوم التدقيق الجزئيّ في قياس حجم الكون المتحوّل تقلّصاً وتمدّداً.
يتناول الكاتبان مثلَ هذا التحوّل، ويسوقان الأمثلة المفيدة على تطوّر العلوم. فيتّضح لهما أنّ أينشتاين كان ما زال يعتقد في عشرينيّات القرن المنصرم أنّ العالم قديمٌ، لا بدءَ له، غيرُ مخلوق، وأنّه في حال الثبات الستاتيكيّ لا يتحوّل ولا يتبدّل. بيد أنّه، على غرار معظم علماء القرن العشرين، ما لبث أن أدرك صعوبة مثل هذه النظريّة. فطفق يعدّل في أقواله وينحو منحى الاعتراف بارتباطيّة الكون الضروريّة في الأصل والمسار والمنتهى. ومع أنّه حاول أن يلوي المعطيات العلميّة لوياً يتيح له أن يتجنّب الاعتراف بالبدء الأصليّ وبتبعاته ونتائجه، إلّا أنّه عاد فاعترف باستحالة الإنكار، وبضرورة القول بعقلٍ علويٍّ متسامٍ قادرٍ على تصميم الخلق تصميماً مذهلاً. في الفصل الذي خصّصه الكاتبان لهذا العالم، يتبيّن أنّ القول بالعقل المهندس لا يستتلي اعتراف أينشتاين بالإله الشخصيّ.
زواليّة الكون دليلٌ على البدء الإلهيّ
وعليه، فإنّ الحياة ليست واقعاً بديهيّاً عفويّاً، بل إمكانٌ شديدُ التردّد في احتماليّته الأصليّة، إذ إنّه في صميمه جائزٌ جوازاً مطلقاً، بحيث إنّ عدم قيامه في الأصل يوازي واقعَ انبساطه بالفعل. شأنُ الكون كشأن الشمس التي نشأت منذ أربعة مليارات سنة وستنطفئ بعد خمسة مليارات سنة. إذا كان للشمس من بدءٍ ومنتهى، فإنّ للكون أيضاً بدءاً ومنتهى، وللحياة وللعالم وللإنسان. بعد ملياراتٍ من السنوات ستنطفئ أيضاً الكواكبُ كلُّها، وسيتضخّم الكونُ تضخّماً عظيماً، ويتجلّد تجلّداً مرعباً، ويتّشح بالسواد المطلق، وتتضاءل كثافتُه إلى الحدّ الأدنى. إنّه الموت الحراريّ ينتاب الكون في مختتم مساره الرهيب.
في هذا السياق، يحرص الكاتبان على تيسير فهم النظريّات العلميّة. فيسوقان على مسألة زواليّة الكون قصّة الإنسان التائه في غابةٍ من الجليد القارس يستهدي إلى قبوٍ ينبعث من عليّته دخانُ المدفأة الحطبيّة، فيلوذ بالقبو الفارغ من غير استئذان، ويجلس إلى الموقد ويحتمي من البرد بالنار المضطرمة. غير أنّه لا يلبث أن يعاين انطفاء جذوع الحطب الواحد تلو الآخر. فتعتريه شكوكُ المآل المظلم بعد انطفاء النار. ولكنّ الشكوك ليست عبرةَ العبَر في هذه القصّة، بل الاستفسار عن أصل النار. لو كانت هذه النار أزليّةً في بدئها، لما انتهت إلى الانطفاء. الخلاصة أنّ الكون، بما أنّ أنواره ستنطفئ في يومٍ من الأيّام، فإنّ في ذلك دليلاً دامغاً على اشتعالها في زمنٍ من أزمنة البداية. ومن ثمّ، فإنّ النار التي تنطفئ ليست ناراً أبديّة، شأنها شأن الشمس المتّقدة التي ستخبو نارها بعد خمسة مليارات سنة.
في أثناء الدقائق الثلاث الأولى من نشأة الكون (الانفجار العظيم) نشأت جميعُ الذرّات الأصليّة التي ينعقد عليها الكون. منذ تلك اللحظة، ما برحت جميع عناصر الكاربون المنتشر في الكون تتحوّل إلى مادّة الإليوم التي تحترق في أتّون الشمس، فتختفي اختفاءً نهائيّاً لا رجعة عنه. وحدها المعاينة العلميّة هذه تُبيّن أنّ نظريّة العود الأبديّ والتكرار الدائم لا ترتكز على مستندات علميّة موثوقة. لذلك نشأ الكون على بدءٍ وعلى منتهًى وعلى قانونٍ صارمٍ من التطوّر القصديّ الغائيّ الهادف. زد على ذلك أنّ القوانين التي تحكم تطوّر حركة الكون منذ الانفجار الأوّل تتّصف بقدرٍ عظيم من الدقّة اللامتناهية يتيح للكون أن يتمدّد من غير أن ينحلّ، وللمجرّات أن تنشأ وتنمو وتتطوّر من غير أن تنفجر، وللكواكب أن تتكوّن وتتحرّك وتكتمل من غير أن تَفنى قبل أوانها المرسوم لها. إنّه قانون التعادل الحراريّ أو الطاقة اللامتاحة (الأنتروبيا) الذي ينظّم عمل الكون وفق معادلة رقميّة دقيقة إذا تغيّر فيها كسرٌ زهيدٌ من الكسور المغرقة في الصغر، فَنيت الكائناتُ كلُّها. لذلك يسوق الكاتبان أقوال العلماء الملحدين الذين ينذهلون انذهالاً مطلقاً يجعلهم ينطقون بعبارة المعجزة. ومن ثمّ، ينشئان في ختام القسم الأوّل فصلاً كاملاً يخصّصانه لسوق أقوال العلماء في مسألة سرّ الكون هذا.
قبل ذلك يتناولان في فصلٍ آخر قانون الأنتروبيا أو التعادل الحراريّ في فيزياء ديناميّات الحرارة، فيشبّهان الطاقة المنبعثة من الكون بالنار المضطرمة في موقد المنازل. أمّا في الفصل الذي يستعرض نظريّة تمدّد الكون، فيشير الكاتبان إلى معاناة العلماء، ومنهم ألِكساندر فريدمان (1888-1925)، الذين كانوا في جرأتهم الاستثنائيّة مستعدّين للدفاع عن آرائهم واحتمال جميع ألوان التعذيب والتنكيل تحت حكم الأنظمة التوتالتياريّة الشيوعيّة الستالينيّة والفاشيّة والنازيّة. لذلك اضطهد ستالين العالم فريدمان الذي فهم نظريّة أينشتاين فهماً أفضل أفضى به إلى اعتماد نظريّة التمدّد. ذلك بأنّ ستالين كان يخشى نظريّة البدء الأصليّ، إذ أيقن أنّها تستتبع القولَ بالخلق الإلهيّ وبالخالق المبادر.
البيولوجيا المعقّدة تجعل الكائن الحيّ قمّة الإبداع الإلهيّ
أمّا في الفصل المعقود على البيولوجيا، فيبيّن الكاتبان أنّ التركيبة المعقّدة في الكائن البيولوجيّ تُظهر أنّ الخليّة تحتاج إلى 200 صنف من البروتينات حتّى يستقيم كيانُها، وينضبط عملُها، ويتّسق مسارُها. والحال أنّ صنعَ صنفٍ واحدٍ من هذه البروتينات يتطلّب جهداً ذكائيّاً إبداعيّاً يوازي خلقَ مجرّةٍ من المجرّات العظمى. في هذا السياق، يقارن الكاتبان تعقّدَ التركيبة الفيزيائيّة في الكون بتعقّد التركيبة البيولوجيّة في الكائن الحيّ، ويخلصان إلى الاعتراف المنذهل بتفوّق درجة التعقّد البيولوجيّ على درجة التعقّد الفيزيائيّ.
يستذكر الكاتبان أيضاً التجارب البيولوجيّة التي أجراها العلماء في مختبرات الولايات المتّحدة الأمِريكيّة في منتصف القرن الماضي علّهم يعثرون على التركيبة الهندسيّة الناشبة في الحمض النوويّ (ADN). عبثاً حاولوا اصطناع الخلطة التي كان داروين قد تحدّث عنها معتقداً أنّ الإنسان يستطيع أن يستخلصها بنفسه. ولكنّهم لم يحصلوا على النتيجة المرتقبة، لا بل اكتشفوا أنّ الباكتيريا الأصليّة أشبهُ بمركَبٍ فضائيٍّ رحبٍ استودعه الناسُ آلافَ الكومبيوترات الضخمة الناشطة في تدبّر كلّ المعطيات، وضبط كلّ المتغيّرات، واحتساب كلّ المرتقبات. الخلاصة أنّنا لا نعلم كيف انبسطت العناصر التكوينيّة الأصليّة التي انطوى عليها الانفجار الكونيّ الأعظم، وانتشرت وانتظمت واتّسقت حتّى أصبحت على هذا النمط الهائل من التركيب الحمضيّ النوويّ الفريد. حتّى اليوم لا يعرف العلماء كيف جرت عمليّة الخلق، ولو أنّهم أضحوا يعترفون بضرورة الخلق الهندسيّ الأصليّ. وعلاوةً على ذلك، فإنّ هندسة الحمض النوويّ الشديدة التعقيد انتهت منذ ثلاثة مليارات سنة ونصف. ولكنها ما فتئت الهندسة الأساسيّة التي تضبط الانتظام البيولوجيّ في كلّ الكائنات الحيّة حتّى اليوم من غير تبدّل.
الدليل الوجوديّ الاستثنائيّ في المعجزات الدِّينيّة
في القسم الأخير، يكفّ الكاتبان عن التحليل العلميّ المحض، ويستغرقان في استنطاق الخوارق الدِّينيّة في سياق الاختبار الإيمانيّ المسيحيّ. فيتناولان الأدلّة غير العلميّة على وجود الله، ويستحسنان استذكار عجائب فاطمة في البرتغال والأثر الإعجازيّ الذي تخلّفه الخوارق في حياة المؤمنين. ومن ثمّ، فإنّهما يتأمّلان في سيرة السيّد المسيح الذي أحدث تغيّراً عظيماً في مسار البشريّة، ويقينُهما أنّ حياته وأقواله وأفعاله وعجائبه كنايةٌ عن حدثٍ مفصليٍّ بارز يفصل بين زمن وآخر.
قد يستغرب القارئ الجرأة الإيمانيّة هذه، وقد اعتلنت في ختام الخلاصات العلميّة الموضوعيّة. اللافت البارز في تفكير الكاتبَين أنّهما يستنجدان بعضَ الظواهر الخارقة، ومنها العجائب التي محّصتها الكنيسة الكاثوليكيّة في لورد (فرنسا) وفاطمة (البرتغال)، من أجل إظهار الطابع السرّيّ الذي ينبغي استجلاؤه في إدراك مثل هذه الخوارق. لو كان الكون مادّيّاً محضاً، لما ظهرت عليه علاماتٌ مربكةٌ خارقةٌ معجزةٌ، ولاتّضحت جميعُ حقائقه ووقائعه، ولتَيسّر للعقل أن يعلّلها ويسوّغها.
التقويم الأوّليّ والخلاصة الموقّتة
قد يعترض بعضهم، فيعلن أنّ العلوم في تحوّلٍ مطّرد. إذا كانت قد استقرّت في القرن العشرين على هذا الوجه من الاعتبار النظريّ، فليس ما يمنعها من الاستقرار في القرن الحادي والعشرين على وجهٍ آخر يخالف خلاصاتها السابقة. بيد أنّ العلم، بحسب الكاتبَين، لن يتراجع عن بعض الحقائق الجوهريّة الأساسيّة، ومنها على سبيل المثال أنّ الكون له بدءٌ، وسيكون له منتهًى، وأنّه في حالٍ مطّردة من التمدّد المستمرّ.
لكلّ نظريّةٍ في وجود الله نتائجُ وتبعاتٌ وعواقبُ وآثار. إذا نفى الناس وجود الله، كان عليهم أن يبيّنوا طبيعة الأصل الأوّل، إذ إنّ الكينونة في الكائنات (الوجود بحسب العرب)، في نظر الكاتبَين، لا تأتي من العدم. فالعدم يُعدم كلَّ الكائنات. والحال أنّنا في الكينونة منذ حوالى 14 مليار سنة. لذلك قال أينشتاين بتعادل المادّة والطاقة (E=mc2)، وألغى إمكان القفز من العدم المطلق إلى الوجود.
لا ريب في أنّ المشكلة تستوجب النظر في طبيعة أصل الكون، وأيضاً في مآلات نهاية الكون، إذ إنّ العلم أثبت أنّ الكون ليس قديماً، أي أزليّاً (القدَم في الأصل) وأبديّاً (القدَم في المنتهى). في حزيران 2022 سيحتفل العلماء بمرور قرن على اكتشاف فريدمان نظريّة تمدّد الكون. يجدر إذاً بنا أن نعيد النظر في المسلّمات العلميّة التي تتناول مسألة الأصل والمنتهى. إذا ثبت أنّ للعالم أصلاً وبدءاً ومنتهًى، كان علينا أن نتدبّر طبيعة هذا الأصل في حذر شديد، وفطنة بالغة، وحكمة متجلّدة صبورة.
عبد السلام بن عبد العالي
لأسباب قد يتعذر حصرها أصبحنا كلنا ورثة لهيجل ونظرته إلى تاريخ الأفكار. لم يعد في وسعنا أن ننظر للفكر إلا في كليته وهو يعمل متجها نحو غاية بعينها. صحيح أننا تمردنا ضده مع الوضعيين فمع الماركسيين ثم مع الوجوديين بل حتى مع الهايدغريين، إلا أننا لم نكف حتى مع هؤلاء عن البحث عن نقط النهايات وسبل التملك و طرق التجاوز. فربما لا يتعلق الأمر في تاريخ الفكر باكتمال فكر أوتملك تراث، وربما لا يتعلق بتحقيق الفكر في الواقع، ولا حتى بتجاوز تراث أو تبشير بالنهايات. ربما كان الأهم السماح لصيرورات مبعثرة أن تبرز في عملها فيما وراء ما يقدم نفسه تراثا فكريا.
آنئذ لن نشغل بالنا بنقط نهاية ولحظات اكتمال، ولن يهمنا في شيء ما إذا كان الانعراج يحمل اسم هيجل أو اسم كونت أو غيرهما من الأسماء، ولن نثير الصخب مع من أثاره حول ما إذا كان نيتشه ينتمي، أولا ينتمي، لتاريخ الميتافيزيقا. إذ أن نقاط النهاية ستغدو لا متناهية. وسيصبح بالإمكان رصدها عند كثير من الأسماء، بل سيغدو من واجب الفكر البحث عن نقاط الخروج التي قد ينفلت فيها الفكر عن الرقابة التي يفرضها على نفسه، والمنطق الصارم الذي يخضع إليه نفسه.
لن يعود ميدان الفكر، كما شاء له الهيجليون ومن دار في فلكهم نفيا وإيجابا، قائما على أساس مشترك. ولن يطرح المفكرون الأسئلة ذاتها، ولن يستعملوا التصورات عينها. لن يكون هناك ما من شأنه أن يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحّد، لا المذهب ولا التيار ولا “النظرة إلى العالم”. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط متقاطعة. وربما غدا عمل الفكر أساسا ليس بناء المذاهب ولا رصد التيارات ولا تكوين “النظرات إلى العالم” ، وإنما فك الوحدات الموهومة بحثا عما هو متفرد. يتعلق الأمر ببعث الحدث في وحدته وتفرده داخل ما يقدم نفسه حركة كلية. فلسنا هنا، كما أثبت فوكو، لا أمام وحدات، ولا إزاء كليات، وإنما أمام تفرّدات. إبراز هذه التفردات هو وقوف عند الحدث داخل الفكر، بل هو إبراز الفكر كحدث.
*
نحو رؤية لاهيجلية لتاريخ الفكر
عبد السلام بنعبد العالي
-
قراءة في الديوان الزجلي ( ضفاير لالة ) للكاتبة المغربية فاطمة المعيزي : عشق الوطن و حرقة السؤال ------------------------------------------...
-
رَتِقٌ هو الزمان بمعصمٍ هو قائله رَتِقٌ هو الزمان بكوكبٍ هو حائله يهواكها زمن التعسف اذ هوى سيفٌ سليطَ البؤس شخصا قاتله سيفٌ بلا إم...
-
قالتْ: أتهوى ؟ قلتُ: أهوى أي نعمْ بَسمَتْ وقالت: مَن ؟ فقلتُ: مَن أبتسَمْ ضحكت وقالت: مَن ؟ فقلتُ مؤكِّداً: مَن مِن شفاهٍ أخرجتْ هذا...