الاتساق والانسجام في اللغة :
استجابة لطلب بعض الطلبة سوف اتناول في هذه المقالة موضوع الاتساق والانسجام في اللغة :
اللغة أداة اتصال بين البشر تحقق غرض التبليغ والتواصل ولذلك كانت محل دراسة وعناية وتحليل من اجل كشف أسرارها وسبر أغوارها ومعرفة مكنونها فحظيت بنصيب وافر من الاهتمام من قبل المختصين في هذا المجال منذ القدم فقد كانت الجملة في بداية هذا الدرس اللساني بؤرة الاهتمام ومركز الدوران واعتبرت الوحدة الأساسية للدراسة خصوصا عند أصحاب النظريات اللسانية لكن الاهتمام الشديد باللغة والتطور الحاصل في جميع العلوم أحدث قفزة نوعية في هذا الجانب ونقل محورية البحث اللساني إلى درجة اعلي مما كان عليه خصوصا قبل أربعة عقود من الزمن تقريبا فتجاوز محورية الجملة في الدراسة لما شملته هذه الأخيرة من نقائص إذ لا يمكن دراسة المعنى منفصلا عن سياقه اللساني المتمثل في البنية اللغوية الكبرى (النص) .
ويعني الاتّساق الكيفية التي يحدث بها التماسك النصي بترابط عناصره وهو مفهوم دلالي يحيل إلى العلاقات المعنوية القائمة داخل النص تمنحه صفة النَّص انية ويشمل مفهوم الاتِّساق هذا عدداً من المنسقات كالإحالات إلى
الضمائر والإشارة والحذف والاستبدال والوصل والاتِّساق المعجمي .
الانسجام في اللغة أصله مِن السيلان وصب الشيء من الماء والدمع ثم نُقِل بالمجاز لمعاني التوافق والتناسب والتلاؤم والتناسق والانتظام وقد أُضيفت هذه المعاني إلى الكلام فأصبح انسجام الكلام يعني توافُقَ أجزائه وعدم تعارُضِها فالكلام المنسجم هو الذي انتظم ألفاظًا وعباراتٍ مِن غير تعقيد وكان سلسًا أنيقًا متوافقًا في الأفكار والشعور والميول و يكاد يسيل رِقةً لعدم تكلُّفه ... وقد أطلَق السيوطي هذا الاسم على النثر المقفَّى الذي يُشبه الشعر وإن لم يَقصِد كاتبُه ذلك .
أما في الاصطلاح فالانسجام له عدة ترجمات في اللغة العربية أشهرها الحَبْكُ والتماسك الدلالي والتنسيق كما نجد عند محمد مفتاح وهو يُعرِّفه بالعلاقات المعنوية والمنطقية بين الجمل حيث لا تكون هناك روابطُ ظاهرة بينها.
ومن أهم ما يحدد هل كانت مجموعة من الجمل تشكِّلُ نصاً متناسقاً هو الترابط النّصي لمكونات النص المتشكّل منها مما يسهم في خلق بنية النص الكلية عن طريق هذه العلاقات والروابط .
ويمثِّلُ هذا الإجراء منهج تحديد نصانية النص فما لم يحقق شروطاً محددةً تجعل منه نصا مترابطاً دلالياً ونحوياً ومعجمياً فإنّه لا يعد نصاً أو أنَّه يفقد جزءاً من شروط النصانية لأنَّه لا بد من تحقيق الاتِّساق النحوي والمعجمي بالدرجة التي تتحقق بها عناصر الاتِّساق الدلالي فإذا افتقر النص إلى مثل هذه الشروط فإنّه يمكن الحكم عليه بالاختلال وعدم الاتِّساق وبهذا فإن الأمر يشبه الآليات المستعملة في نظرية الأفضلية التي تعد من آخر المسائل التي نادى بها علم اللغة الوصفي.
ومن هذا المنطلق نشأ علم جديد يهتم بدراسة النصوص وتحليلها وهذا ما يعرف اليوم بلسانيات النص هذا ما يبحث في تماسك النص حتى يكون وحدة كلية تؤدي أغراض معينة في مقامات تبليغية محددة وقد تميز هذا العلم بحداثته وتنوع موضوعاته فتعددت المدارس اللسانية النصية وظهرت العديد من المصطلحات الخاصة به ومن أهم المفاهيم التي عنيت بها لسانيات النص مفهوما '' الاتساق والانسجام''
اللذان يحتلان موقعا مركزيا في الأبحاث والدراسات التي تندرج في مجال هذا العلم .
فمن أهم ملامح لسانيات النص دراسة الروابط مع التأكيد على ضرورة المزج بين المستويات اللغوية المختلفة وهذا بالاتساق الذي يتضح في تلك النظرة الكلية للنص برصد وسائل الترابط العميق بين الوحدات الجزئية، دون فصل بين هذه الأجزاء.
فلسانيات النص تراعي في وصفها وتحليلاتها عناصر لم توضع في الاعتبار من قبل، وتلجأ في تفسيراتها إلى قواعد تركيبية وقواعد دلالية ومنطقية بحيث تسعى إلى تحقيق هدف يتجاوز قواعد إنتاج الجملة إلى قواعد إنتاج النص إذ لم يعد الاهتمام مقتصرا على الأبعاد التركيبية للعناصر اللغوية في انفرادها وتركيبها، بل لزم أن تتداخل معها الأبعاد الدلالية والتداولية حتى يمكن أن تفرز نظاما من القيم والوظائف التي تشكل جوهر اللغة إذ ليس من المجدي الاهتمام بالوصف الظاهري للمفردات .
فالاتساق والانسجام من اهم المسائل التي تطرحها لسانيات ما بعد الجملة ومن أهم القضايا التي لقيت اهتماما كبيرا من علماء العرب والمسلمين في دراستهم النص القرآني او النصوص الأدبية .
ومفهوم الاتّساق من المفاهيم الجديدة التي دخلت مجال النقد الأدبي فهو يستند إلى المبادئ التي وردت في علم اللغة منذ أن بدأت المدارس اللغوية الحديثة بالظهور وتبلورت على يد العالم السويسري دي سوسير ثم تبلورت نظريات تحليل الخطاب بعد أفول مجد المدرسة اللغوية الإنجليزية وتسلّم المدرسة اللغوية الأمريكية ريادة علم اللغة في العالم فكأن هاليداي ظن أن الإنجليز ما زالوا يقودون الحركة اللغوية الحديثة فجاء بنظرية لتحليل الخطاب ليقول إن العلماء الإنجليز ما زالوا موجودين
ومن الامثلة على الاتساق في القرآن الكريم :
الاحالة
ا-دور الضمائر في السور القرآنية استخدام الضمائر بانواعها الثلاث فتوظف ضمائر الغائب بكثرة في سورة الصافات مثلا ومنه ضمير الغائب-- والسموات والارض وما بينهما ورب المشارق –الاية 50 ونوعها (احالة قبلية ) المحال اليه هو الله
وان هذا لهو ( الفوز العظيم ) ونوعها (احالة قبلية ) والمحال اليه المؤمن
ونجد ضمير المخاطب بقوله تعالى : قال هل (انتم مطلعون ) احالة قبلية
اما ضمير المتكلم بقوله تعالى : (وانا لنحن المسبحون ) احالة قبلية
ب-وفي الاسماء الموصولة بقوله تعالى : ( فأنكم وما تعبدون ) احالة قبلية
ج-واسماء الاشارة بقوله تعالى : بعضهم ( على بعض يتساءلون ) احالة قبلية
د-الضمير المستتر بقوله تعالى : قال هل ( انتم مطلعون ) احالة قبلية
2- الحذف ( التحليل النصي للسورة )
تحليل الايات التي حذف فيها الاسم
انا جعلناها (فتنة للظالمين )
من خلال التحليل نجد ان التماسك بين عناصر الاية الواحدة واضح بدليل مذكور فقد جاء المحذوف من لفظ المذكور ومعناه كما في الاية ( سمعا من يسمعون وقذفا من يقذفون ) فقد حقق الاتساق بين عناصر الاية الواحدة
ب – حذف الفعل : كما في قوله تعالى فالزاجرات ( زجرا ) هنا الحذف لم يقتصر على الفعل وحده بل تعداه الى حذف الفاعل لاننا من الصعب ان نفصل الفعل عن فاعله وهذا النوع من الحذف مع النوع اللاحق من الحذف وهو حذف الجملة وما يميزه الفعل الاظهر ويكون حذف جملة كاملة العناصر .
ج- حذف الجملة او اكثر
ومنه حدف الجملة حذف جملة القسم مثلا وجملة الشرط وجملة جواب الشرط وهناك حذف الكلام بجملته وحذف اكثر من جملة
كقوله تعالى : الصافات (صفا)والتقدير (ورب الصافات ) وهذا الحذف حقق الاتساق في الاية بين كلمة القسم (ورب) وجملة الصافات صفا
3- العطف : التحليل
تتكون سورة الصافات من قصص وكل قصة تتحدث عن قضية معينة وتجتمع كلها في ان قضيتها الاساسية هي التوحيد والعقيدة
وبقوله تعالى : (الصافات صفا ) فالزاجرات زجرا احدث هذا العطف اتساقا بين الاية الاولى وما بعدها
4 – التكرار
ظاهرة التكرار في القرآن الكريم ظاهرة لافتة للنظر...تستريح لوجوده النفس و تتقبله الطبع و يحس المستمع باستجابة له يدرك عمقها وتتميز سورة الصافات ببعض التكرارات تمنح النص خصوصية و تسهم في اتساقه معجميا أفقيا ثم اتساقه معجميا كليا و مثل هذا التكرار بين الترابط و التلاحم وبين عبارات و الآيات و كذلك وحدات السورة مؤكدة بذلك الهدف العام للسورة.
د.غالب القرالة
المراجع :