النزعة الدرامية
في شعر العامية المصرية
( درويش السيد _ عادل عبدالموجود _ محمد جمعة )
*************
الصراع هو أبسط تعريف لكلمة الدراما ، وهو يعني وجود متناقضات بين شيئين أو أكثر ، وهذا التناقض لايعني تناقضا في الشكل فقط ، فلا أعني التناقض بين الليل والنهار أو الخير والشر أو الأبيض والأسود أو غيرها ، ولكن هذا التناقض لابد أن يحمل أثرا نفسيا في عقل المبدع والمتلقي .
كان الشاعر العربي _ قديما _ غنائيا يسير في اتجاه واحد ، فإذا كان حزينا رأى الكون كله حزينا مثله ، والعكس صحيح ، يقول أبو فراس الحمداني :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا هل تشعرين بحالي
أيا جارتي ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
فالشاعر لأنه حزين رأي الكون من حوله حزينا ، بينما الحزن الاكبر والمؤثر في النفوس أن يكون الإنسان حزينا والكون من حوله يكون فرحا ، كما يقول بدر شاكر السياب :
أجنحة أربعة تخفق
أجنحة في دوحة تخفق
وأنت لاحب ولا دار
فالشاعر هنا يرى أن هناك طيورا فرحة وبينهما حب ويمتلكان عشان ، بينما هو كإنسان لا يملك حبا ولا عشا ، ومن هنا تكون المأساة أكبر تأثيرا في النفس .
وقد انتبه شعراء العامية المصرية إلى أهمية ان يكون شعرهم العامي يحمل النزعة الدرامية حيث إن كل فنون القول تصبو للوصول إلى التعبير الدرامي ، فحينما تكون الصفحة بيضاء وأريد أن أزيد بياضها ، فلا أضع لونا أبيض أكثر ، بل يكفيني أن أضع خطا أسود على هذه الصفحة ليتضح لونها الأبيض أكثر بياضا .
فالمتناقضات يظهر بعضها البعض ، فلا يشعر بالعدل إلا من ذاق مرارة الظلم ، ولا يستعذب اللقاء إلا من شرب من بحار الغربة ، وهذا ما انتبه إليه المتنبي العظيم حينما وصف محبوبته بقوله :
الوجه مثل الصبح مبيض
والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
من هنا نرى حرص شعر العامية على مواكبة حركة التطور في الشعر ، وسوف أقدم ثلاثة نماذج مختلفة من شعراء العامية المصرية ، يتميز كل شاعر منهم بلونه الخاص في التناول وبناء النص ، وهم ( الشاعر درويش السيد والشاعر عادل عبد الموجود والشاعر محمد جمعة ) .
*******************
يقول الشاعر درويش السيد
في ديوانه ( تكعيبة عشق ) في قصيدة بعنوان ( مسحراتي ) :
مسحراتي وفارد ع البلد شوقي
ترن الطبلة في عروقي
الحلوة صاحية
وسامعة الندا ولا
اصبر شوية عبال ياحلوة ماتروقي
ياحلوة صحي الولاد السمر وارقيهم
هاتي الكتاب والقلم والحب مليهم
واحد دا يبقى الإله
اتنين انا وانتي
ما انتي اللي حبك امل يكبر ويحميهم
الف الف البلد ليله ورا ليله
والبه بحبك قوي ف الشمس ضليلة
والته تلاته اربعة نتلم حواليكي
ألاقيكي فاردة بحنان طبلية العيلة
مسحراتى وداير بصحى سابع جار
وصى عليه النبى
الصحبه بأستمرار
جبريل نزل له وقال له
ياأمين وصى
الجار لجاره يعيشوا
فى حب ليل ونهار
مدالادين بالسماح
شبكها تبقى بيوت
خلى الولاد الملاح
تتربى ع النبوت
فتح بيبان القلوب
الصحبه والجيره
شرط الاميره تكون
العشره بنت بنوت
مسحراتى وداير
بلعب فى القمر كوره
عشاق جوارى وحوارى
القلب مكسوره
لوكنتى عارف بأن
القلب ده عيل
ماكنت اليل ولا
أعشقها فى الصوره
يابنت يامودده
كيد كادنى
مين اللى قال الفدا
تقبق حروف ودنى
انااصلى عارف بأن
القلب مش خالص
لمى البوالص وخلى
المينا ترفضنى
مسحراتى وقلمى
مشرط العشاق
اكتب اهات القلم
تصبح فى يوم ترياق
واصبر على قفيتى
حبه ورا حبه
وأبدى بزور المحبه
تطرح على الأوراق
شمس الاصيل فتحت
شافت هموم الناس
والبنت اهى اتمرجحت
على ندهة الحراس
انا قرش ناحيه ملك
والناحيه دى كتابه
كدابه لو صدقت
انى هبيع الفاس
*******
كان إبداع فؤاد حداد في المسحراتي يفوق الوصف ، حيث كان يتناول مشكلات وطنه العربي من ماء المحيط إلى ماء الخليج ، بينما تأتي بناية درويش السيد تفوق الخيال في معالجته لموضوعات اجتماعية مهمة ، فالنص يحمل الصيغة التربوية الأخلاقية ، النص تذكرة بما كان وما آن ، هو لايقيم مقارنة بينهما ، لكنه يقيم حلما بأن يعود ما كان ليعيش معنا في حاضرنا ، وإقامة الحلم هو أساس إقامة الحياة ، فالمجتمع الذي لايحلم لا يتقدم ، يعني أنه بلغ السقف المطلوب ، فتوقف عن الحلم ، والدولة المحتلة التي لاتحلم لايمكنها أن تتحرر ، والمجتمع الذي فسدت أخلاقه بدون حلم لن تعود له أخلاقه .
ولهذا أصر الشاعر درويش السيد بأن يحلم ليمزج بين الحقيقة وبين الواقع لكي نحتمل هذا الواقع ، إن الحياة الجميلة في الماضي والحنين إليها يحقق توازنا نفسيا للكاتب والمجتمع ، فهو يحلم بجمال الفتاة النقي ، لا يحلم بجسم ولا جنس ولكن يحلم بجمال في عقله وخصال محبوبته ، يحلم بطبلية ولعب الصبية في الليلة القمراء ، يحلم بحب الجار ، يحلم بأن يتعلم الناس أن الواحد هو الله ، وليس قبل الواحد من أحد ولا بعده من واحد .
نعم الشاعر يفهم أن للشعر وظيفة اجتماعية تربوية وأخلاقية ، وهو يحاول أن يقوم بها ، وفي ظني انه نجح نجاحا مبهرا .
************
أما الشاعر عادل عبد الموجود
فله نص بعنوان ( لو تفهمينى )
يقول فيه :
( قل ما تبقى من قاموسك فى الهوى
فاللغو لا يرفع ذليلا إن هوى
من هان عنده كل ود إن علا
هان علينا واستحق مانوى )
كل أول له نهاية
والنهاية شيء يقينى
وكان ضرورى إنك تقينى
شر أيام المطر
قبل السحاب مايجمعه
فى المفردات الملحقات بالنافية
فى " المش باحبك" او فى " لا "
انا مش هاكمل فى الطريق للمنتهى
ما أصله باين مبتداه
من جحر واحد ألف لدغة معلمه
قلب الفؤاد
ومن الرشاد
اتجنب الجحر الرضى
فبكيفك انت اتمردى
واختارى من الأسباب ألوف
وابقى احفرينى فى جذع مكتوب فيه غياب
وجذوره عطشانه لحنين
فمنين يكون جواك أصلا فيه جنين ؟
وان كان على العشق اللى كان
خلاص ده كان
مجنون بعبلة ... وعبلة ..ايه ؟
شيفاه جنان
ماهو حتى عنتر كان بطل
كمل حياته بالف عبلة من زمان
لكنى فعلا باعشقك رغم الخلاف
رغم المسافة الواسعة بنا والاختلاف
فان كنت فاكرة بانى عايش فى الحياة
ونسيت ملامح ضحكتك والقلب تاه
لا ياحبيبتى الدنيا من غيرك فلاة
باستنى طرح الصبر من ريح الزمن
وعشان خطايا الذنب لازم من تمن
فيظل جفنى يضل جفنى للقا
وانت البصيرة مشرنقة
فاعيد مشاهد من سيناريو كان ضرورى تتكتب
وكان ضرورى تكون مناسبة للبطل
أو انه لازم يعتزل من وقت فات
ماهو مش مهم يكون أمير
وبيان مزركش للخلايق بالحرير
ماهو دوره كان يادوب سند
كان دور حقير
واكمن دوره فى الرواية كان يعدى كالخيال
وماكانشى له تأثير كبير
يادوب يفوت عليه السهو
يلمس وحدته
فما تقبليش منه الصلاة
والسجدتين مش محتاجاهم فى الحياة
ماهو أدى دوره وحط فيك مش سند
ألفين سند
وانا المقسوم
فى جوايا إلى شطرين
وجود فاعل بيتفاعل
مع الامرين
يكون ازوريس
بيزرع فى الشجر يطرح شيطان من ست
فتشقى ازيس
وتزرف من الدموع على الخير
وجود تانى فى بير يوسف
ومستنى
لوقت تمر سيارة
عشان يتباع
بكام لحلوح
يكون قدرى لأي عزيز
لكنى برضه باعشقك
لو تنصبي لى من الحيل
تمثال هبل
بيعيد زواقك ويا فستان الزفاف
لعريس جديد
مدهون دهب فتهمى عنى وتبعدى
زلزلى
زلزلى أرضك خلاص شمسك طفت
كونك ماعادش بينسكن لما اختفت
والروح عشان اتهمشت راحت بكت
تستنى طرح الأمكنة بس بحذر
وقت اما قلتى ها نفترق لو تفهمى
كان شطرتين العشق توأم توأمى
يبقى انفصال الروح بيوجع بالقوى
الحبة جوة الحبة واحد وانشطر
قلبك ساعات بيدق طلقات الخلاص
طب فين رصاص الرحمة ينزل كالمطر
والطلق يفلق من الحجر قلب الحجر
يملاه مرار و الجرح علم واتحفر
يالابسة وش العشق تحته الف راق
بوشوش مارقت للهوى من يوم ماراق
من يوم ليوم بتعندى
ولألف عذر بتسندى
فإن كان هواكى تبعدى
يالله ابعدى
واهو برضه هافضل اعشقك
ما انت الحياة
وانت اللى ضلك جوة منى لمنتهاه
اعيد ملامح ضحكتك وارجع وليد
يازرع فارد للسما ف كل اتجاه
**************
هنا يوضح الشاعر كيف يكون شعر العامية فلسفيا مدركا للحقائق ، فهو يرى العالم مجتمعا في المكان والزمان ، فبئر يوسف وسيارة العصر القديم وبحر إيزيس وأوزوريس ، ومحاولات تجميع الاشلاء المتناثرة ، وغربة عنترة وعبلة ، كلها غربة قديمة جديدة ، فغنى العزيز يقابله فقر الفقير ، وعلو همة يوسف يقابلها السعر الزهيد
( كام لحلوح ) ، والقصة القديمة تحولت لسيناريو ، فإذا كان عنترة وعبلة كلمات قديمة ذهنية ، فإن الشاعر حادثة نشاهدها بأعيننا ، فكل ماكان معلوما سماعيا أصبح مشاهدا عينيا ، هنا قمة الفلسفة ، حين تصبح كل الأماكن مكانا واحدا ، وتصبح كل الأزمنة متداخلة لتصير زمنا واحدا ، كان بودي أن تتاح لي الفرصة كاملة للحديث عن بناء القصيدة العامية ، وكيف تصبح القصيدة العامية مجسدة في المجتمع شأنها شأن أفراد المجتمع ، فهنا قصيدة عادل عبد الموجود ترسم نفس ملامحه ، في الحركة الحثيثة ، والكلمة الرقيقة ، والثورة الصامتة ، نفس الإحجام والإقدام على استحياء في كلتا الحالتين ، لو رسمت القصيدة شخصا دون معرفة شاعرها سوف يكون الرسم وجه عادل عبد الموجود ، كيف يكون ذلك ؟ وكيف رأيت أنا هذا ؟ يمكن أن نوضح هذه النقطة في حديثنا داخل المؤتمر بامر الله تعالى .
**************
وللشاعر محمد جمعة
نص بعنوان ( زحمة افكار ) يقول :
********
زحمة افكار جوه دماغي
عملالي دمار جابت داغي
منها عن حالي الغير عادي
زحمة افكااااار
راضي بموالي و مش راضي
حادي بادي ف حضنك بلادي
نتأخر نلزق في الماضي
دا بقى استهتااااااار
والمحشي النحشي كونحشي
واللي بيفوت ما بيرجعشي
طب قولي الطز ازاي تخرج
بره المضماااااار
ريحة الأسعار قلبت مخي
والفته المطبوخه بيخني
مع بصله وتومها مدوخني
مع فلفل حاااااااار
والسوق ... السوق الجواني
و الفاكهه بتزغلل عيني
لو اطولها اخطفها و ل ولادي
اديها فراااااار
وسياسة الناسه كواناسه
عنبتنا وطرحت قلقاسه
والكل بيلحس في الكوسه
ما فيهاش دي هزاااار
بمزاجي ألاعبك وانهبني
وح اسيبك دايما تغلبني
بس تريحني و على مهلي
وخليني اختاااااار
مسموح لي امشي أو اهرول
واسأل ليه بكره كتير طول ...؟
وكأن الطالع دا مدهول
يمكن فشااااار
اديني الشايب انا راضي
واسقيني من الكوز الفاضي
مرمطني وقولي انت رياضي
من غير إنذااااار
قعدني ف كوشه و جوزني
واسقيني الجوزه ومزجني
طلع دخاني وعذبني
وبلاش إشهاااااار
سخني و ارجع بردني
حليني شويه ومررني
بعني أو اقلك أجرني
جربني إيجاااااار
شخلعني و علقني ب لحمي
على كيفك صد و مرجحني
و اتوكل قبل ما تدبحني
طلع لي قرااااار
ادفني صاحي بمصباحي
اردم احزاني وافراحي
بس اوعي تمزمز ف جراحي
بكفايه مرااااار
حرر افكاري و حررني
وإعلف في حماري وخدرني
سوقني ما انا شايف وبضهري
آخر المشوااااار
إدعي ف صلواتك تعدمني
إرمي جمراتك و ارجمني
وإن عشت ..... بايدك بهدلني
ماهي دي الأقداااار
امنحني بطاقة ودعمني
تموين بعباطة يشيل همي
و احذفني وشيل خالتي وعمي
و ارميني ف نااااار
امنح بيمينك قبضني
بشمالك خدهم نفضني
شطب في جيوبي وقرقضني
ما هي قط و فااااار
فرقني وارجع قسمني
م انا عايز ( كومي) يلازمني
رغم انه ف ايدي بتهزمني
ماهو دا استحمااااار
فرفشني بكورة أو إنعشني
دوري مع كاس كله بيمشي
مع اهلي ... زمالك تناغشني
في الجون إبهااااار
مصري .... وبحبك يا بلادي
لكن غيلانك أصفادي
انا عشمي ف خيرك يا فؤادي
من غير اسراااار
*************
شعر محمد جمعة نوع من الكوميديا السوداء ( شر البلية مايضحك )
يقدم مفردات اجتماعية سياسية اقتصادية رياضية ثقافية ، ويلعب على وتر الخفة والفكاهة ، ويعيد لنا نقدات بديع خيري وفتحي قورة في أسلوب بيرم التونسي ، فالشاعر يقدم نصه على أنه أفكار كثيرة داخل رأسه لاتجد لها مكانا ، فلابد أن يجعل المتلقي يشترك مكانه في البحث عن أماكن لهذه الأفكار ، هو يعلن منذ اللحظة الأولى أن هذه الأفكار مجهدة وليست مغرية ، ومتعبة وليس في سردها لطف ولا رقة ، لكن كثرتها جعلته يبوح بها
إن العذابَ يُطاقُ غيرَ مُضاعفٍ
فإذا تضاعفَ صارَ غيرَ مُطاقِ
نعم الشاعر هو قمر بلاده الذي يعكس ضوء الحياة في مجتمعه على صفحته ، ومحمد جمعة ينقل صوتا اجتماعيا ناصحا أمينا واضحا بلا مواربة لكل من حوله ، فهو يتحدث عن ذات مجتمعية لا عن شخصية شعرية ، وهذا ما يدعو له النقد دوما ، أن الشاعر مسئول أمام الله ، لأن الشاعر ضمير الأمة ولسان ينطق عمن لا يجيدون الكلام ، وعين ترى الطريق لمن عموا ، وأذنا تسمع نيابة عمن صموا ، وقلبا ينبض بالحب للجميع ، هكذا كان شعر محمد جمعة .
**********
ستظل العامية المصرية لسان حال الوطن العربي وبخاصة شعب مصر ، فالعامية المصرية هو صوت الضعفاء إذا ظلموا ، وحاجة الفقراء إذا طلبوا ، ونداء المخلصين إذا نصحوا .
شكرا للشعراء المصريين / درويش السيد وعادل عبدالموجود ومحمد جمعة الذين أمدوني بأشعارهم لأكتب هذا الدرس ، وشكرا للشاعر المصري العظيم محمد البهنساوي رئيس شعبة العامية المصرية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر ، فإن وفقت فهذا من فضل ربي ، وإن كان غير ذلك فهو جهد المقلين اجتهدوا وعلى الله السداد .
***********
د.رمضان الحضري