الخميس، 10 سبتمبر 2020

محمد أديب السلاوي

لنتحدث قليلا عن العالم القروي.

محمد أديب السلاوي

-1-

ان الحديث الجاري اليوم عن الإصلاح، يفرض علينا أن نرتب قائمة الإصلاحات المطلوبة لمغرب يريد السير نحو التطور والتقدم والرفاهية، على أساس الأولويات الملحة والمستحيلة.
في وضع المغرب الحالي الذي يمثل على القرن القادم سلسلة من الأزمات المترابطة وبتعداد سكاني يقرب من ثلاثين مليون، غالبيتهم أميون / عاطلون / فقراء، ينتمون ويعيشون بالعالم القروي، يشكل نموذجا بارزا للتخلف والفقر .
هكذا...وعندما يبدأ الحديث عن التغيير والإصلاح، في إدارتنا واقتصادنا ومجتمعنا ودستورنا. يقضي الواجب علينا تركيز هذا الحديث على البادية المغربية وعالمها القروي، لأن  وضعيتهما الراهنة صعبة للغاية ومحرجة للغاية، وهو ما يدعو إلى جعل كل الإصلاحات تبدأ بهذه الوضعية، وبالانكباب الفوري والعاجل عليها قبل أن تصبح مستعصية، وخارجة عن أي تخطيط أو برنامج أو إصلاح.
إن العالم القروي، ونتيجة لتراكمات مشاكله وقضاياه، أصبح بلا وضعية، فهو عالم للفقر وللبطالة وللجهل وللأمية والتخلف في صورته الشاملة. وهو من جانب آخر، عالم للتجارب الفاشلة، وللابتزاز والقهر. فلاحو الصغار أصبحوا عاجزين عن تلبية أبسط حاجياتهم اليومية في غياب الإدارة الحكيمة. وفي غياب التخطيط والإرادة والإمكانيات التي من شانها إعادة الاعتبار للعالم القروي ولساكنته ولموقعه وعطائه.
إن العالم القروي، لم يصل إلى هذا التدهور، نتيجة سنوات الجفاف التي ضربت "الزرع والضرع" ولكنه وصلها في الحقيقة نتيجة للتهميش المتواصل الذي تسلط عليه وعلى فلاحة الفقراء، وهم أغلبيته المطلقة بلا منازع.
ولعل المسؤولون عن هذا التهميش، وعن تدهور الفلاحين وعالمهم القروي، أصبحوا يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الانعكاسات السلبية لوضعية العالم القروي، خطيرة وعظيمة على الاقتصاد الوطني عامة، وعلى سوق الشغل بصفة خاصة، نظرا لعمق دور الفلاحة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

الفلاحة، كما أكد ذلك جلالة الملك لعدة مرات، ركيزة أساسية من ركائز اقتصادنا الوطني، عليها ينبني صرح نمائنا وتطورنا، وعليها تنبني قلاع تقدمنا.
ومن قال الفلاحة، قال العالم القروي، لأجل ذلك نكرر القول، أن الإصلاح الأساسي يجب أن يتجه إلى الفلاحة وعالمها القروي، على أن يكون هذا الإصلاح شاملا وكاملا، يغطي مختلف المناحي الفلاحية والبشرية، ومختلف القطاعات ذات الصلة بها.
أمامنا كمثال على هذا التوجه دولة اليابان :
إن قصة نجاح اليابان في هذا المجال، تكمن في الإصلاحات التي اعتمدت على إنعاش العالم القروي، باعتباره محطة الانطلاق نحو المستقبل، وثمة مثالان آخران احدث عهدا هما مثال كوريا ، مثال الصين اللذان خرجا من أزماتهما في التشغيل والإنتاج بفضل المكانة البارزة التي أعطيت للزراعة في سياستهما التنموية وفي إصلاحاتها الاقتصادية.
إن الأمر يتعلق في عمق الإصلاحات الزراعية في العالم اليوم، بتحقيق الاكتفاء الذاتي في التغذية وإقامة صناعات زراعية وتحويلية في مستوى مطامح السوق العالمي التنافسي وفي مستوى الإمكانات التي تتيحها الأرض المغربية...وعصرنة الفلاح ومحيطه / العالم القروي.

-2-

في الإحصاءات الرسمية، يحتضن العالم القروي مل يقارب 65% من سكان البلاد، يعيش اغلبهم على الزراعة والمهن الفلاحية.
وفي الأرقام الرسمية، لا يستفيد العالم القروي المغربي، إلا من 35% من الدخل القومي، في حين تزيد نسبة نموه السكاني على 3.13%.
من أجل ذلك أولت أدبيات الحركات السياسية المغربية، ومنذ بداية عهد الاستقلال، اهتمامات خاصة لمشاكل وقضايا وأوضاع العالم القروي، باعتباره ساحة تكرس عليه التهميش منذ العهد الاستعماري (1956-1912)ن تفاقم تخلفها، كما تفاقمت حاجياتها الأساسية من التجهيز وكل البنيات التحتية، سواء في المرافق العامة أو في الصحة والتعليم والنقل والتشغيل والسكن.
العالم القروي قاعدة أساسية لكل تنمية فاعلة،ولكن إقلاع حضاري جديد، ومن ثمة طالبت الحركات الوطنية بمخطط اقتصادي/ اجتماعي / ثقافي، مستعجل للإنقاذ هذا العالم والدفع به إلى الإسهام الفعلي في التنمية الوطنية. معتبرة أن تهميش الأسلوب الديمقراطي في تسيير الإدارة المحلية للعالم القروي كما في التجهيزات والدعم المادي، إلى المزيد من التخلف والتهميش والتسلط والطغيان... وبالتالي أدى إلى التدهور والتراجع والفقر والأمية، حيث تعرض إلى حالة استنزاف قصوى بسبب الكوارث الطبيعية التي ألمت به خلال السنوات الأخيرة، الجفاف والفياضانات والعواصف وزحف الرمال، وبسبب الهجرة والتفقير وضعف البنيات الأساسية من طرق وإنارة وخدمات صحية وتربوية ورياضية وغيرها... وهو ما أدى إلى ما يشبه الانهيار.
أن مؤشر النمو الديمغرافي في العالم القروي،سيبقى من أعلى المؤشرات وطنيا وربما عالميا، ومؤشر الفقر والأمية والتخلف بهذا العالم سيبقى أيضا، من أعلى المؤشرات وطنيا وربما عالميا.
ما هي البدائل الممكنة لإخراج العالم القروي من حالة يأسه وبؤسه ؟
تقول الأدبيات السياسية للعديد من الأحزاب المغربية، أن تقدم وتنمية العالم القروي يقتضي الاستخدام الكلي لثرواته البشرية والطبيعية والثقافية وتشجيع المبادرات الخاصة للفلاحين والمشاركة النشيطة لعناصره، لتحقيق تنمية حقيقية، تضمن العيش والتكافل لسكان هذا العالم.
أن الرفاهية الاجتماعية، أو ما يمكن ترجمته ب"الكرامة" التي رددها السيد محجوبي احرضان، وهو زعيم يستمد مكانته في العالم القروي
 هي الهدف الأساسي لهذه الرؤية، بل هي المرتكز الذي تقوم عليه فلسفتها، وهي تتطلب سلسلة من الإجراءات الأولية، كالقضاء على الأمية والفقر والبطالة والظلم والاستغلال. والارتقاء بالمستوى المادي والروحي للمواطنين...وهو ما عجزت عنه العديد من السياسات والحكومات التي سجلت اسمها على تاريخ المغرب الحديث.
"الكرامة" هي أن يضمن الوطن لمواطنيه ما يصون "كرامتهم" من الولادة الى الموت، بالارتكاز على الحق الأكبر الذي وهبه الله للإنسان / المواطن.
وتقول الأدبيات أيضا، أن كرامة الفلاح وعالمه القروي تتوقف  بالدرجة الأولى على التعبئة القصوى لجميع ثروات العالم القروي واستخدامها الاستخدام الفعال والرشيد، مع اتخاذ تدابير للإسراع بإلحاق العالم القروي بالعالم الحضري، وبتصنيع العالم الزراعي وإعداد برامج تكاملية للتنمية القروية، وهي نفسها البدائل الممكنة لإخراج العالم القروي من حالة بؤسه ويأسه ومحنته.

-3-

يرتبط العالم القروي ، بسلسلة من القضايا أهمها قضية الأمن الغذائي، الدعامة الأساسية هنا وفي كل العالم للبقاء، حيث تستمر الجهود الدولية من اجل الابتعاد عن فاجعة الجوع، لتصبح قضية إنتاج واستهلاك الغذاء من أعقد القضايا المستحوذة على التفكير الإنساني، فهي مدار بحث مختلف المؤشرات العربية، سواء في نطاق المنظمات المتخصصة، أو المؤسسات الإنمائية، بحيث بات هاجس توفير الغذاء يشغل حيزا كبيرا في المخططات الإنمائية، بمختلف الأقطار، منذ أوائل السبعينات حيث برزت أزمة الغذاء في العالم.
إن انفجار أزمة الغذاء في العالم قبل حوالي عشر سنوات، والتي تضافرت عليها العديد من العوامل المتشابكة في مقدمتها ارتفاع استعار مختلف أنواع الحبوب، ومستلزمات الإنتاج الزراعي. الأمر الذي ترتب عليه وقوع معظم الدول النامية، ذات الإمكانيات المالية المحدودة فريسة مصيدة الغذاء، وأصبحت هذه المشكلة تستحوذ على أية موارد يمكن توجيهها نحو التنمية الاقتصادية، وهذا ما أدى إلى انخفاض معدلات النمو الإنتاجي، في الوقت الذي يزداد فيه الطلب الاستهلاكي بمعدلات كبيرة، مما زاد المشكلة تعقيدان بحيث أصبح إيجاد الحل المناسب لها يشكل حجز الزاوية في السياسات الإنمائية لمختلف البلدان النامية.
ولا شك أن مشكلة إنتاج الغذاء في المغرب لم تكن لتقل حالة عما هي عليه في مناطق العالم النامي، فقد عانى المغرب وما يزال في هذا المجال، باعتباره منطقة عجز غذائي، ثم لأن تأثره بالأزمة كان اكثر عمقا وحدة من غيره في بعض المناطق المماثلة.
ومما يزيد المشكلة خطورة على المستوى المغربي، أن حجم الفجوة الغذائية خاصة من سلع الغذاء الرئيسية تزداد اتساعا سنة بعد أخرى، فقد تصاعد حجم العجز في مجموعة الحبوب، ومنها القمح  والروز والشعير والذرة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العجز في السنوات القادمة، إذا لم نسارع بخطة إصلاح ناجعة. أما بالنسبة إلى القمح فباعتباره أهم سلع الحبوب الغذائية فإن عجزه الغذائي قد يتصاعد إلى جانب السلع الغذائية الأخرى، خاصة الزيوت والمنتجات الحيوانية ذات الأصل المتجذر بالعالم القروي.
وبالرغم من الجهود التي تبذل في هذا المجال، فإن الفجوة لا تزال في تزايد مستمر، تبين أن الفارق بين نمو الإنتاج الزراعي والطلب على السلع الزراعية، وخاصة سلع الغذاء الرئيسية، أخذ يتنامى منذ أوائل السبعينات...ومرشح لمزيد من "النمو" في المستقبل. وهو ما يعكس تخلف القطاعات الإنتاجية الزراعية مقابل النمو السريع في الطلب الاستهلاكي، ويكفي للدلالة على مدى ما تعانيه القطاعات الزراعية من تخلف، أن الإنتاجية الهكتارية للحبوب لا تتجاوز 1.1 طن، أي نصف نظيرتها في العالم البالغة 1.9 طن، كما تنخفض كثيرا عن إنتاجية القمح في العالم، حيث تبلغ 1.65 طن بالمقارنة مع 4.8 طن في الدول المتقدمة.
أما بالنسبة للإنتاج الحيواني، فهو أكثر تخلفا من نظيره النباتي، إذ لا يقوم على اسس صناعية...ولا على أسس استثمارية.

-4-

إذن، في أي قراءة أفقية أو عمودية لحالة ّ "الأمن الغذائي" في المغرب يتأكد للباحث أن حالة العالم القروي مصدر هذا "الأمن" جد سيئة، ولا تستطيع في الوقت الراهن، وبالإمكانات المتاحة أن تذهب في توجه تحقيقه.
فقراء البنك الدولي لحالتنا الاقتصادية جاءت واضحة كل الوضوح وصريحة كل الصراحة، في هذا الموضوع وأكدت بما لا يدع مجالا للشك، أن المغرب سيعرف تقهقرا محققا في المجال القروي / الزراعي. كما سيعرف تراجعا في كافة المجالات الاجتماعية والثقافية المرتبطة به، إذا لم تتخذ الإجراءات الضرورية باستعجال، لضمان وتيرة نمو محددة تضمن العيش والاستمرار.

من جانب آخر، أكدت هذه " القراءة" أن إنقاذ العالم القروي وإنتاجيته، تلزمنا بالانتباه إلى الوقت الضائع، فالوقت لا يرحم وكل يوم بل كل ساعة تمر دون إيقاف "النزيف" المتواصل، تعد خسارة لا يمكن تعويضها.
فقد، أصبح للوقت أهمية قصوى، وبذلك أصبح إيقاف النزيف، يتخذ موقع الأولوية في حسابات الوقت والمعالجة لوضعيتنا الاقتصادية / الاجتماعية المتداخلة مع العالم القروي وإنتاجيته.

إن الأحزاب الوطنية، والهيئات الحقوقية والمهنية والجامعات والمعاهد العليا، أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بتشخيص حالة النزيف الذي يضرب العالم القروي في الأعماق وتحديد الأولويات التي يجب القيام بها في أفق العقد القادم...وترى أن الإجراءات الأساسية لإيقاف هذا النزيف، وبدأ العلاج لا يحتاج إلى زمان أو مكان، بل ولا يحتاج إلى إمكانيات أو اعتمادات، بقدر ما يحتاج إلى الإرادة القوية والنزاهة والقناعة والحس الوطني الصادق.
وفي اعتقادنا إن معالجة الوضعية الراهنة يتوقف بالدرجة الأولى على وضع أسس جديدة وحديثة وعقلانية لإنقاذ العالم القروي من تخلفه ونزيفه، أن تنمية قروية قائمة على تجديد دماء الاستثمار المنتج، وتشجيع المقاولات القروية بما فيها العلاجية من شانهما إعطاء دفعة جديدة لمستقبل الفلاحة والفلاحين ووضع حد للفوارق بين سكان البادية وسكان الحاضرة، وهما أساس معالجة النزيف الذي أدى إلى "هزال " العالم القروي وضعفه وفقره.
ولاشك أن إعادة النظر في مفهوم الإنتاج الفلاحي، في بلادنا سيدفع حتما إلى تصنيف الفلاحة كمهن لا كحالات اجتماعية، وهو ما يعني ربط الإنتاج بالمردودية والمنافسة الداخلية والخارجية.
فضعف قطاعنا الفلاحي، لا يكمن في كونه ما زال رهن التساقطات أو دون توظيف وسائل التكنولوجيا المتوفرة أو ارتباطه بالنهج التقليدي، الذي أصبح تأثيره على الإنتاج والمردودية الفلاحية والتنموية متعاظما، بل يكمن في الحس الحاد بالتخلف تخلف الزراعة وأهلها، الأرض وأصحابها.
ان فلاحتنا اليوم في ظل أوضاع الفلاحين تستغيث، تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى التقييم والمراجعة والى التحديث والتجديد والى الإنقاذ
.
وفي إطار ذلك تحتاج هذه الفلاحة إلى مفاهيم جديدة ومباشرة للرفع من مستوى الفلاحين – سكان العالم القروي وكذلك لطرق الإنتاج والتموين، ولطرق القرض والتمويل، فنحن مطالبون بابتكار وسائل جديدة، وأساليب جديدة للتعامل مع هذا القطاع لإنقاذه وتطويره.
بمعنى آخر، أن الإصلاحات المطلوبة للعالم القروي ما زالت في حاجة إلى رؤية فلاحية، لا تفصل العالم القروي عن فلاحته ن عن مجتمعه وتربيته وثقافته وهويته، لا تفصل عصرنة الفلاحة وتحديثها وتصنيعها عن عصرنة مواطن العالم القروي وتربيته وإعداده ومساعدته على الارتقاء وعلى الإنتاج والمردودية.
إن اعتماد إستراتيجية إنمائية ريفية متوازنة، تقوم على أساس الزراعة الدينامية المستوعبة لليد العاملة وعلى الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة في إنتاجيتها من شأنها إعطاء نفس جديد للعالم القروي، وانتشاله من رداءته التي وصلت حد البؤس واليأس، شريطة اعتماد نفس الإستراتيجية لتطوير المواطن، بالعالم القروي وإخراجه من عزلته وتخلفه.
إن كل إصلاح لا يتجه إلى هذه الناحية، سيكون في نظرنا بلا فائدة، لأن الأمر يتعلق بالعالم الذي نعيش ونتنفس من خلاله الهواء والهوية.

أفلا تنظرون...؟

محمد أديب السلاوي

الصناعة الثقافية، تفرض علينا عقلا جديدا... وتلك هي الإشكالية.



-1-

ظهرت مفاهيم وقيم "الصناعة الثقافية" في الإعلام والبرامج السياسية والسياسات الحكومية خلال منتصف القرن الماضي، على أيدي جماعة من المفكرين بألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، الذين تبنوا بقوة، قيم العولمة والاقتصاد الليبرالي.
بعد ذلك بقليل، حددت منظمة اليونسكو مصطلح "الصناعة الثقافية" في الصناعة التي تجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها، وهي ذات طبيعة ثقافية غير ملموسة / مضامينها محمية بقانون حقوق المؤلف، ويمكن أن تأخذ شكل البضاعة أو الخدمات.
وعموما يشمل مفهوم "الصناعة الثقافية"، انتاجات الطباعة والنشر والوسائط المتعددة والوسائل السمعية والبصرية والمنتجات الفوتوغرافية والسينمائية والحرف التقليدية والفنون البصرية.
يعني ذلك، أن "الصناعة الثقافية" هي تلك الأنشطة التي تركز على المعرفة في صورتها المتكاملة التي تحتاج إلى كثافة عمل عالية وقادرة على توليد الثروة وفرص العمل.
يعني ذلك أن اللوحة والشريط السينمائي والمسرحية والأغنية الشعبية والقطع الموسيقية وفنون الحلقة والبرامج الإذاعية والتلفزية والمؤلفات الأدبية والثقافية والنقدية، والقطع الشعرية هي الصناعة الثقافية التي تنتج قيم التنمية في زمن العولمة.
في نظر منظمة اليونسكو،أن الأعمدة التي تقوم عليها الصناعات الثقافية ، تشمل كل عناصر الثقافة : الأدباء / المفكرون في كل التخصصات / الفنانون في كل التخصصات / الفنانون الشعبيون / الصناع التقليديون.

-2-

ومن شروط قيام صناعة ثقافية، في أي مجتمع نامي أو في طريق النمو، وجود قاعدة علمية وثقافية في المجتمع، يكون بإمكانها إنتاج المعلومات وتوزيعها واستهلاكها، وهو ما يعني 
توسيع آفاق التعليم والإعلام بين أفراد المجتمع، ذلك لأن العلاقة بين الصناعة الثقافية وارتفاع المستوى العلمي والثقافي والإعلامي، علاقة جذرية تقود إلى زيادة حجم الاستهلاك الثقافي...وهو ما يتطلب إنشاء المؤسسات التواصلية، جرائد ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومطابع ودور نشر واستوديوهات سينمائية ومسارح وقاعات للعرض التشكيلي ومتاحف وغيرها من وسائل الاتصال الثقافي، إضافة إلى المناخ الملائم لحرية الرأي والتعبير.

يعني ذلك، أن الصناعة الثقافية تحتاج من الدول السائرة في طريق النمو، والتي تنشد الاستثمار في الشأن الثقافي، دعمها ورعايتها وحمايتها لكافة المنتجين / أدباء وشعراء ومفكرين وفنانين وإعلاميين، حتى تتمكن هذه الدول من الدخول إلى أسواق المنافسة وتعزز تواجدها.

-3-

يرى العديد من الباحثين والدارسين لوسائل الاتصال الجماهيري أن الثقافة والفنون في عالم اليوم من أجل الازدهار والنماء والتطور، أصبحت في حاجة ماسة إلى شروط أساسية وموضوعية، منها خلق مؤسسات تحتضن الثقافة وأهلها، يكون في إمكانها إنتاج المعرفة الثقافية الرصينة من خلال إبداعات الفن والثقافة والمعرفة. ذلك لأن العلاقة بين ارتفاع المستوى  المعرفي بالفنون والآداب والثقافة عموما، تتناسب مع تقدم وسائل الاتصال التي تخلقها هذه المؤسسات، مما يقود إلى بلورة قيم الصناعات الثقافية عموما، وهو ما جعل الدول المتقدمة، ترصد ميزانيات ضخمة من أجل أن يكون لهذه المؤسسات جماهير واسعة تستفيد من خدماتها، وبرامج قوية تدعم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحكومات الوطنية التي تعمل من أجل التنمية المستدامة، المؤمنة بالديمقراطية وحقوق المواطنة.
إن تعبير الصناعات الثقافية في عالم اليوم، أصبح مصطلحا وطنيا ذا معنى خاص لا يرتبط فقط بصناعة الإنتاج الثقافي / من اللوحة إلى الكتاب، ومن الشريط السينمائي إلى الأغنية والمعزوفة الموسيقية، ومن المنحوتة إلى البرنامج التلفزيوني / الإذاعي، ولكنه يرتبط أكثر بالتنمية الوطنية في سائر مجالاتها وميادينها.
في الألفية الثالثة، ليست المؤسسات التجارية والاقتصادية والمهنية القائمة على الإنتاج الثقافي وحدها من يبلور الصناعة الثقافية. أن المؤسسات الفنية / الثقافية، هي التي تعطي هذه الصناعة إيديولوجيتها وقيمها ومفاهيمها التي تبلورها في سوق المعرفة، كما في السوق الحضارية الوطنية والدولية، وهو ما يجعل منها شرطا أساسيا للتنمية المستدامة والتقدم والازدهار الصناعي والتجاري والثقافي.
وفي العالم الصناعي، كما في الدول السائرة في طريق النمو، أصبح الاستثمار في الصناعات الثقافية، ذات أهمية قصوى، ذلك لأن الرؤية الصائبة والواضحة للشأن الثقافي، والقدرة المالية من أهم عوامل نجاح الرأسمالية الثقافية.

-4-

وبحسب ما هو قائم حاليا فإن مفهوم الصناعة الثقافية الذي تصل منتجاته إلى 10 في المائة من إجمالي الصناعة العالمية، شبه غائب في عالمنا وهو شبه معدوم في الاقتصاديات الوطنية والقومية، كما أن الاستثمار في المجال الثقافي لا يكاد يذكر بالمقارنة مع مجالات أخرى، وهو الواقع الذي ترى العديد من المؤسسات العلمية، أنه يقود إلى ضعف احتمال تحقيق متطلبات واستحقاقات الثقافة فضلا عن عدم القدرة على مجابهة تحديات الأمن الثقافي القائمة على صناعة تنمية في هذا المجال، والتي تمثل عنصرا رئيسيا من التنمية المستدامة. 

ولاشك، إن انخفاض المستوى الثقافي في بلادنا وفي البلاد العربية الأخرى، لا يعود فقط إلى عدم توفر الصناعات الثقافية، التي تدعم المؤلفين والمفكرين والفنانين والصناع التقليديين وكل العاملين في الحفل الثقافي، ودفعهم إلى الإنتاج والتنمية، ولكتها تعود أيضا إلى ابتعاد السياسة الثقافية عن هذا المجال.
 إن المحتوى الثقافي لدينا في المغرب وفي العالم العربي، واسع وشامل، إلا أنه لا زال بعيدا عن التصنيع وتحويل قيمه المعنوية والروحية إلى قيم مادية، أي تحويله إلى سلع في الأسواق الاقتصادية من أجل التعريف بها ونشرها وإفادة التنمية الوطنية بقيمها ومردوديتها المادية.
من هذا المنطلق تشكل الصناعة الثقافية أهمية خاصة ليس فقط للجانب الاقتصادي، ولكن أيضا للمستوى الحضاري، باعتبارها ذرعا واقيا للهوية الثقافية.

يعني ذلك بوضوح،إننا نحتاج في المغرب الراهن وفي العالم العربي شرقه وغربه، إلى عقل جديد وتفكير جديد ليستوعب إشكاليات الصناعة الثقافية وقيمها ودورها في الدفع بالتنمية الوطنية المستدامة إلى الأمام. ذلك لأن الطرق التقليدية في إدارة القطاع الثقافي، لم تعد صالحة للعصر الحديث ولشروط الحداثة والعولمة...وتلك هي الإشكالية التي نهرب من مواجهتها في سياستنا الحكومية.

بقلم الشاعر محمد احمد إسماعيل

الفلاح أصلي وفصلي

جدر الروح وعمود الخيمة
ف وطني الأصلي
عنوان مصر وشَدة حيلها
ضهر الخير مفرود على نيلها
شمس العزة اللي بتشرق على أهلي
أول إيد بالجود تتمد لكل الناس
أول باب ع الخلا مفتوح
ولا له حجَّاب ولا له حراس
تسبيحُه شقاه وغيطانُه الجاه
زرعُه صِباه وعروقُه حياه
عَرقُه اللولي ومية محاياه
ودراعه الفاس
و ف وقت العوزة بيبقى سلاح
أول في الصف ف كل كفاح
ولا كَلّ صفاه
ولا مَلّ عطاه
وتكالُه تملي على مولاه
بساتين القمح ف أرض الله
والقطن الضاحك ضيا ونّاس
والنخل العالي وضله وسيع
والصحرا يخطي عليها بتبقى الربيع
...............
سلطان نفسه وملك الأيام
وعنيه فدادين غلة وأحلام
ع النيل حكاياته مبدورة
أصل وحواليه مليون صورة
طول عمره مصاحب لشادوفه
ولا ضل طريقه ف يوم شوفه
يسقي الأيام من ندا جوفه
وينام تحت السما والسما ساتراه
في الحرب محارب له سطوة
في البُنا بنَّا وصاحب خطوة
والفلاح روحه طرية زي الخص
وزي التوت
لو روحه أسيرة بتموت
حُر ويفرح لما بيبني لنا
من ضِلعُه المَحنِي بيوت
ـــــــــــــــــــــــــــــ

عيد الفلاح المصري وتاج راسنا 9 سبتمبر
اللوحة جدارية للفنان المصري محمود مختار

الاثنين، 7 سبتمبر 2020

بقلم الناقدين دكتور رمضان الحضري والناقد حاتم عبدالهادي السيد

تجربة نقدية غير مسبوقة

تأخرت كثيرا لأن لكل ناقد وجهة نظره الخاصة 

وهكذا تنتهي الحملة النقدية التي تبدأ أول كل شهر .

**********************************

النموذج في الكتابة
( عبده الزراع )

********
فرق كبير بين أن يكتب الشاعر ما يمكنه وبين ما يجب عليه ، فحينما تسأل شاعرا لماذا كتبت نصك بهذه الطريقة ،فهناك أشكال ومحتويات أنجع يخبرك بأن هذا ما تعلّمه ، فقدم ما يمكنه ، فجعل نفسه معلما وهو لم يتعلم ، ونصب من ذاته شاعرا وهو لم يعرف ماهية الشعر
ولا وظيفة الشاعر ، حيث إنني أتذكر الآن ذلك الرجل الذي وقف تحت عمود للإنارة في السحر الأعلى من الليل يبحث عن مفتاح بيته فلما مرَّ عليه صديقه سأله : عمّ تبحث ؟ ، قال : أبحث عن مفتاح بيتي ، فقال صديقه : هل سقط من هنا ؟ ، فقال الرجل : لا بل سقط في الشارع الخلفي ، فسأله صديقه : إذن لمَ تبحث هنا ؟ قال الرجل : لأن المكان هنا مضاء بينما الشارع الذي سقط فيه المفتاح مظلم .
فالرجل يبحث حيث يمكنه أن يبحث والصواب أن يبحث حيث يجب عليه أن يبحث ، هذه تقدمة لكي أكتب عن شاعر مصر الكبير
وأديبها النبيل / عبده الزراع .
وقد وصلني ديوانه ( حمحم براحتك ) عبر صديقي الدكتور / رمضان الحضري ، فقرأت الديوان ، ومن القراءة كانت مقدمتي .
******
عبده الزراع أحد أساطين شعر العامية المصرية، وهو واحد من جيل ترعرنا فيه معاً، جيل يكافح بالشعر مدافعاً في وجه الزمان، حيث يصفو الشعر ، ويشفّ، وتكون الكتابة نزف في الوريد والشريان، وإذا كانت العامية المصرية هي أدب الشعب،فإننا نرى ذلك متجسداً عبر ديوانه الرائع : " حمحم براحتك" ، فهو ينشد الحرية عبر قلمه المضىء، وعبر شعره الذى يغزله من صوف روحه الشاهقة، وفى قصيدته : " طير المحبة طروب " نراه ينشد الأمل بعد مرار الألم، وينشد الحب والأحلام ليعبر إلى جسر الحب المضىء بقلبه العامر، فهو يغنى للذات، لنا وللوطن المجروح الجريح ،فهو يكتب ليهرب من الواقع المرّ الدامى ، من الموت بدون الكتابة، فالكتابة هي الحياة ، آخر نبض في شدو القلب الحزين 

،يقول :
ها كتب قصيدة جديدة
من دمى
ها كتب قصيدة جديدة
للأحلام..
ها كتب كلام على كل طير ويمام
عماّل يرفرف ف السما
وبروحه يرمى السلام
ع الأهل والخلان
......
شجر الكلام موزون
محلا الغنا ف الدندنة
من كل شكل ولون
ورّد المحبة حنون
ها كتب مدام عايش
والقلب نبضه شجون
......
ها كتب عشان أحىّ
عشان يحمى..
نبض الوطن ف الروح
كابسه الخلايق كابسة
على جرحنا المجروح
وإحنا ولاد الوطن...
ضايعين فى كل الدروب
طير المحبة طروب
ها كتب كمان..
ها كتب..
ها كتب عشان.. أبعد
أهرب بعيد جدا
م الاكتئاب..
م الموت..
إنه الشاعر الذى يكوثر المخيال لدينا، ويعبر بالحلم الدافىء إلى ذواتنا التواقة للحب والحياة ،فنراه ينشد الحرية للوطن السليب عبر قضيتنا المصرية العربية المصيرية، قضية فلسطين فنراه يستدعى شاعر القضية الكبير / محمود درويش ليحكى لنا أشجانه، يستنطقه بعد أن غيبه الموت ليقول ويعلن في إصرار : " إذا كان محمود درويش قد مات فإن هناك ألف درويش غيره، يقفون وراء القضية، وراء مقدرات شعب سليب، يمثل دم عروبتنا المراق، وهو الحلم الذى نتغياه جميعاً كعرب ومسلمين، بل وكل أحرار العالم لمحو هذا العار الذى يلطخ جبيننا، عار الإستعمار الصهيو- أمريكى الغاشم، يقول في قصيدته : " كان نفسه يكون عصفور " :
كان أخضر زى أوراق الزيتون
فى مواسم قطفه..
كان عطفه يفيض ويساع الكون
كان عقد الفل.. وطوق ياسمين
حوالين الوطن الأم فلسطين
ما قدرش ف يوم غير إنه يكون الشاعر
طالع زى الندى م (البروه)
خطاويه وخداه لمصيره
واختار الصعب يكون له طريق
كان قلبه ربيع بيضيع من بين كفيه
ما قدرش فى يوم يفصل بين حلمه
وحلم الوطن المهزوم..
ولا خاف من إنه يكون مطرود
من رحمه جنات صهيون
كان نفسه يكون عصفور .
ولنلحظ هنا جماليات الوصف عبر الصور الشاهقة، وعبر فرادة المعنى والمبنى لمعمار اللغة الشاهق الذى يستدعيه من قاموس الحب بروحه الشاهقة الجميلة، المحبة، والنازعة نحو الحرية والعدل ، وإذا كان السلاح يقاوم فإن الكلمة أقوى من البارود ، فهى الرصاصة التي يستخدمها شاعر ليمحق ويعرى الإستعمار الغاشم الكئيب .
وتبدو قضية الحرية دالإً مشتركاً بين قصائد الديوان الأشهى الذى تكتنفه مرارة آسنة، ووجع يحاول فيه الشاعر التحليق حول أرواحنا لينزع غلالة الحزن، ويعبر بالحلم / بالقارىء إلى آفاق أكثر جمالاً ، وتخييلاً فيتشارك القارىء معهفى الحلم والأحزان، ويندغم في جماليات صورة التي تحيلنا إلى واقعنا بكل ما فيه، فهو يعكس – كما أسلفنا – نبض الشعب، يقول :
عصافير طليقة بتعشق الأوطان
بتسيب ملامح وشوشها ع الشجر..
وبتستخبى م الخجل جوا الميدان
لجلن تعيد اللى اتسرق..
من حلمها..
يطلع هتافها شجن
وأنين بيسكن فى الضلوع
بترتب الأوضاع على كفوف البراح
وبتنطلق زى الصاروخ شايلة الجراح
ساعات بترجع للوطن
وساعات بتعجز ع الرجوع.
وتراوحقصائد الديوان بين موضوعة الوطن كمفردة تتقاطع في أغلب قصائد الديوان، وبين المحبوبة / الحلم، الأمل السعيد الذى يتغياه، ويحاول أن يرسمه لنا عبر صور متراتبة، تمنطق العقل، وتفلسف الوجود والحياة والكون والعالم، فهو المحب العاشق للحياة، فنراه كعازف أرغول وحوله العالم يعزف له اغرودته الجميلة ، يقول :
هو انت فاكرانى استويت
ولا انتهيت..
ولا الهوى شخلل جرس قلبى
أنا فعلا الأحلام خديتنى لمنتهاكى
ورسمت ورده ف عروتك
وقعدت جنب رموشك الهفهافه
أنتظر اللقا..


ولعلنا نلمح طزاجة اللغة عبر بصمته الشاعرة التي تستلب المخبأ في وجيب الروح، وتقطف الجمال من خد الورد ، وتأخذ بقلوبنا إلى آفاق أكثر جمالية وطرب ، فننشد معه أغنيات الفرح الشهى للشعرية الباذخة التي تخشّ إلى القلب عبر موسيقا النور العابرة إلى مرافىء الروح ، ومزهريات الورود، وضوع العطر من ياسمينة الحياة المزغردة، يقول :
معقوله زي الشجر بترقي وتميلي
 ريحك بنفسج عطّر المواويل
 والناي بيعزف لحنك الطازه
 وانت رموشك ليل..
 ولقلبي أجمل دليل 
 مين إللى علم خطوتك لغة التمرد؟
 والانحياز للتفرد 
 مين إللى فجر دهشتك قناديل؟ 
 يا رقة العصافير.. 
 وزقزقات الطير
 خليني أدخل مهجتك..
 واستهجي طلعتك
زي القمر ف الليل
 معقوله زي الشجر.. بترقي وتميلي
إنه الشاعر الذى يعزف قطيفة الجمال من روحه النضرة الخصبة التي
تنشر العذوبة والرقة حينما يشاء الشاعر ذلك ، مما يجعلني أقول أن عبده الزراع لا يمتلك أدواته فقط ، فليس كافيا أن تمتلك الأدوات ولكن الأهم من ذلك هو كيفية استخدامها ، فهو يمتلك السيطرة على عقل المتلقي ، وقلة من يفعلون ذلك ، ولذا فحينما يحصل على جائزة الدولة التشجعية نقول إن الجائزة هي التي فازت به ، ليكون سطرا من ذهب
عبر تاريخها .
بقلم الناقدين :
حاتم عبدالهادي السيد
د / رمضان الحضري .
القاهرة في
6 من سبتمبر 2020م

الأحد، 6 سبتمبر 2020

منقول عن استاذ اللغة الارامية جورج رزق .....تراث

حكاية 
______🕊_____
"يالله تنام يالله تنام 
لدبحلا طير الحمام "..

أغنية يرددها الملايين، دون أن يعلموا أن خلف تلك الأغنية مآساة إنسانية حدثت في مدينة معلولا.. 

أغنية غنتها السيدة فيروز من روح معلولا وتراثها الممزوج بالألم والإبداع  والثبات...

وقعت أحداث تلك القصة المؤلمة في معلولا، مع فتاة في العاشرة من عمرها خطفت من بيت أهلها، بينما كانوا ينطرون أرزاقهم من المشمش والخوخ
بين الوديان البعيدة 

حيث جاءت مجموعة من الغجر جابوا ساحات المدينة وبيوتها، فوجدوا فتاة وحيدة في منزلها وكانت أخت الشماس عيسى في ذلك الوقت، خطفوا الفتاة ابنة السنوات العشر..

بحث الأهل بحرقة وألم عن ابنتهم في كل مكان، ولم يفلحوا بمعرفة مصيرها، 

...مر زمن و سنين طويلة وبينما كان رجل من معلولا  يبيع العنب والتين في ديار تلك القبيلة، التي خطفت الفتاة تعرفت عليه الفتاه لكنه لم يعرفها... 

وفي تلك اللحظة المصيرية بالنسبة لها ارتجلت ابياتاً هي مزيج من الآرامية المعلولية والعربية للفت انتباه الرجل، وطلب النجدة منه، ليتعرف إليها، دون أن تلفت نظر القبيلة، 
حيث شرعت تغني لحظة مرور البائع تحت شباكها وهي تحدي لطفلها "وليس طفلتها كما ورد في أغنية السيدة فيروز " 

هيو هيو يالبني يالمزبن عنبي ...
مليه لبي ملي لمي 
نغبوني العربي 
بايثح كم الكليسا 
حوني شموسا عيسى 
بقرتنا حمرا نفيسة 
وكلبنا اسلك سلوك 
يالله ينام يالله ينام 
لادبحلو طير الحمام 

المعنى بالعربية ..
هييي .. هييي يابياع العنب 
خبر ابي وخبر امي 
خطفني العرب "البدو "
بيتنا بجانب الكنيسة 
وأخي الشماس عيسى 
وبقرتنا حمراء سمينة 
وكلبنا نحيف سلوقي ..

فهم البائع المعلولي مغزى الكلام، وتعرف على البنت..
حيث قام بنقل رسالتها إلى أهلها، متلهفاً لاخبارهم بمكانها وأنها حية ترزق، ولما اتجه الأهل إلى تلك الديار لاسترجاع ابنتهم، لم يجدوا أحدا، إذ كان أصحاب الدار قد رحلوا إلى مكان آخر.

بقيت الحسرة في قلوب الأهل وخلدت ذكراها تلك الكلمات البسيطة العميقة المليئة باللهفة والأشواق.. 

وصلت إلى الأخوين رحباني حيث أعادا صياغتها وغنتها السيدة فيروز بصوتها الساحر..

يا بياع العنب والعنبية 
قولوا لأمي وقولوا لبيي 
خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدلية 
ع التيشتشي التيشنشي 
والخوخ تحت المشمشمي 
كل ماهب الهوى لأقطف لريما مشمشي ..
هي هي هي لينا 
دستك لكنك عيرينا 
تنغسل تياب ريما 
وننشرهن عل ياسمينا
إلى أخر الأغنية...

رحلت الفتاة وبقيت أغنيتها خالدة عبر الزمن. ترددها ملايين الأمهات كتهويدة مقدسة قبل النوم.

نقل تلك الحادثة إلى مشروع التوثيق البصري الاستاذ المبدع جورج رزق الله عام 2014 .. رحمه الله
وهو أستاذ اللغة الآرامية من مدينة معلولا.

منقول

السبت، 5 سبتمبر 2020

محمد سالمان

من دفتر الذكريات
 " مفيش فايدة "

فى عام نهاية عام 2002 تلقيت دعوة من اللجنة الشعبية للثقافة والاعلام ( وزارة الثقافة ) الليبية  ، للمشاركة فى مؤتمر شعبى والمنعقد بالتعاون مع اللجنة الشعبية العامة ( مجلس النواب ) ، يعقد المؤتمر فى تمام الساعة الرابعة عصرا بالمدينة الرياضية امام استاد 11 يونيو الرياضى  ( يقول عنه الليبيون ان المنتخب الليبى لم يهزم عليه قط )  ، فى تلك الآونة كانت هناك أزمة سياسية ،وإنسانية كبرى ، يتلهف العالم لسماع أخبارها ،وهى احتجاز الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات وتحديد اقامته ومنع دخول الأدوية الخاصة إليه،  الأمر الذى خرجت فيه الشعوب العربية والاجنبية تندد بهذا الفعل اللانسانى ازاء رجل مسن كبير ينهش المرض جسده ، ويفت الألم عظامه ، فضلا عن كونه رئيسا لدولة !!
كنت فى هذه الفترة انا وصديقى المرحوم نجيب الهوش نعد اغنية بهذا الخصوص وللاسف لم يكتب لها الاكتمال،  فقد توقفنا عن استكمال البروفات .
ذهبت إلى المؤتمر فى الموعد المحدد،  فالمسافة بين مسكنى بجنزور ،وبين المدينة الرياضية لا تزيد عن سبعة كيلومترات ، اى خمس دقائق بالسيارة ، اصطحبنى أحد المنظمين من البوابة الرئيسية للمدينة إلى المسرح الكبير  على  يسار البوابة ، وأجلسنى فى مقعد مخصص فى نهاية الصف الأول للمسرح ،  شربت( طاسة ) من ( الشاهى) الأحمر ، وبعد ثلث ساعة تقريبا بدأت وقائع المؤتمر، لا أعرف من الموجودين غير واحد فقط ،وكان مشغولا بالاستقبال و التنظيم ،  الأمر الذى جعل نظرات الحاضرين إلى نظرات ارتياب،  من الذى جاء بهذا المصرى إلى هنا ؟ ومن أجلسه فى الصف الأول؟ ومن يكون ؟ والتزامى بالصمت وعدم التحدث مع المجاورين لى بالكرسي جعل من الشك والارتياب اكثر،  و أحاطنى بغلالة من الغموض .
وبدأت الكلمات من هذا وذلك ، كلها تصب فى اتجاه واحد ، حول ضرورة إيجاد حل لما يعانى منه الرئيس عرفات ، ودارت الرؤى المختلفة حول هذا الحل ، فمنهم من طالب بضرورة إرسال طائرة إلى عسكرية إلى اسرائيل وارغام دول الطوق لمواجهة الموقف، فقوبل هذا بالرفض،  لأن مصر قد لا تسمح ،ومن ثم تسقط الطائرة ويصبح الخلاف مصرى / ليبى .... إلى أخر تلك الرؤى المختلفة ، جاء دورى،  وصعدت على المسرح ،وألقيت قصيدتى ،و التى قوبلت بتصفيق حاد، ومعانقة من بعض الحاضرين.
بعد دقائق دخل لساحة المسرح مجموعة من الرجال الغاضبة،   شق صوتهم الغاضب لحظات الصمت بالمسرح ،و رأيت فيهم الشاعر الصديق السورى  " حسنى " ، والذى يكنى بأبى اسد ، وكان سمينا إلى حد ما ،و صاحب صوت جهورى  ، ابتهجت لما رايته ، أخيرا رأيت احدا أعرفه، سأتحدث إليه فى جلسة الاستراحة بدلا من الوحدة،  أشرت إليه،  فجاء معانقا،  وسألته لماذا هذا الغضب،  فقال : نحن اعتصمنا منذ أيام أمام مقر الأمم المتحدة فى طرابلس،  وأقمنا خيمة للمبيت بها ، تركنا أولادنا نساءنا ،ونمنا بالشارع،  والآن صاحب الخيمة يريد أجرة الخيمة ، ولكن الاخوة فى اللجنة الشعبية( المنظمة لهذا الاعتصام ) لا تريد دفع أجرة الخيمة،  هم يجلسون فى بيوتهم،  يشربون الشاهى والماء البارد ، ونحن بالشارع ولا يريدون دفع ثمن تلك الخيمة،  الأمر الذى جاء بنا إلى هنا ونحن غاضبون لإيجاد حل أو فض هذا الاعتصام ، ونذهب لبيوتنا !!
نظرت إلى أبى اسد وقلت : اخى ! والله انها ليست خيمة، انما هى خيبة ، ندفع الملايين من أجل قناع الوجه،  بينما القلب يعانى من كل الاوجاع و الامراض ، نزين واجهات البيوت ولكنها بالداخل خربة  ، فعلا  " مفيش فايدة  " ، نؤذّن فى مالطة  !!!

محمد سالمان

1/ 3 من دفتر الذكريات 

فى أوائل عام 1992 ، كنت قد اخترت  ( فلسطين فى الشعر المصرى المعاصر ) موضوعا لدراستى للماجستير ، تحت إشراف الاستاذ الدكتور يوسف خليف  ،و د /عبدالله التطاوى ، وكلما تحدثت مع أحد الأصدقاء أو الاساتذة عن الموضوع يحيلنى إلى كتب د/ كامل السوافيرى ( 1914 - 1992) ، هو أستاذ للأدب العربى الحديث  ، فلسطينى الجنسية ، تخصص فى تلك الكتابات والدراسات ، عرفت أن د/ كامل يقيم بالقاهرة ، حصلت على هاتفه ، واتصلت به ، عرفته بنفسي وبدراستى،  رحب الرجل ودعانى للقائه فى العاشرة من صباح يوم الجمعة بكافيتريا غرناطة بمنطقة روكسي بمصر الجديدة،  التقيت بالرجل وسط مجموعة من كبار الأدباء والنقاد والشعراء ، عرفنى يومئذ بالدكتور محمد عبدالمطلب ، ود/ عبدالقادر القط ، والشاعر حسن فتح الباب ، عبدالمنعم عواد يوسف ، شوقى هيكل ، عبد البديع عراق  رشاد يوسف ،وغيرهم ممن ارتبطت بهم بصداقات عميقة وتوطدت علاقتى بهم جميعا .
غرناطة حديقة واسعة بميدان روكسي ،تشرف مباشرة على طريق المترو ، خط رمسيس - النزهة ، بها كافيتريا،  تضع الكراسي المصنوعة من الخوص تحت ظلال الاشجار ، بها جدول صغير للمياة ، تدخلها صباح الجمعة ، تعتقد أنك فى ندوة أدبية كبرى ، المكان ممتلء بشعراء ،ونقاد ،وكتاب،  تسمع قصيدة والتعليق عليها،  تسمع حوارات ،وآراء حول كتاب جديد أو مقال منشور ، أحاديث فى السياسة والأدب والاقتصاد .
ورغم أننى اصغرهم سنا وأقلهم خبرة وعلما،  فانك تجد تشجيعا لصوتك أو تصويبا لرأيك بهدوء وإقناع. 
د/ كامل السوافيرى  ، ابيض الوجه ، تعلوه صلعة،  ممتلىء الجسم ، حاضر الذهن ،يرتدى دائما بدلة كاملة تزينها رابطة العنق ( الكرافتة) ، تشعر بأبوة حانية معه ، لا يبخل بمعلومة،  أهدانى معظم كتبه ، كلما رآنى قادما من بعيد أشار إلى وأفسح لى المجلس ، ألتقط أنفاسي من وعثاء السفر ،وأسمع بعضا مما تيسر سماعه من آراء ونقاشات ، ثم نقوم معا ، ناخذ جانبا نتبادل الحديث حول الدراسة .
ذكر لى د كامل ذات يوم أن من أفضل الشعراء المصريين الذين تناولوا القضية الفلسطينية شاعر غير معروف ،  للعامة ،وربما للمتخصصين أيضا رغم إنه صاحب أول نشيد قومى لمصر ، محمود محمد صادق !!
كنت أول مرة أسمع بهذا الرجل ، ظننته حيا ، لكنه قال إنه متوف منذ سنين ، وأردف قائلا : إن لهذا الرجل قصيدة ملحمية طويلة بعنوان ( رسالة الشعر القومى إلى العالم العربى والشرق  ، مرثية المراثى فى مأساة المآسي ) عدد أبياتها 377 بيتا من بحر الخفيف ، وقافيتها نون مكسورة ، طبعتها دار المعارف المصرية بالتعاون مع الجامعة العربية  عام1949 ،ولكن بكل أسف ان تلك القصيدة غير موجودة بدار الكتب المصرية ، ولا بمكتبة الجامعة ولا حتى بمكتبة الجامعة العربية ! 
ظننت أن الرجل يبالغ فى ندرتها ، فى اليوم التالى ، ذهبت لدار الكتب ،وبالفعل لم أجدها ، ركبت إلى مقر الجامعة العربية بميدان التحرير ، وبصعوبة بالغة دخلت إلى المكتبة ، ولم أفلح فى الحصول عليها ، فليست القصيدة ضمن مقتنيات المكتبة !!
فى الجمعة التالية ، صارحته بالأمر ، معتذرا عن سوء نيتى،  واتهامه بالمبالغة،  ضحك د/ كامل ،وقال : هى عندى بالبيت وعليها الختم الازرق لحكومة عموم فلسطين ، واصطحبنى الرجل من كافيتريا غرناطة إلى بيته بشارع بطرس غالى والذى يبعد نحو مائة وخمسين مترا من الكافتيريا ،  صعدنا معا على درج السلم حيث يسكن فى الطابق الثانى .
أعطانى القصيدة كى أصورها صورة ضوئية ، طالبا نسخة مصورة أخرى له .
ولتبدأ حكاية جديدة مع شاعر ظلمته الدولة، وظلمه الناس، وظلمه أهله،  واهمله النقاد ، ولذلك حديث آخر .